يوسف أيوب يكتب: ماذا سيفعل بايدن مع الظاهرة الترامبية؟
السبت، 16 يناير 2021 05:59 م
تداعيات مشهد اقتحام الكونجرس ستلاحق الإدارة الأمريكية الجديدة في الداخل والخارج وستكون مطالبة بإعادة صياغة مفهوم الديمقراطية والحرية
مشهد اقتحام مؤيدى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لمبنى الكونجرس قبل أيام، هو امتداد لما عاشته الولايات المتحدة من نقاشات وسجالات "عبثية" بعد الانتخابات الرئاسية، بين الديمقراطيين وكثير من الجمهوريين، كان تأثيراتها السلبية شديدة على المواطنين الأمريكيين وأيضاً المهتمين بالشأن الأمريكي.
حينما خرج ترامب قبل أشهر من إجراء الانتخابات وحذر من تزوير التصويت بالبريد، وأن هناك نية لدى عدد من حكام الولايات "الديمقراطيين" للتزوير لصالح المرشح جو بايدن، كان هذا التحذير مؤشر على ما ستواجهه الديمقراطية الأمريكية من أيام غاية في الصعوبة، لكن أحد لم يلتفت ولم يتوقع أن الصعب قادم لا محالة، رغم أن الصورة كانت شديدة الوضوح، وأن القادم أسوء مما يتخيله الجميع، لذلك لم تستعد المؤسسات الأمريكية الرسمية للسئ، بل أكتفت بالمشاهدة على أمل أن تتغير "نغمة" ترامب، والا يتحول الرئيس الأمريكي بمرور الأيام والوقت من شخص إلى ظاهرة "ترامبية" ستكون حاكمة لمستقبل الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام.
في الانتخابات الرئاسية خسر ترامب لكنه لم يستسلم، وساعة وراء الأخرى لم يترك ترامب مناسبة الا وتحدث عن تزوير ضده في الانتخابات، ولجأ إلى المحاكم وحينما فشل في المواجهة القانونية، كان خياره الأخير، اللجوء إلى "الترامبيين"، وهو الخيار الذى لم تتحسب له المؤسسات الأمريكية، التي ظنت أن شعبية ترامب المتراجعة لن تسمح له بقاعدة شعبية تقف فى مواجهة الديمقراطية الأمريكية التي تلقى احتراماً من الجميع.
لكن حدث ما لم يحتسب له الأمريكيين، فترامب تحول من رئيس إلى ظاهرة "ترامبية"، يصفونها في الإعلام الأمريكي بالفوضوية ومنه من ذهب إلى نعتهم بالإرهابيين، لكن في المجمل هي ظاهرة جديدة على الفكر الأمريكي، وسيكون لها حضور قوى في الاستحقاقات الانتخابية المستقبلية، حتى وإن كان مشهد اقتحام الكونجرس أساء لكل من اعتبر نفسه جزء من "الترامبية"، لكن الوقت الأن ليس مجالاً للحديث عن الضمير، وإنما عن الواقع الفعلى!.
بالتأكيد فإن مشهد الكونجرس في مجمله عبثى، ولا اعتقد أن أمريكى كان يتخيل أن يحدث، ويقينى أن الأمريكيين في داخلهم بين اتجاهين، الأول يعتبر ما حدث دليل على الديمقراطية الأمريكية، لكن الغالبية يشعرون بالخزى من جراء ما حدث، لأنه مشهد ما كانوا يتمنوا أبداً أن يروه وتتناقله شاشات الفضائيات العالمية.
خروج ترامب من البيت الأبيض بداية القصة المأساوية
انتهى المشهد العبثى، والأربعاء المقبل سيكون جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، وسيخرج ترامب من البيت الأبيض، لكن القصة لن تنتهى هكذا، بل استطيع القول أنها بدأت.
