يوسف أيوب يكتب: رسالة مصر للعالم: الحق في الحياة يسبق الحق في التنمية
السبت، 10 يوليو 2021 09:00 م
الدولة المصرية تُقدر وتتفهم متطلبات التنمية الإثيوبية لكن لا يجب أن تكون على حساب الأخرين
الهدف هو الوصول لاتفاق دولى قانونى ملزم لملء وتشغيل سد النهضة بحلول سلمية تضمن حقوق مصر والسودان وإثيوبيا ونزع فتيل أى توتر
السبت الماضى، وعلى هامش افتتاح قاعدة 3 يوليو البحرية، حدد الرئيس عبد الفتاح السيسى الموقف المصرى الثابت تجاه المراوغات الإثيوبية المتعددة والمتكررة تجاه مفاوضات سد النهضة، وقال الرئيس السيسى أن "الدولة المصرية تُقدر وتتفهم متطلبات التنمية الإثيوبية لكن مع ضرورة الا تكون تلك التنمية على حساب الأخرين، وذلك النهج هو ما أصرت عليه الدولة المصرية على مدار العشر سنوات الماضية مع الجانب الإثيوبى، وهو الوصول لاتفاق دولى قانونى ملزم طبقا للأعراف والثوابت الدولية، وهذا الأمر يحتاج للدعم من الأصدقاء والاشقاء، فلا يجوز أن يستمر التفاوض إلى مالانهاية".
وفى رسالة تحمل الكثير من المعانى والتفاصيل، أكد الرئيس السيسى أن "مصر لم تهدد أحداً على مر التاريخ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وذلك على الرغم مما تملكه من قوة عسكرية ظهر منها جزء بسيط في المناورة العسكرية".
كانت هذه ولا تزال الاستراتيجية التي تسير عليها مصر وهى تتفاوض في ملف السد الإثيوبى، وعلى الرغم من المراواغات الإثيوبية المتكررة والتي تكشفت تفاصيلها للعديد من الأطراف الدولية والإقليمية، الا ان مصر لم تتراجع عن موقفها، وواصلت سياستها القائمة على مجموعة من الأسس والمبادئ المعلنة منذ اللحظة الأولى لتفجر أزمة سد النهضة، قوامها الاساسى أن مصر تؤمن بل تدعم حق إثيوبيا في التنمية، لكن لا يجوز لهذا الحق ان يطغى على حق المصريين في الحياة، والحياة بالنسبة لنا هي مياه النيل، التي تتناقص سنوياً بفضل عوامل جيولوجية.
فمصر تؤمن دائما بأن تعزيز المصالح المشتركة مع أشقائها في دول حوض النيل يعتبر أمر حتمی، من أجل تحقيق المصالح المشتركة ودون أن تفتئت دولة على حقوق الأخرى، وتسعى مصر انطلاقا من ذلك إلى تعميق التعاون المثمر بينها وبين أشقائها في دول الحوض من خلال عدة مجالات منها الموارد المائية والرى (بناء سدود حصاد الأمطار - حفر آبار المياه الجوفية - مقاومة الحشائش المائية - تأهيل القنوات المائية). واتصالا بذلك، لم يسبق لمصر أن قامت بالاعتراض على بناء أي سد على روافد نهر النيل إتخذت بشأنه المبادىء القانونية ذات الصلة قبل تنفيذه، وذلك وفقا للمبادئ الراسخة في القانون الدولي والتي تحكم استخدام الأنهار المشتركة.
ورغم حاجة مصر المستمرة للمياه، الا إنها لم تطلب من الإثيوبيين حتى الآن أكثر من الحصة المتفق عليها تاريخيا والمقدرة بـ55 ونصف مليار متر مكعب، وتعمل الدولة المصرية في الداخل على تسيير أمورها وفق هذه الحصة التي يدرك الكثيرين أنها لا تكفى الاحتياجات المصرية، لذلك فإن أي محاولة إثيوبية لتقليل أو اللعب في هذه الحصة لن يكون مقبولاً بأى شكل من الأشكال، لذلك فقد حرص الرئيس السيسى منذ 2015 وقت توقيع اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم بحضور قيادات مصر والسودان وإثيوبيا، والذى تلاه ذهاب الرئيس السيسى لإديس أبابا والقاء كلمة تاريخية أمام البرلمان الإثيوبى، كان ولا زال الرئيس حريصاً على مد يد التعاون والسلام للأشقاء في إثيوبيا، طارحاً مبادرة أن يكون السد بداية لتعاون بين الدول الثلاثة، يؤدى إلى إحداث التنمية بهما، لا ان يكون مصدر صدام أو خلاف، لكن من الواضح أن القيادة الإثيوبية التي أدمنت المراوغة لا تريد ان تسير في طريق السلام، واختارت الصدام.
