طلال رسلان يكتب: يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ
السبت، 08 أغسطس 2020 10:43 م
مصر تقود العرب لانتشال لبنان من جراح التفجيرات الدامية
سويسرا الشرق تعانى الأهمال وأوضاع مأساوية في السياسة والاقتصاد والصحة أنذرت بكارثة الانفجار الهائل
يا ستَّ الدنيا يا بيروتْ..
مَنْ باعَ أسواركِ المشغولةَ بالياقوتْ؟
من صادَ خاتمكِ السّحريَّ،
وقصَّ ضفائركِ الذهبيّهْ؟
من ذبحَ الفرحَ النائمَ في عينيكِ الخضرواينْ؟
من شطبَ وجهكِ بالسّكّين،
وألقى ماءَ النارِ على شفتيكِ الرائعتينْ؟
من سمّمَ ماءَ البحرِ، ورشَّ الحقدَ على الشطآنِ الورديّهْ؟
ها نحنُ أتينا.. معتذرينَ.. ومعترفينْ
أنّا أطلقنا النارَ عليكِ بروحٍ قبليّهْ..
فقتلنا امرأة.. كانت تُدعى (الحريّهْ)...
لو كان الشاعر الكبير نزار قباني على قيد الحياة لما كتب نظما أكثر تعبيرا عن حال لبنان الآن من تلك الأبيات، فكل الأجواء في لبنان كانت تبشر بكارثة الانفجار الذي خلف دمارا وحصد الأرواح وأدخل البلاد في نكبة كبرى إلى جوار نكبات اقتصادية وسياسية أثقلت كاهل بلد أطلق عليه في وقت من الأوقات "سويسرا الشرق الأوسط".
اليوم السبت اندلعت تظاهرات غاضبة وسط العاصمة اللبنانية، خلفت عشرات الجرحى، وقامت قوات الأمن بإطلاق الغاز المسيل للدموع بشكل كثيف.
ووقعت اشتباكات بين الأمن والمتظاهرين قرب مبنى البرلمان، بعدما حاول عدد من المتظاهرين التقدم.
وتعالت هتافات بعض المحتجين ضد "حزب الله" واصفين إياه بالإرهابي، فيما أقام الأمن والجيش حواجز لمنع اقتحام البرلمان، كما اقتحم متظاهرون غاضبون مبنى وزارة الخارجية القابع في منطقة الأشرفية وسط العاصمة المنكوبة، ورفعوا شعاراً كتب عليه "بيروت منزوعة السلاح".
جاء ذلك بعدما دعت عدة جمعيات ومنظمات مدنية إلى التجمع ابتداء من الساعة الرابعة عصر اليوم (بالتوقيت المحلي) في ساحة الشهداء وسط بيروت من أجل المطالبة بمحاسبة كافة المسؤولين عن تلك المأساة التي حلت بالمدينة، واستقالة الحكومة ورئيس الجمهورية.
وتحت وسوم "يوم الحساب" و"الغضب الساطع" و"علقوا المشانق"، دعا مئات الناشطين على مواقع التواصل الناس إلى النزول للتعبير عن سخطهم ورفضهم لممارسة السياسيين في البلاد، لاسيما بعد ثبوت إهمالهم القاتل في العديد من الملفات، وعلى رأسها كارثة الرابع من أغسطس.
انفجار بيروت وما قبله
واستيقظت بيروت الأربعاء الماضى تحت وطأة الصدمة غداة انفجار ضخم قال المعهد الأمريكي للجيوفيزياء إنّ أجهزة الاستشعار الخاصة به سجلته على أنه زلزال بقوة 3,3 درجات على مقياس ريختر، مما أسفر عن مقتل 78 شخصا وإصابة الآلاف، وأُعلِنت العاصمة اللبنانية مدينة "منكوبة".
ونقلت وسائل إعلام لبنانية عن مصادر قولها إن التحقيقات الأولية تشير إلى أن سنوات من التراخي والإهمال هي السبب في تخزين مادة شديدة الانفجار في ميناء بيروت، حيث قال رئيس الوزراء والرئاسة اللبنانية إن 2750 طناً من نترات الأمونيوم، التي تدخل في صناعة الأسمدة والقنابل، كانت مخزّنة في الميناء منذ ست سنوات دون إجراءات سلامة.
وشكل الانفجار مشهدا مخيفا لم تشهده لبنان من قبل حتى فى الاعتداءات السابقة، حيث هزّ كل أنحاء العاصمة اللبنانية وطالت أضراره كل الأحياء وصولا إلى الضواحي، وتساقط زجاج عدد كبير من المباني والمحال والسيارات، حتى بلغ صداه فى قبرص المواجهة للبنان على بعد 240كم، افترش الإسفلت بالضحايا.