القصة بدأت لإن ما حدث في الأسابيع الماضية ألقى بالكثير من الأعباء والمهام على الإدارة الأمريكية الجديدة، وفى مقدمتها محاولة إصلاح الجرح الكبير الذى أحدثته تداعيات الانتخابات في الشارع الأمريكي، أو ما أطلق عليه بايدن "لم الشمل الأمريكي"، وهى مهمة ليست بالسهلة، خاصة أن الديمقراطيين، وهم يحاولون مواصلة توجيه الإهانة لترامب، ساروا في نفس الطريق الذى سبق وسلكه ترامب، وهو "العند" وتصفية الحسابات، وهو ما أعطى انطباع لدى الأمريكيين أنهم ليسوا أمام أحد مظاهر الديمقراطية الأمريكية، وإنما يتابعون مشهد من مشاهد أفلام العصابات أو المافيا، فالسياسة باتت غائبة، وحضرت "العضلات" بديلاً عنها.. ترامب لجأ إل أنصاره، في حين أن الديمقراطيين وفى مقدمتهم نانسى بيلوسى رئيسة مجلس النواب، شديدة العداء لترامب، لجوءوا إلى تسخير القانون لتوجيه مزيد من الاهانات والضربات لترامب، والتهديد بعزله قبل أيام قليلة من انتهاء مدته القانونية، فأصبحنا جميعاً مشاهدين على مباراة ملاكمة، ننتظر من سيوجه الضربة القاضية للأخر؟
وبجانب هذه المهمة الثقيلة الملقاة على عاتق بايدن، تبقى مسألة أخرى شديدة الخطورة، وهى عودة ثقة الأمريكيين أنفسهم في مؤسساتهم، التي فقدت كثير من بريقها ورونقها، سواء باتهامات ترامب السابقة والمتكررة لهذه المؤسسات بتدخلها لإحداث تلاعب في الانتخابات، وهى تهمة حتى وإن لم يستطع ترامب إثباتها حتى الآن، لكنها مست "شرف" هذه المؤسسات خاصة الأمنية منها، بل يمكن القول أنها مست النظام الأمريكي بأكمله، وتحتاج لمزيد من الوقت وربما الإجراءات ايضاً لإعادة الاعتبار لهذه المؤسسات مرة أخرى.
الديمقراطية الأمريكية في خطر
واذا ما نظرنا إلى خارج الحدود الأمريكية وابتعدنا عن الأراء والتحليلات الخاصة بالمشهد الداخلى، سنجد أن ما حدث في واشنطن وما تلاه من تداعيات مؤشر على تغيرات في الفكر والعقلية والاستراتيجية الأمريكية، سيكون لها بكل تأكيد تأثيرات على السياسة الأمريكية خارج حدودها، وتحديداً في منطقتنا وفى القلب منها مصر.
فالإدارة الأمريكية الجديدة التي جاءت وفى رصيد رئيسها "جو بايدن" حينما كان نائباً للرئيس السابق باراك أوباما ملفات متخمة عن الحريات وحقوق الإنسان، ومفاهيم جرى توزيعها على دول العالم، هذه الإدارة اليوم باتت مطالبة بالدفاع عن هذه الحريات والحقوق في الداخل الأمريكي، وأن تعيد ترتيب حساباتها قبل أن تتحدث عنها خارجياً.
واعتقد أن النقطة الأبرز التي ستحاول الإدارة الجديدة فهمها حالياً في ضوء ما حدث في واشنطن أن الديمقراطية ليس لها موديل أو نموذج خاص بها، بل اشكالها تتبدل بتبدل الأزمنة والآليات المتاحة في كل زمان ومكان، فما كان مفيداً في التسعينات على سبيل المثال لن يكون له تأثير اليوم في ظل الانتشار الرهيب والمتسارع للتكنولوجيا وسيطرتها على عقول الجميع، خاصة الفئة الشبابية التي تحتل المرتبة الأولى في الفئات العمرية.
فما حدث في مشهد الكونجرس، هو مؤشر للأمريكيين أن هناك مفاهيم بحاجة لإعادة النظر، خاصة تلك المتعلقة بالعنف والتحريض عليه، والفارق بينه وبين الحرية، وهى النقطة التي كانت ولا تزال مثار خلاف بين دولنا وكل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فالحرية وحقوق الإنسان لا يمكن أبداً أن تكون حاجزا أمام سيطرة الدولة على أمنها واستقراراها، ولا يمكن أبداً تحت بند الحرية أن نترك للآخرين حرية إرهاب وترهيب المواطنين، بل الأكيد أن التحريض على العنف والتحريض بمختلف مفاهيمه يجب أن يكون مجرما في كل مكان وزمان، أيا كانت الأسباب التي يستند إليها المحرض، ومهما كانت وظيفته.
لذلك لن يكون مقبولاً من المسئولين الأمريكيين الذين وصفوا مقتحمى الكونجرس بالمشاغبين وإرهابيين، ومن يدعمونهم-في إشارة لترامب- محرضين على العنف، أن يضغطوا على دولاً أخرى لمنح مزيد من الحرية لإرهابيين أو محرضين على الإرهاب والعنف، لا لشئ الا لإن هذه الجماعة إو غيرها تنفذ أجندة أو أفكار تخدم المصالح الأمريكية.
فالعنف والإرهاب واحد في كل مكان، وإذا كنا نعتبر مقتحمى الكونجرس إرهابيين ومن يقفون خلفهم محرضين على العنف والإرهاب، فإن من يتسببون في قتل قوات الشرطة والقوات المسلحة والمدنيين هم إرهابيين، ومن يقدمون لهم الدعم المالى والإعلامى محرضين على العنف والإرهاب، ويجب التعامل معهم وفق ذات القاعدة، وأن نبتعد ولو قليلاً عن ازدواجية المعايير التي تعتبرها الإدارات الأمريكية المختلفة شعارها الدائم.
الديمقراطية لها متطلبات
واستكمالاً لتأثيرات مشهد الكونجرس، فهناك قضية أخرى مرتبطة بهذا المشهد، وهى قضية التغيير داخل كل مجتمع، فالشاهد أن أي تغيير أيا كانت أسبابه ومنطلقاته سيواجه بصعوبات كثيرة، حتى وإن كان هذا المجتمع مصنف على أنه من أعلى المجتمعات ديمقراطية، فما بالنا بدول ومجتمعات تعانى من أزمات داخلية، وتعيش وسط أقليم مضطرب أمنيا وسياسياً.
بالتأكيد هناك اختلاف بين دولة وأخرى، والنموذج الذى ينجح في دولة ليس شرطاً أن ينجح في أخرى، حتى وأن تشابهت الظروف والأحوال، وهذه الجزئية هي مثار نقاش مستمر على سبيل المثال بيننا كمصريين وبين المسئولين الغربيين خاصة الأمريكيين، فالحرية وحقوق الإنسان في المفهوم الغربى منطلقها في المجمل سياسى، لكننا في مصر نعتبر أن مفهومها أوسع من ذلك بكثير، فهى تشمل الحق في الحياة والحق في الحصول على مسكن وتعليم وصحة ورعاية مناسبة، واذا لم تتوافر كل هذه المقومات للإنسان العادى فإنه لن يفيده الحديث عن السياسة والحقوق السياسية، ومن هنا تبرز فكرة الحديث عن ترتيب الأولويات والحقوق، وأيضاً اختلاف الظروف والاحوال من دولة أخرى، وهذا لا يعنى أن مصر تريد التهرب من الحقوق السياسية للمصريين بداعى توفير الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بل على العكس، هناك مسار تسير عليه الدولة المصرية تحديداً منذ 2013 وهو مسار يوازى بين كل الحقوق في خطوط متصلة، حتى نصل في النهاية إلى إقرار كافة الحقوق للمصريين.
بالعودة مرة أخرى إلى ما حدث ويحدث في الولايات المتحدة الأمريكية المتصلة معنا في ملفات متعددة، يمكن القول أن الشاهد في كل ما حدث أن إدارة جو بايدن وهى تتسلم مهامها في البيت الأبيض ستجد نفسها أمام متغيرات في الثقافة والفكر الأمريكي لم يكن يتوقعونه، ربما يكون ناتج عن تزايد في تواجد "الشعبويين" في الداخل الأمريكي، وهو ما يفرض على الإدارة الجديدة أن تعيد تقيمها للواقع الأمريكي الجديد، وأن تعيد أيضاً بناء فلسفتها الخارجية وفق التطورات الداخلية، التي ستكون الهاجس الذى يلاحق بايدن وأيا من عناصر إدارته أينما ذهب خارج الحدود الأمريكية.
الشاهد الأخر أن الأمر تخطى الحدود الأمريكية، وباتت الدول خاصة الغربية مطالبة بإعادة صياغة مفهوم الديمقراطية والحرية التي يتبنوها، فلم تعد أعمال الشغب حتى وإن كانت أسبابها سياسية "حرية تعبير عن الرأي"، وإنما توصيفها الدقيق انها أعمال شغب مجرمة قانوناً.
الأمر الأخر أن الحرية لها مفهوم أوسع من المفهوم السياسى، وتشمل مفاهيم اجتماعية واقتصادية على الغرب أن يراعيها هي الأخرى بنفس اهتمامه ومراعاته للحقوق السياسية، إذا كانوا بالفعل راغبين في الحفاظ على المواطن، وأن يبعدوا عن أنفسهم شبه الانحياز للمصالح الخاصة بهم.