الرد على الأكاذيب الإثيوبية
ويلاحظ أن القيادة الإثيوبية وهى تتحدث عن سد النهضة، تستخدم الأكاذيب للتدليل على موقفها المراوغ، رغم يقينها أن كل ما تقول به لا يصدقه أحد، بل أن المجتمع الولى بات مدركاً لحقيقة إن إثيوبيا لا تريد الالتزام بأى أتفاق أو مواثيق دولية، بل هدفها الاساسى ان تفرض إرادتها المنفردة على الجميع، بل وصل بها الأمر إلى درجة محاولة دق اسافين بين مصر والسودان، خاصة حينما تأكد الأشقاء السودانيين من خطورة السد الإثيوبى عليهم وعلى امنهم المائى، فوقفوا في وجه إثيوبيا، لكن لإن السودان أدرك كل الحقائق فإنه أفشل كل المحاولات الإثيوبية، وبات الموقف السودانى اليوم شديد الوضوح، وعبر عنه منذ أيام وزير الري والموارد المائية السودانى، الدكتور ياسر عباس، الذى أكد رفض الخرطوم القاطع لمناقشة حصص المياه من خلال مفاوضات سد النهضة مؤكدا انها مخصصة للملء والتشغيل فقط.
وقال عباس أن السودان دعم سد النهضة من الوهلة الأولى لأن لإثيوبيا الحق وفق القانون الدولي للمياه وللفوائد المتوقعة للسودان من السد، مشيرا الى ان المفاوضات محصورة في عملية الملء والتشغيل فقط خلال ما يقارب (10) سنوات، لكن أثيوبيا غيرت موقفها من شهر يوليو 2020 وبدأت تتحدث عن حصص مياه وهذا ما رفضه السودان بصورة واضحة، باعتبار أن المفاوضات للملء والتشغيل فقط.
وأكد الوزير السودانى أن بلاده لن يدخل في أي جولات تفاوض ما لم يتم الاتفاق على تغيير منهجية التفاوض، وأن يتم منح دور اكبر للمراقبين و الخبراء، ورأى أن قضية سد النهضة تعقدت وأصبحت سياسية أكثر من كونها فنية، مؤكداً أن هناك تخوف سودانى بأن تتحول فوائد سد النهضة إلى أضرار وكوارث إذا لم يتم توقيع اتفاق قانوني، وقال أن أثيوبيا اتخذت بالفعل قرار الملء في يوليو وذلك بالبدء في البناء في الممر الأوسط مع وجود فتحتين سفليتين متوسط تصريفهما 90 مليون متر مكعب في اليوم، مطالباً بضرورة ممارسة الضغوط الخارجية على أثيوبيا حتى لا يتم الملء من جانب واحد وأن تعود اثيوبيا للمفاوضات للوصول إلى اتفاق يرضي جميع الأطراف.
التبرؤ من الاتفاقيات التاريخية جريمة
ولكى تكون الحقائق واضحة أمام الجميع، فعلينا أن نعود إلى الوراء، وتحديداً الاتفاقات التاريخية التي تحاول إثيوبيا الهروب منها، وهنا اشير إلى مجموعة من الاتفاقيات التي تؤكد أن الموقف الإثيوبى ليس فقط متعنتاً، وإنما يضرب بالمواثيق والاتفاقيات الدولية عرض الحائط.
من واقع قراءة تاريخ الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل، سنجد أن هذا النهر يعد أكثر الأنهار الدولية التي جرى بشأنها التوقيع على اتفاقيات تحدد استخدامات مياهه، بين الدول المطلة عليه، ومنها على سبيل المثال البروتوكول الموقع بين بريطانيا وإيطاليا عام 1891 بشأن نهر عطبرة، وكذلك اتفاق بين الكونغو المستقلة وبريطانيا عام 1894 بشأن تحديد مناطق النفوذ وعدم إقامة أي أشغال على نهر السميليكى ونهر اسانجو تخفض من قيمة المياه التي تتدفق على بحيرة ألبرت، وكذلك المعاهدة بين بريطانيا وايطاليا وإثيوبيا في 1902 بشأن نهر السميليكى ونهر اسانجو، واتفاقية ديسمبر 1906 بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا بشأن دخول مياه النيل الأزرق وروافده والنيل الأبض لمصر، وامتياز إنشاء خزان على بحيرة تانا، وأيضاً اتفاقية مياه النيل 1929 بين مصر وبريطانيا العظمى نيابة عن السودان وكينيا وتنزانيا وأوغندا، بشان عدم أقامة أي أعمال رى أو توليد قوى ولا تتخذ أي إجراءات على النيل وفروعه والبحيرات التي ينبع منها، من شأنها انقاص مقدار المياه الذى يصل إلى مصر أو تغيير مواعيده أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق الضرر بمصالح مصر.
