قارئ الملوك والرؤساء وسفير الدبلوماسية الناعمة
حفيد الشيخ مصطفى إسماعيل يكشف لـ"صوت الامة" أسرار في حياة عملاق دولة التلاوة
الأحد، 02 مايو 2021 01:00 ص
- الرئيس السادات أصطحبه في زيارته للقدس عام 1977.. وأمر بتلبية وصيته ودفن جثمانه في حديقة منزله بقرية ميت غزال
- قصة فتوح الترزى واحتفال رابطة المقرئين بالمولد النبوي الشريف الذى فتح أمامه الباب لدخول الإذاعة والقصر
- موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب وصفه بالكبير جدا في موهبته وإدارة صوته.. ومحمود السعدنى: لو كان مغنياً للأوبرا لكان أعظم من أى اوبرالي عرفنا
مقرئ الملوك والرؤساء.. هو اللقب الذى أشتهر به القارئ الراحل الشيخ مصطفى إسماعيل، الذى كانت رغبته من البداية أن يكون قارئا للقرآن بعيداً عن القاهرة، لكن عزوبة صوته، وإعجاب الجميع به، فرضه ليكون قارئ مصر الأول لسنوات طويلة، حتى توفاه الله في 26 ديسمبر 1978.
ولد الشيخ مصطفى إسماعيل فى 17يونيو 1905 بقرية ميت غزال التابعة لمركز السنطة بمحافظة الغربية وكان الحفيد الأكبر للابن الأكبر لجده الشيخ مرسى إسماعيل، وكان يقوم جده برعايته والذى وجد فيه عذوبة الصوت فأرسله إلى الشيخ إدريس فاخر الذى علمه القرآن وتجويده وذاع صيته لعذوبة صوته وكان يرسله جده إلى القرى المجاورة لإحياء المآتم دون الحصول على أجر وكان يرسل إليه الطعام على "الركوبة" لمدة 3 أيام التى كان يقرأ فيها حيث كانت عادة القرى أن تتم القراءة فى المعازى 3 أيام متتالية.
وعندما بلغ سن 13 سنة أرسله إلى المعهد الأحمدى بطنطا والذي كان أحد فروع الأزهر الشريف وتعلم تجويد القرآن بعدة قراءات، وكان يطلب منه محفظ القرآن داخل المعهد الأحمدى عقب كل درس للقرآن أن يتلو القرآن بصوت عذب لمدة 5 دقائق وكانت تربطه علاقة صداقة قوية بنجل القصبى باشا وأثناء ذلك توفى القصبى باشا فى تركيا وتم نقل جثمانه إلى القاهرة لدفنه بمقابر العائلة بطنطا.
وحضر الجنازة والعزاء حيدر باشا وزير الحربية آنذاك ودولة مصطفى النحاس رئيس الوزراء وعدد من الوزراء والشخصيات العامة بحضور عظماء قراء القرآن الكريم أمثال الشيخ محمد رفعت والشيخ أبو العينين شعيشع والشيخ محمود صبح والشيخ عبد الفتاح الشعشاعى وحضر مندوب من القصر الملكى وقرأ الشيخ مصطفى إسماعيل القرآن الذى أبهر الحضور بصوته العذب.
وأثناء تلك الفترة ذهب لقراءة القرآن فى أحذ المعازى بدمياط وتعرف على والد زوجته الشيخ محمود عمر صاحب مدارس"عمر" ومكث فى بيته 3أيام طوال فترة العزاء وشاهد ابنته فاطمة وفى العام الثانى توجه إلى دمياط لإحياء الذكرى الثانوية ليجد زوجته وفاتح والد زوجته فى الزواج منها وحضرت أسرتها إلى قرية ميت غزال للتعرف على الأسرة وتمت الموافقة على الزواج وأنجب منها 6أبناء 3ذكور وهم عاطف وسمير ووحيد، و3بنات وهن إنجى، وسامية، وماجدة واستقروا فى القرية وكونوا أسرتهم وقام بشراء قطعة أرض لبناء منزل عليها وإنشاء استراحة شخصية للجلوس فيها عند عودته لمنزله.
وكان الشيخ مصطفى إسماعيل كثير السفر لإحياء حفلات القرآن الكريم بمحافظات مصر وطاف محافظات الصعيد والوجه البحرى بالكامل، وكان يقرأ القرآن فى الموالد بالمجان حبا منه فى آل البيت.
