«يا صاحب المدد».. كيف أعاد خيري حسن ميتًا إلى الحياة؟

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020 07:00 م
«يا صاحب المدد».. كيف أعاد خيري حسن ميتًا إلى الحياة؟
أيمن عبد التواب

تخيل أن أحدًا سرق ابنك أمام عينيك، وزوَّر أوراقًا، واستخدم نفوذه، وسطوته، وشهرته، لينسب ابنك إلى غيرك، ليحرمك من فلذة كبدك، الذي يكبر يومًا بعد يوم أمام ناظريك، لكن الناس يعرفونه باسم أب آخر غيرك! تخيل أن يجبرك اللصوص الذي سرقوا ابنك، على الدخول في معارك طويلة، استزفت فيها قواك لإثبات أنك أبو هذا الابن، وأنه من صلبك.. لكن، للأسف، تموت حسرة، وكمدًا دون أن تستطيع إثبات أبوتك لابنك! ثم، بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على وفاتك، يُقيض الله لك رجلًا، تمكن من إثبات الابن إلى أبيه الحقيقي! 
 
 
8
 
هذا ما حدث بالفعل مع «شاعر نصر أكتوبر»، المؤلف الحقيقي للأغنية الشهيرة «مدد مدد.. شدي حيلك يا بلد»، الذي تعرض للظلم، والغبن، وهضم حقه حيًا وميتًا.. فإن كنت مثلي لم تكن تعلم أن أغنية «مدد مدد»، نُسِبَت- بفعل فاعل- إلى شاعر آخر غير شاعرها الأصلي، فإن الكاتب، والمحقق الدؤوب، «خيري حسن»، نجح- بصبره، ودأبه، وإخلاصه، وإيمانه بما يبحث عنه- أن يعيد ميتًا إلى الحياة، وأن ينتصر له، ويرد إليه اعتباره.. لا ينتظر من وراء ذلك جزاءً ولا شكورًا.. فقط يريد من الناس أن تعرف الحقيقة.. الحقيقة التي حاول البعض طمسها، ومحوها، وتزييفها لصالح أناس بنوا مجدهم، وشهرتهم على أكتاف غيرهم، وجهد غيرهم، وإبداع غيرهم..
 
9
في كتابه «يا صاحب المدد.. سيرة شاعر ومسيرة وطن»، أعاد «شرلوك هولمز» الأدب، خيري حسن، الاعتبار لشاعر العامية زكي محمد إبراهيم عمر، «زكي عمر»، الذي رحل عن عالمنا منذ ثلاثة وثلاثين عامًا.. وأثبت حقه الضائع منذ ستينيات القرن الماضي في الأغنية الحماسية «مدد مدد.. شدي حيلك يا بلد»، بالوثائق، والوقائع، وشهادات شهود عيان عاصروا «زكي»، وكتبوا عنه وعن إبداعه.. وذلك بعد أن استغل الجناة استبعاد «زكي» وهجرته، أو بمعنى أدق، إجباره على الهجرة إلى اليمن الجنوبي- وقتذاك- وسجلوا  الأغنية في جمعية المؤلفين والملحنين، باسم شاعر آخر هو «إبراهيم رضوان»! 
 
ففي سرد رائع، وتناغم بديع، يمزج مؤلف «يا صاحب المدد» بين العام والخاص.. فتراه يسرد حكايات تكشف عن بذخ أسرة محمد علي، في عهد الملكية، ثم ينتقل إلى حكايات الفلاحين المصريين مع الفقر، والجهل، والمرض.. يحدثك عن ثورة يوليو، ثم يخطفك إلى قرية كفر الأعجر، حيث مسقط رأسه.. يحدثك عن ثورة يوليو والضباط الأحرار، ثم ينقل لك مشاعر البسطاء في الأرياف وفرحتهم بالثورة..
 
وفي إشارات سريعة، يحدثك عن جمال عبد الناصر، وكيف تخلص من محمد نجيب، وفرض عليه إقامة جبرية في المرج.. ثم يعرج بنا على العدوان الثلاثي، وحرب اليمن، ونكسة يونيو، وحرب الاستنزاف.. ثم وفاة عبد الناصر، وتولي الرئيس السادات الحكم.. وانتصار أكتوبر، ومعاهدة السلام مع إسرائيل.. ثم يعود بك إلى أحداث أخرى، راوح المؤلف بينها وبين اشتداد عود شاعرنا، الذي غُبِنَ حقه لعقود! 
 
 
من أجمل ما قرأت، وتوقفت عنده طويلًا في كتاب «يا صاحب المدد»، هي تلك السطور القليلة التي نقلها المؤلف عن الأوراق الشخصية لشاعرنا، ويتحدث فيها عن أمه: «كانت عكس أبي، فهي امرأة طيبة ومسالمة، عاشت معه الصعب بشجاعة نادرة، وعلى الرغم من سنين التشرد والجوع والفقر، لم ألحظ في عينيها دمعة، صابرة كانت أمي دائماً، وهذا شيء لا أحبه ولا أطيقه.. لماذا لم تغضب؟».
 