ويضاف إلى هذه الاتفاقيات أيضاً الاتفاق بشأن إنشاء خزان أوين بأوغندا عام 1949، 1953 بشأن التعاون بين مصر وأوغندا في بناء خزان أوين على بحيرة فيكتوريا، وذلك بإنشاء محطة لتوليد الكهرباء بأوغندا والتخزين لصالح مصر خاصة قبل بناء السد العالى، وأيضاً اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل بين مصر والسودان الموقعة عام 1959، واتفاق بين مصر وأوغندا لتنفيذ مشروع توسيع محطة كهرباء خزان أوين في مايو 1991، واتفاق مصر وإثيوبيا 1993 بشأن عدم قيام أي من الدولتين بعمل إى نشاط يتعلق بمياه الميل يسبب ضرراً بالأخرى.
هذه الاتفاقيات بها من الوضوح ما يؤكد عدم مشروعية بناء سد النهضة دون التوصل إلى اتفاق بين الدول الثلاثة "إثيوبيا" باعتبارها دولة منبع، ومصر والسودان باعتبارهما دولتى مصب، فهذه الاتفاقيات تؤكد التزام الجميع بعدم أقامة أي أعمال رى أو توليد قوى ولا تتخذ أي إجراءات على النيل وفروعه والبحيرات التي ينبع منها، من شأنها إنقاص مقدار المياه الذى يصل إلى مصر أو تغيير مواعيده أو تخفيض منسوبه على أي وجه يلحق الضرر بمصالح مصر، لكن للأسف الشديد تعمل إثيوبيا عكس كل ما وقعت عليه، بل أنها تخالف المواثيق الدولية المتفق عليها بقولها أن هذه الاتفاقيات جرت خلال عهد الاحتلال وإنها غير ملزمة بها، وهو قول لا أساس له في القانون الدولى.
وإمعانا في تعنتها فإن إثيوبيا أيضاً لا تريد الالتزام بما تم الاتفاق عليه في اجتماع لجنة الرؤساء الافارقة المعنية بتغير المناخ، التي عقدت فى 26 سبتمبر 2015 بنيويورك، والذى انتهى إلى إطلاق واعتماد وثيقة عمل المبادرة الأفريقية للطاقة المتجددة، التي تحظى بمشروعات تعتمد على القوى المائية، وضمنت الوثيقة حق تنفيذ المشروعات والأنشطة فقط التي وافقت عليها جميع الدول المعنية والمتأثرة، كما تم إعداد إطار عمل مبادرة أخرى وهى "المبادرة الأفريقية للتكيف"، والتي تتميز بأنها مبادرة أفريقية المنشأ والملكية، وتعمل على خلق شراكات مع شركاء التنمية والبرامج لدعمها، وخلق التآزر بينهم لتمكين القارة من الحصول على نصيبها من التمويل في مجال التكيف.
التقارير الدولية تؤكد ان مصر من أكثر الدول جفافا في أفريقيا وعلى مستوى العالم
هذا فيما يتعلق بالقانون الدولى والتاريخ، وإذا القينا نظرة إلى الاضرار التي ستصيب مصر من جراء التعنت الإثيوبى، يكفى هنا الإشارة إلى التقارير الدولية التي تؤكد ان مصر تعتبر من أكثر الدول جفافا في أفريقيا وعلى مستوى العالم، كما تعد مصادر المياه بها محدودة جداً، ومعظمها يأتي من خارج البلاد، حيث تقدر نسبة الاعتمادية على الموارد المائية الخارجية 97.7%، ونظراً لمحدودية الموارد المائية تسعى مصر لتعظيم الاستفادة من كل قطرة مياه، حيث يقدر اجمالى موارد مصر المائية المتجددة بنحو 56.8 مليار متر مكعب سنوياً، منها 55.5 مليار من مياه النيل، فيما تمثل كمية الامطار المحدودة 1.3 مليار، أي 2.3% من نسبة الاعتمادية على الموارد المائية في مصر.
وتحاول مصر منذ فترة التغلب على هذه المشاكل من خلال الكفاءة الكلية لنظام الرى، رغم استمرار الاعتماد على طرق الرى التقليدية فى بعض المناطق، ويرجع ذلك إلى أنه يتم إعادة استخدام مياه الصرف بعد معالجتها أكثر من مرة وبكمية تقارب 21مليار متر مكعب في السنة، حيث تقدر الأرقام احتياجات مصر المائية الحالية للزراعة بـ61 مليار متر مكعب سنوياً، علماً بأنه من المنتظر أن تقل كمية المياه المتاحة للزراعة في المستقبل نتيجة زيادة السكان مع ثبات الموارد، مما سيؤثر سلباً على الفجوة الغذائية والعائد من الزراعة في الناتج القومى ومعدلات العمالة في مجال الزراعة.
وتعرف ندرة المياه عالمياً عندما يكون نصيب الفرد أقل من 1000 متر مكعب سنويا من المياه المتجددة، ويبلغ نصيب الفرد في مصر حالياً 570 متر مكعب سنوياً، مما يضع مصر في مصاف الدول التي تواجه ندرة مائية، ومن المتوقع بحلول 2025 أن تقترب مصر من حد الشح المائى "500 متر مكعب سنوياً".
هذا هو الوضع بالنسبة لمصر، واذا قارناه بدول حوض النيل سنجد أن مساحة حوض النيل تبلغ حوالى 3.1 مليون كيلو متر مربع، وهو ما يمثل 10% من مساحة أفريقيا، وتقع 11 دولة على طول الحوض، وهم بوروندي والكونغو الديمقراطية ومصر وإريتريا وإثيوبيا وكينيا ورواندا والسودان وجنوب السودان وأوغندا وتنزانيا، وداخل هذه الدول يعيش أكثر من 488.8 مليون نسمة من بينهم 240 مليون يعيشون داخل حوض النيل، وحوالى 40% من العدد يعيش داخل مصر وحدها، ويتراوح معدل تساقط الأمطار سنوياً ما بين 1660 إلى 2000 مليار متر مكعب على حوض النيل.
وتقدر إجمالي المياه بحوض الميل بحوالي 3.40 تريليون متر مكعب من المياه، تحتفظ إثيوبيا بحصة كبيرة منها، تقدر بـ 150 مليار متر مكعب موزعة ما بين "55 مليار في بحيرة تانا، و10 مليار بسد تكيزى، و3 مليار بتانا بالس، و5 مليار بـ فنشا وشارشارا ومجموعة من السدود الصغيرة، و74 مليار بسد النهضة"، بالإضافة إلى إمكانيات المياه الجوفية المقدرة بـ40 مليار سنوياً، وتقع في أعماق من 20-50 متر فقط من سطح الأرض، وهى عبارة عن مياه متجددة، في حين تعتبر المياه الجوفية في صحارى مصر مياه غير متجددة وتقع على أعماق كبيرة تصل لمئات الأمتار.
هذه بعض الحقائق التي كانت بحاجة لتوضيح للرد على كل الأكاذيب الإثيوبية، مع التأكيد أن الموقف المصرى واضح بأنها تسعى إلى التوصل لاتفاق ملزم بشأن ملء وتشغيل سد النهضة من خلال حلول سلمية وهذه مسئولية مجلس الأمن لتعزيز المسار الإفريقي، ومن خلال رصد التحركات المصرية الأخيرة سنجد أنها نجحت في إبراز قضية سد النهضة في المحافل الدولية، وكذلك تعزيز مسارات المفاوضات تحت رعاية الرئاسة الإفريقية في إطار جديد ييسر على الأطراف الثلاثة التوصل إلى اتفاق من خلال المساهمة التى يمكن أن تقوم بها الأمم المتحدة والمراقبون بحكم الخبرة والإمكانيات المتوفرة لديهم.
وكما قال وزير الخارجية سامح شكرى: "نسعى للوصول إلى حلول سلمية تضمن حقوق الدول الثلاث ونزع فتيل أى توتر أو تصعيد، وهذه مسئولية مجلس الأمن أن يعمل من الدبلوماسية على تعزيز هذه الأمور"، أخذاً في الاعتبار إن الدولة المصرية بجميع مؤسساتها وعلى رأسها القيادة السياسة والرئيس عبد الفتاح السيسى تعطى قضية سد النهضة أولوية قصوى، نظرًا لارتباطها المباشر بالأمن القومى المصرى ومصلحة الشعب المصرى، كما أن كافة أجهزة الدولة تقوم بتنسيق كامل، وتناول كل الأبعاد المختلفة لقضية سد النهضة، لإن هذه القضية وجودية لا يمكن التهاون فيها وكل الأجهزة والمؤسسات المصرية منخرطة فيها بإخلاص وتفهم.