والتقت "صوت الأمة" علاء حسنى طاهر، حفيد الشيخ مصطفى إسماعيل، الذى روى الكثير من تفاصيل حياة وأسرار الشيخ الراحل.
وذكر حفيد الشيخ مصطفى إسماعيل أن الشيخ كان يذهب الى القاهرة من حين لآخر لصيانه سيارته الأمريكية، وكذلك لزيارته فتوح الترزى، وفى احد المرات وتحديداً عام 1944 وهو جالس عند الترزى سأله "الترزى" هل تعرف أن بجوارنا فُتحت رابطة لتضامن القرّاء، فلماذا لا تذهب وتشترك فيها؟.. فرح الشيخ للفكرة وذهب على الفور ودفع لهم جنية واحد كامل بدلا من عشرة قروش وهي قيمة الاشتراك، فوجد نائب رئيس الرابطة الشيخ محمد الصيفي الذي كان يسمع عن مصطفى ولم يسمع صوته ولم يراه من قبل، وعندما سمعه قال له "أنت نادر الصوت ونادر الموهبة، اسمع يا بني، بعد ثلاثة أيام ستحتفل الرابطة بالمولد النبوي الشريف في مسجد الحسين وستنقل الإذاعة الاحتفال وانا سأجعلك تقرأ لكي يسمعك كل من لم يسمعك من قبل"، فقد كان الراديو في ذلك الوقت الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي يستمع إليها الناس ولا يوجد لها بديل أو منافس.
في هذه الليلة، كما يقول الحفيد، كان الحضور كبيراً، منهم مراد باشا محسن رئيس الخاصة الملكية، الذى اعجب كثيرا بصوت الشيخ مصطفى إسماعيل، وانتقل الحديث عنه إلى الملك فاروق الذى سمع الشيخ مصطفى واعجب بصوته، وطلب تحرير عقد معه ليقرأ في الذكرى الثانوية لوالده الملك السابق فؤاد، فاتصلت الخاصة الملكية بالإذاعة وحصلوا على عنوانه، وأرسلوا لوزارة الداخلية ليحضروه، وبالفعل ذهب حكمدار طنطا إلى قرية ميت غزال لإخبار الشيخ بالحضور إلى قصر الملك لمقابله مراد باشا محسن، فالتف أهل القرية حول سيارة البوليس وظنوا بأن هناك شراً حتى عرفوا الحقيقة فاستبشروا خيراً.
ذهب الشيخ للمقابلة وسمع الإطراء من مراد باشا الذى سأله لماذا لم تأتى إلى القاهرة حتى اليوم، فقال له "القاهرة فيها مقرئيها ومشايخها وانا لا أريد أن أُزاحم أحداً في زرقة"، وبالفعل وقعت معه السرايا عقد التلاوة بذكرى الملك فؤاد وبعد ذلك بقليل عقد آخر للتلاوة في ذكرى الأربعين لشاة إيران الذى كان ابنة زوجاً لأخت الملك فاروق ملك مصر والسودان فى ذلك الوقت، وبعد فترة وجيزة تم الاتصال به لكتابة العقد للتلاوة في السرادق المقام فى قصر عابدين عام 1945 في شهر رمضان، وجعله الملك فاروق المقرئ الرسمي للقصر منذ ذلك الحين حتى خرج الملك من مصر عام 1952.
ويشير الحفيد علاء حسنى طاهر إلى أن الخاصة الملكية عندما علمت الخاصة أن الشيخ لا يسكن القاهرة حجزت له جناحاً خاصاً في فندق شبرد القديم على مدار العام، وفى ديسمبر 1951 قرر الشيخ أن يشترى بيتاً في القاهرة ويأتي بزوجته وأولاده، فبحث هو وزوجته حتى وجد شقة جميله بالزمالك في شارع بهجت على بجوار سفارة الصين بإيجار ٨ جنية في الشهر وتركها بعد سنة واستأجر أخرى أكبر في شارع المنصور محمد بإيجار ١٢ جنية بالشهر، وترك الشيخ فندق شبرد بشارع الألفي بجوار ميدان إبراهيم باشا "ميدان الأوبرا حالياً"، تركة في بداية يناير 1952 قبل حريق القاهرة بيوم واحد الذى راح ضحيته فندق شبرد بالكامل، وفى 1959 أشترى فيلا بالزمالك بشارع كولمبارونى رقم 6 متفرع من شارع إسماعيل محمد بمبلغ 7 آلاف جنية مصري.
عام 1947 تم تعين الشيخ مصطفى إسماعيل لقراءة القرآن يوم الجمعة في الجامع الأزهر، وتم ذلك بأمر ملكي بعد أن كانت وزارة الأوقاف تُماطل في تعيينه بحجة أنه لم يتقدم للإذاعة المصرية ليُعتمد بها قارئاً للقرآن أولاً، فهو لم يكن يرغب في الإذاعة لأنه لم يكن يعترف بمدة ال٣٠ دقيقة التي تسمح بها الإذاعة للقراء كحد أقصى، فهو كان يحتاج إلى ساعه على الأقل لكى يستطيع أن يُبدع، وفى 1948 ذهب وفد من الإذاعة لمقابله الشيخ وعمل اتفاق يرضى الطرفين وتم إقناعه بالاتفاق على القراءة لمدة 45 دقيقة على الأقل، وتمت الموافقة وكُتب العقد، وخصص إليه أكبر أجر مقابل تسجيلاته في المساجد الكبرى وفى الإستوديوهات، وبعد ذلك تم الاتفاق معه لتسجيل المصحف المرتل بالكامل والمصحف المجود بالكامل للبرنامج العام ثم بعد ذلك لإذاعة القرآن الكريم عندما أنشأت.
وبعد خروج الملك فاروق من مصر، تمت دعوة الشيخ مصطفى لإحياء ليالي شهر رمضان في الشام ولبنان والعراق وفلسطين وليبيا وكندا وأمريكا وفرنسا وتركيا وماليزيا، ودوى صوته في كل مكان وقامت إذاعة سوريا وإذاعة بيروت وإذاعة العراق والإذاعة الأردنية بتسجيل الحفلات القرآنية العديدة له في مساجد الشام الكثيرة، وعلى الأخص مسجد بنى أمية الكبير بدمشق والمسجد الأقصى ومساجد العراق، وهذه التسجيلات تقترب من 200 تسجيل كلها موجودة في مكتبة الأسرة.
ويقول علاء حسنى طاهر حفيد الشيخ مصطفى إسماعيل، أن الرؤساء محمد نجيب، وجمال عبد الناصر، والسادات اختصوا الشيخ مصطفى بالقراءة في جميع المناسبات الرسمية في الدولة، وأصر الرئيس السادات على إصحابه معه في طائرته الخاصة في زيارته إلى القدس عام 1977 لكي يقرأ في صلاة عيد الأضحى المبارك في المسجد الأقصى، واحتفل به هناك العلماء والمفتي في القدس وأقاموا له احتفال تلا فية لهم القرآن لمدة ساعة ونصف.
كان الشيخ مصطفى إسماعيل أول مقرئ يُقلد أوسمة من رؤساء وملوك الدول، فقد قُلد وسام الأرز بدرجة كوماندوز من الحكومة اللبنانية عام 1955، وفى 1956 قلدة ملك السعودية وساماً وكذلك ملك الكويت في احتفاليات تمت في بيروت عند افتتاح مستوصف طبي ودار للأيتام تبرعت بها الكويت للبنان، وكان الشيخ هو الذي افتتح الاحتفال وقُلد الوسام بحضور رئيس وزراء لبنان رشيد كرامي، كما قلدة الرئيس جمال عبد الناصر وسام الجمهورية وهو أول وسام يُمنح لقارئ قرآن في مصر، وكان ذلك في عيد العلم عام 1965، وقلدة الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك نوط الامتياز من الدرجة الأولى بعد وفاته.
واحتفى عدد من الفنانين والموسيقيين الكبار بالقارئ الراحل، فقد كتب عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: إن الشيخ مصطفى إسماعيل يفاجئنا دائماً بمسارات مقاميه وقفلات غير متوقعه وهو كبير جداً في موهبته وكبير في إدارة صوته، وله جرأة في الارتجال النغمي والصعود بصوته إلى الجواب وكذلك جواب الجواب بشكل لم نعرفه في أي صوت آخر حتى الآن؟.
وقال عنة الدكتور السعيد بدوى، أستاذ اللغة العربية وأستاذ علم الصوتيات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وكذلك جامعه أكسفورد بإنجلترا وصاحب قاموس اللغة العامية المصرية: إن للشيخ مصطفى إسماعيل قدرات في السيطرة على المستمع لم يتوافر مُثلها في غيرة، فكان عندما يقرأ تنتابهم سعادة من نوع خاص فلا يريدون أن ينتهى من القراءة أبدا، وعادة عندما يطلب الجمهور من أى مؤدٍ بصوته أن يعيد ما أداة مرة أخرى، فإن إعجاب الجمهور بالإعادة يكون دائما أقل من المرة الأولى، أما بالنسبة للشيخ مصطفى إسماعيل فكان الإعجاب به يزداد ويزداد، لذلك عندما دُعيت لأمثل مصر بحضور 70 دوله من جميع أنحاء العالم فى مؤتمر للصوتيات في كندا عام 1985 عن دور المؤدى بصوته في التأثير والسيطرة والتحكم في جمهور المستمعين، لم أجد أمامي إلا الشيخ مصطفى ليكون هو موضوع المحاضرة، فانبهر كل الحاضرين حتى اللذين لا يتكلمون العربية ولا يدينون بالإسلام.
وقال عنة الكاتب الساخر الراحل محمود السعدني في كتابه "ألحان السماء" إن الشيخ مصطفى إسماعيل أجمل صوت رجالى في العالم، ولو كان مغنياً للأوبرا لكان أعظم من أى اوبرالي عرفنا حتى الأن.
وقال عنه المؤرخ الموسيقى الأستاذ كمال النجمي الذى كتب كتاباً عنه عام 1985 "الشيخ مصطفى إسماعيل حياته فى ظل القرآن"، أن الشيخ مصطفى أعظم قارئ للقرآن الكريم فى الأعوام المائة الماضية، فلم نسمع أدق منه إحساساً بكلمات الكتاب الكريم ولا أشد منه لباقة فى التعامل مع المقامات العربية والتصرف فيها بما يحفظ لقراءاته الصحة التامة طبقا لأصول علوم القرآن، بالإضافة إلى أن صوته مكتمل الجمال والقوة في جميع درجاته نظرا لاتساع مساحة حنجرته ووصوله لدرجه جواب الجواب التي لم يصل إليها بإتقان صوت غير صوته ولا يحكمها أداء إلا أداؤه، وكان عنصر المفاجأة في المسارات والقافلات يمثل حاله إعجازية نادرة.
وأصيب الشيخ مصطفى إسماعيل بجلطه بالمخ أثناء تواجده بالإسكندرية وتم عرضه على الدكتور جمال العزب أستاذ المخ والأعصاب، وفور علم الرئيس السادات بذلك قرر تخصيص طائرة لنقله خارج البلاد لعلاجه إلا أن الدكتور جمال العزب أكد أن الجلطة كانت شديدة ووافته المنية بعد أن قال إنه كان يتمتع بصحة ولا صحة الشباب وتم تشييع جثمانه بالقرية.
وتوفى الشيخ مصطفى إسماعيل يوم 26 ديسمبر 1978، ويقول حفيدة علاء حسنى طاهر، انه تم دفن جثمانه في حديقة بيته الأمامية بقرية بميت غزال، وتم الدفن بتصريح من الرئيس الراحل أنور السادات، وجاء التصريح يوم الاثنين ٢٥ ديسمبر 1978 قبل الوفاة بعشرين ساعة فقط بعد أن ذهب الأخ الأصغر للشيخ مصطفي وهو الشيخ عبد العزيز اسماعيل الي الرئيس السادات في قريته ميت ابو الكوم، وأخبره أن الشيخ يرقد في غيبوبة بالمستشفى الجامعي بالإسكندرية، وأطلعه على رغبة الشيخ في مكان معين للدفن، فأمر الرئيس فورا بتنفيذ رغبته وطلب من محافظ الغربية الذي كان متواجدا بجوار الرئيس هو وبعض الوزراء بمناسبه عيد ميلاد الرئيس في ذلك اليوم بتنفيذ رغبة الشيخ مصطفى.
وقال حفيد الشيخ القارئ أن جده قراء الشيخ ما يقرب من 52 عاماً بمتوسط 60 ألف ساعة إن لم يكن أكثر من ذلك، فقد كانت حياته كلها قرآن وتلاوة بكثافة عالية وبلا انقطاع حتى انتقل إلى ربة، ولا يوجد من هذه التسجيلات الا 2000 ساعة فقط.
وكان الشيخ مصطفى إسماعيل ممثل الدبلوماسية الناعمة حيث كانت الدولة ترسله إلى هناك لتدعيم السنة وكان يعتبر سفيرا للدبلوماسية الناعمة.