«أم محمد»، اسم والدة أم الشاعر، تشبه إلى حد كبير امهاتنا.. أمهاتنا اللائي يقمن بدور الأب والأم معًا، بعد وفاة الزوج.. أمهات الغلابة، اللائي يرقدن على أطفالهن، ويبذلن حياتهن من أجل إطعام وتعليم أولادهن، بنفس راضية صابرة، لا تريد جزاءً ولا شكورًا.. هذه الأم العظيمة- رغم جهلها، وأميتها- كانت تمتلك من الذكاء والفطنة، وبعد النظر، ما يجعلها تضرب عرض الحائط بوصية ناظر المدرسة، الذي كان يرى أن شاعرنا «لا يصلح للعلام»، في حين يرى ان «محمدًا»، الشقيق الأكبر لشاعرنا زكي عمر هو مَن يصلح للتعليم! لكن كان للأم رأي آخر.. 
 
ويصف لنا الشاعر شخصية أمه قائلا: «كانت عكس أبي، فهي امرأة طيبة ومسالمة، عاشت معه الصعب بشجاعة نادرة، وعلى الرغم من سنين التشرد والجوع والفقر، لم ألحظ في عينيها دمعة، صابرة كانت أمي دائماً، وهذا شيء لا أحبه ولا أطيقه.. لماذا لم تغضب؟».
 
وفي القصيدة التي كتبها شاعرنا زكي عمر عن أمه، نتعرف فيها على بعض ملامح وصفات هذه السيدة العظيمة «أم محمد»، التي أنجبت لنا هذا الشاعر العظيم: 
«ما كنتش تحب اللون الباهت 
ما كنتش تحب المية الفاترة وكانت 
لما بتكره تكره موت
وأما تحب تحب صبابة
وأما بتحزن تبقى ربابة
وأما بتفرح يبقى الفرح على البوابة
كانت زي الشمس وكانت
لما بتغضب تبقى مهابة».
 
*
 
بحسب ما جاء في كتاب «يا صاحب المدد»، فإن الشاعر والمسرحي الراحل زكي عمر، ولد عام 1938 في قرية كفر الأعجر إحدى قرى محافظة الدقهلية، وتوفي عام 1987، بعد سنوات من الحصار داخل وطنه، واختار اليمن الجنوبي، منفىً اختياريًا له، وعاش هناك إلى أن مات غريقًا على شاطئ المحيط. 
 
ويرصد خيري حسن مأساة شاعرنا زكي عمر، فقد نشأ في قرية فقيرة، وفي أسرة فقيرة، وأب «عاش بلا عمل، وبلا أرض، وبلا بيت».. وبوفاة الأب كان على الطفل زكي «أن يعمل أجيرًا، أو عاملًا زراعيًا، بسبعة قروش في اليوم، لكن هذه القروش لم تكن تكفيه»، 
 
ويبدو أن البيئة القاسية التي عاش فيها الشاعر، أنضجته قبل الآوان، وحرمته من أشياء يفعلها الأطفال في مثل سنه، إذ يقول: «في طفولتي لم أضحك لم ألعب لم أفرح، وقد يكون هذا هو السبب في أنني أضحك الآن من كل قلبي وأغني وأرقص وأبحث عن لحظة السعادة لأعيشها، اليوم أحب الحياة وأحب كتابة الشعر، أنا لم أتعلم في المدارس شيئاً يفيد الفلاح، كل ما يهم الفلاح تعلمته من الشارع والغيط والناس».
 
ولعل هذا ما جعل شاعرنا متمردًا، حتى على وظيفته التي يتكسب منها، ويساعد بها أسرته.. فهو يكره قيود الوظيفة والتوقيع في دفتر الحضور والانصراف، حيث كان يعمل في التفتيش الزراعي بمدينة دكرنس.. لقد خُلق شاعرنا ليكون فنانًا حرًا، ينشد الحرية ولو كانت  في آخر البلاد، رافضًا أن يعيش على طريقة أمه التي ماتت ونفسها في جلابية «سكاروتة».
 
وانتصارًا لكلمة الحق، يثبت المؤلف، خيري حسن، أن كلمات اغنية «مدد مدد» هي من إنتاج وإبداع «زكي عمر»، وظهرت، لأول مرة، بعد نكسة يونيو، في جلسة خاصة بمنزل صديقه الشاعر محمد يوسف.. ثم خرجت إلى النور، لتهتف وتتغنى بها الجماهير.. لكن يبدو أن هناك مَنْ استكثر على شاعرنا الراحل هذا النجاح، فنسبوه إلى شاعر آخر يدعى إبراهيم رضوان؛ ليخوض زكي عمر صراعًا لإثبات حقه في قصيدته «مدد».. لكن محمد نوح و«شلته» كانوا أقوى منهم! ثم بعد خروجه من «المعتقل»، قرر الرحيل، أو الهروب، أو الخروج من مصر بلا عودة:
كل الأشياء بتقولك: هج يا شاعر
كل الأشياء بتقولك: هاجر
كل الأشياء
الكل وقبض الريح، هباء
ما عاد هناك رجاء
ما عاد لصوت الصدق منابر

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق