«القاهرة كابول».. دراما حية تحكي التاريخ والواقع
الأحد، 02 مايو 2021 06:00 م
الدراما "محاكاة فعل جليل".. هكذا يقول أرسطو، وهي إحدى الفنون المعبرة عن الإنسان، هى وسيلة هامة من وسائل الترفيه، وأيضا إحدى القوى الناعمة المهمة فى بناء الوعى المجتمعى أحيانا، وشحذ الهمم والحماس الوطنى فى أحيان أخرى.
والفن المصرى ملىء بالعديد من هذه النماذج، ولعل ذلك يتفق مع ما قاله المفكر الأمريكي الشهير جوزيف ناى، عن دور الفن كأحد القوى الناعمة في حياة الشعوب "الدراما الوطنية ليست مؤرخاً يسجل ما جرى، بل عمل فنى يقدم رؤية متكاملة تحاكى التاريخ حيناً والواقع أحياناً، ولكنها تستهدف المستقبل دائماً، وهى وسيلة إقناع قوية للجماهير فى الداخل والخارج".
وجاء مسلسل "القاهرة كابول" للمؤلف عبد الرحيم كمال، والمخرج حسام على، من هذا المنطلق، إذ يحاكى العمل الواقع، مستلهما من المحطات التاريخية أحداثا ومواقف ليربط بينها وبين الواقع، ليكون بمثابة مرآة، ويلعب دور المؤرخ والموثق، مقدما لوحات فنية ترسم أحداثا وحكايات ربما لا يكون قد عاصرها البعض، لكنه تحفر في مخيلة الشعوب الجماعية وذاكرة الناس الفنية.
وجاء مسلسل "القاهرة كابول" من بدايته زاخراً بالأحداث والمواقف التاريخية المهمة، كذلك ذكر على لسان أبطاله خاصة شخصية "رمزى" أمير إحدى الجماعات المتطرفة الذي يجسده الفنان طارق لطفي، العديد من المصطلحات المهمة الذى يستخدمها المتطرفون بالباطل، كذلك ظهر فيه العديد من الكتب التي طعم بها المؤلف الفكر الذي يحاول أن يطرحه من خلال العمل.
"القاهرة كابول".. أحداث تاريخية
حاول المسلسل التأريخ للتغيير الذي شهده المجتمع، وطعم رؤيته بالعديد من المشاهد التى لم تأتِ على سبيل المصادفة ليؤكد فكرته، فانطلق من وفاة الزعيم جمال عبد الناصر، من مشهد جنازته المهيب، كذلك ظهر القيادى الإخوانى والأب الروحى للجماعة الإرهابية سيد قطب، والذي يستلهم الكثير من المتطرفين أفكارهم من رؤاه الذي طرحها فى عدد من كتبه، كذلك ظهرت لقطات سريعة للرئيس الراحل أنور السادات، شهيد الإرهاب.
واتخذ عبد الرحيم كمال من بعض الأحداث التاريخية التى مرت بها البلاد خاصة فى مطلع السبعينيات كنوة للتغيير الكبير الذى شهده المجتمع المصري، والتغيير الكبير فى التركيبة المصرية والتأثير على هويتها من خلال اختراق الفكر الوهابى، فنجد كيف تم مزج بعض المشاهد الأرشيفية لجنازة أم كلثوم بنشأة أحد أبطال العمل وهو "الشيخ رمزى" (طارق لطفى).
وكيف كان رمزى الصغير حزين مثله مثل جميع المصريين بعد فقدان سيدة الغناء العربى، ويرغب فى الخروج فى الشارع ليودعها، قبل أن يوقفه أحد جيرانه ويدور بينهم حوار صغير ينتهى بأن الغناء حرام.
ويأتى في الخلفية صوت أغنية كوكب الشرق "أنت عمرى"، ليكون شاهدا على حال الطفل الصغير الذى تحول إلى متطرف كبير يكفر الجميع ويحرم الفن والإبداع، وهى صورة للتحول الذى حدث للمجتمع المصرى.
وفى الحلقة الأولى من المسلسل أيضا، وبينما يعرض المخرج خالد عبد الرحمن الذي يجسده الفنان أحمد رزق، فيلمه الوثائقى عن الإسلام السياسى فى إحدى الدول الأوروبية، تطرق "خالد" لحادث اغتيال الشيخ الذهبى، وزير الأوقاف الأسبق، على يد عناصر من المتطرفين فى الثالث من يوليو عام 1977.
وهنا حكى المفارقة التى مر بها وفكر فيها، فكيف لمتدينين فكريا كما يدعون أن يقتلوا شيخا أزهريا وعالما جليلا مثل الشيخ الذهبى، وهي المفارقة التى وقف عندها العمل ليظهر تناقضات الإسلام السياسى وفكر الحركات الجهادية.
"القاهرة كابول".. الفن فى مواجهة الإرهاب
في الحلقة الأول ظهر النجم الراحل نور الشريف في لقطة سريعة أثناء تواجده في جنازة أم كلثوم مع العديد من الفنانين ومحبي كوكب الشرق ممن حرصوا على تشييع الجثمان، وبعدها ظهر الفنان عادل إمام فى لقطة أثناء عرضه مسرحية في صعيد مصر بمحافظة أسيوط، بعد إحدى الجرائم الإرهابية هناك.
ويبدو أن المسلسل ربط بأن الفن بوصفة حائط الصد الأول ضد الإرهاب، بارزا الدور الذي لعبه النجوم فى مواجهة الفكر الأصولى.
كذلك ألمح المؤلف إلى الوجه الإرهابى الكاره للإبداع، خاصة فى تركيبة الشيخ رمزى (طارق لطفي) الذي تحول من شاعر مرهف الحس يكتب كلمات مثل "كوني خيلا يعدو بى فى عمر اللحظة.. صحراء كبرى.. تفصل بين الله وبينى" إلى متطرف يقتل حتى أقرب الناس إليه، وهي إشارة للكثير من قيادات الجماعات المتطرفة الروحية ومنهم سيد قطب ذاته الذي تحول من ناقد وروائى إلى مُنظر تكفيرى.
كتب التراث حلقة صراع مصري
المؤلف عبد الرحيم كمال معروف بنزعته الصوفية، وهو ما يظهر فى الكثير من أعماله لعل أبرزها "الخواجة عبد القادر" مع النجم يحيى الفخرانى، ومن هنا أيضا ظهر فى مسلسل "القاهرة كابول" نزعة صوفية خاصة فى شخصية الفنان نبيل الحلفاوى، إذ يظهر فى غرفته بورتريه لابنه وبجواره أحد كتب الصوفية، يحمل صورة العلامة جلال الدين الرومى، ربما فى صورة تجسد تركيبة المصريين المحبين للصوفية والمرتبطين بآل البيت وهو فكر أبعد ما يكون عنه المنتمين لحركات الإرهاب، الرافضة لزيارة أضرحة الأولياء من الأساس.
كذلك ظهر الفنان فتحى عبد الوهاب الذى يجسد دور إعلامى يدعى طارق كساب، في الحلقة الثالثة يتحدث عن كتاب "the politics of non violent actions" للكاتب الأمريكي جين شارب، وهو كتاب من 4 أجزاء حول العمل السياسي بعيدا عن العنف، وهو يفكك الفكر الإرهابى ويكشف تناقضات جماعات الإسلام السياسى، الذى تمارس العنف من أجل الوصول إلى أغراضها السياسية الدنيئة رافعة لواء الدين.
كما ظهر فى الحلقة الرابعة من أحداث المسلسل، "على" شقيق خالد الصاوى الذى يجسده الفنان "كريم سرور"، حيث يقابله أحد الباعة "خالد كمال" على المقهى ويمنحه كتاب "الملل والنحل" ويناقشه في مضمونه ويؤكد له أنه كتاب مهم ويوعده بأنه سيمنحه كتابا آخر بعد ينتهى منه، وهنا ظهرت واحدة من نماذج توظيف اسم الكتاب لتحقيق مفارقه حوارية، فحين يهدى المتطرف كتاب (الملل والنحل) للشاب داخل المقهى يرد الأخير قائلا: متشكر علي (المَلل و النَّحل)، فى إشارة إلى سخافة المتطرف، وهى مفارقة تتصل بتعمد اختيار عنوان الكتاب، حسبما يرى الناقد الفنى الدكتور نادر رفاعى.
بائع الكتب عاد مرة أخرى وأعطى لـ"على" كتاب "معالم في الطريق" للقيادى الإخوانى سيد قطب والذى يوصف بأنه "دستور الجماعة الإرهابية، ويعتبر منبع إرهاب جماعات الإسلام السياسى، نظرا لما يتضمنه من الانحرافات الفكرية والتشويهات العقائدية التي تلقفتها المئات من القواعد التنظيمية، كذلك أعطى كتابا لصديق "على" الشاب المتهم بالإلحاد وهو كتاب "دعاة لا قضاة" لمرشد الإخوان الأسبق حسن الهضيبى، وهو بمثابة أول مراجعة فكرية في صف الجماعات الأصولية، خارجة من جدران التنظيم الإخواني، وأنها بذلك سابقت الجماعة الإسلامية وتنظيمات الجهاد في تقديم مراجعات فكرية شاملة للمنهج القطبي.
مصطلحات في توظيف الفكر الإرهابى
فى الحلقة الثالثة من مسلسل "القاهرة كابول"، جاءت عبارة "أهل الحل والعقد" على لسان الإرهابى "رمزى" الذى يقدمه الفنان طارق لطفى، وذلك فى مشهد مبايعته أميرا لإحدى الجماعات الإرهابية فى أفغانستان، حيث طلب من مساعده أن يجمع أهل الحل والعقد من الجماعة الإرهابية لمبايعته.
وأهل الحل والعقد: هم أهل الشأن من الأمراء والعلماء والقادة والساسة ووجوه الناس، والشروط التى يجب أن تتوافر فيهم ثلاثة كما قال "المارودى" فى "الأحكام السلطانية": العدالة الجامعة لشروطها، العلم الذى يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فى الإمام، الرأى والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وهو مصطلح اجتهادى لم يرد فى كتاب الله تعالى ولا فى سُنة رسوله.
ويعود اللجوء إلى التعويل على ثلة من خاصة الأمة فى اختيار الحاكم إلى الأيام الأولى من الحكم الراشدى يوم اجتمع نخبة الصحابة رضوان الله عليهم فى سقيفة بنى ساعدة من أجل اختيار خليفة لرسول الله يكون أميراً على المؤمنين، وقد كان فى ذلك تعبير قوى عن أن الأمة هى مصدرُ شرعيةِ من يحكمها، ورضاها عنه هو الذى يمنحه صلاحية تنفيذ أحكام الشرع فيها.
كذلك ظهر مصطلح "الفرقة الناجية" على لسان بائع الكتب المتطرف، وهو يحاور شقيق خالد الصاوى (الفنان كريم سرور) حيث قال له: (فيه فرقة واحدة بس هما المسلمين وهي الفرقة الناجية)، ويدور نقاش بينهما ثم يتركه على موعد آخر، وحينما يقابل "على" كريم سرور الفنان نبيل الحلفاوى ويسأله عن الفرقة الناجية من النار فيقول له الحلفاوى "عم حسن": قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: تفترق أمتى على ثلاثة وسبعين فرقة كلها فى النار إلا واحدة، قيل ومن هى يا رسول الله، فقال: هى ما أنا عليها وأصحابى، ويوضح له أن الله لا يدخل النار إلا من يصر على دخولها ويقول له: الطريق إلى الله بعدد أنفس الخلق فهم ملايين وليسوا الـ73 فرقة التى تحدث عنها الرسول، وهى مفارقة يقف عندها الكتاب ليوضح الفكر الجامد لدى الجماعات بأنهم الفرقة الناجية وهم أهل الجنة وغيرهم هم أهل النار والوعيد والحساب العسير.