وسارعت دول العالم محاولة إنقاذ لبنان من عثرتها التي يؤكد الخبراء أنها ستطول، فكانت مصر ورئيسها في مقدمة داعمى بيروت، بعدما وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي بإرسال طائرتين مساعدات طبية عاجلة إلى الشعب اللبنانى الشقيق، كما أجرى الرئيس اتصالاً بالرئيس اللبنانى العماد ميشيل عون، للتعزية فى ضحايا الانفجار، وأعرب الرئيس عن خالص المواساة للأشقاء في لبنان حكومة وشعبا، داعيا المولى عز وجل بالشفاء العاجل للجرحى وأن يلهم أسر الضحايا الصبر والسلوان، كما أكد الرئيس تضامن مصر حكومة وشعبا مع الأشقاء فى لبنان، والاستعداد لتسخير كافة الإمكانات لمساعدة ودعم لبنان فى محنتها.
ولم يكد يخرج لبنان من أزمته الاقتصادية حتى جائت أزمة اخرى تضاف إلى اعباء القطاع الاقتصادى الذى يشهد أسوأ كارثة اقتصادية فى تاريخه، ويبدو أنه يسير نحو المزيد من التعقيد، فمنذ أكتوبر الماضى فقدت الليرة اللبنانية نسبة 70%من قيمتها، وهوت فى يونيو الماضى في السوق السوداء إلى 5000 ليرة، بدلا من السعر الرسمي المحدد بـ 1500 مقابل الدولار، ودخل لبنان أسوأ أزمة اقتصادية تهدد استقراره منذ الحرب الأهلية، ليأتى الحادث ويضيف إليها أزمة مالية خانقة، مرتقبة بعد اعلان جمعية المصارف اللبنانية أن المصارف بفروعها كافة ستقفل أبوابها اليوم الأربعاء لمعالجة الأضرار المادية الناجمة عن هذه الكارثة الكبرى.
وعلى مدى الأشهر الماضية ظل اللبنانيون يحتجون على الحكومة وسياساتها الاقتصادية على، تعبيرا عن سخطهم إزاء التراجع غير المسبوق في قيمة عملة بلده، وأثارت الأزمة غضب فئات اجتماعية واسعة تضررت قدراتها الشرائية بفعل انهيار العملة اللبنانية، وأصبحت شبه عاجزة عن شراء الطعام أو دفع إيجار بيوتها، فلجأوا إلى التظاهر وإغلاق الشوارع والطرقات في عدد من المدن، من طرابلس في الشمال إلى صور في الجنوب، وافترشوا الشوارع طوعا احتجاجا.
المشاهد في العاصمة بيروت كانت مؤلمة ومرعبة، لم تشهد المنطقة انفجارا بهذا الحجم والدمار، رائحة دماء الأبرياء ملأت الشرق الأوسط والعالم، لبنان الذي دخل في العناية المركزة منذ شهور باقتصاد منهار وعملة مهلهلة واحتياطي نقدي مأسوف عليه، وحرب سياسية استبيحت فيها كل الأسلحة حتى لو على حساب أجساد الشعب، وأوضاع مضطربة في كافة المناطق لم تهدأ منذ اندلاع الغضب في الشوارع، الآن يدخل مرحلة الغيبوبة.
انفجار تلو انفجار كان ينذر بكارثة كبرى سيقع فيها لبنان، فقل كارثة مرفأ بيروت شهد الاقتصاد المحلي تدهورًا تاريخيًا، وفقدت الليرة اللبنانية 60 في المئة من قيمىتها، ودُفع في شهر يونيو الماضي حوالي 5000 ليرة مقابل دولار واحد، كما أعلنت الحكومة أنها لم تعد قادرة على دفع قروضها، وأظهرت بيانات أن 45 بالمئة من السكان يعيشون تحت عتبة الفقر.
إلى جانب الأوضاع الاقتصادية كان الانفجار السياسي، حيث شهدت البلاد احتجاجات واسعة منذ عام 2019 ضد الحكومة ونظام المحاصصة الطائفية، الذي أدخل لبنان في دوامة المعارك السياسية ولعبة الكراسي، وتحوّلت الاحتجاجات في أكثر من مرة إلى اضطرابات كبيرة، وقبل اندلاع أزمة كورونا، فقد الآلاف من اللبنانيين وظائفهم وتوقفت كثير من المؤسسات اللبنانية عن العمل، ثم جاءت كورونا لتعمق الأزمة، واضطرت معها الحكومة إلى إجرءات أكثر ألما بإغلاق الكثير من المحلات التجارية وتجميد الكثير من النشاطات، ما أنذر بانفجار من "ثورة جياع" في البلد.
15 عاما هي عمر غليان فتيل الانفجار في لبنان، بدأت باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، وصولا إلى استقالة وزير الخارجية اللبناني ناصيف قبل أيام، ففي 14 فبراير من العام 2005 مزق انفجار انتحاري ضخم موكب رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، في قلب العاصمة بيروت الأمر الذي تسبب في مقتله و21 آخرين، خلف ذلك أزمة كبرى وألقى قادة المعارضة باللوم حزب الله واتهمات بالتورط في عملية الاغتيال.
تسبب اغتيال الحريري في عاصفة من الاحتجاجات، اضطرت على إثرها القوات السورية إلى الانسحاب من لبنان في 26 أبريل 2005. جاء هذا الانسحاب بعد 29 عاما من الانتشار الذي بلغ ذروته بوصول عدد القوات السورية في لبنان إلى 40 ألفا.
وفي يوليو من العام 2006، اختطف حزب الله جنديين إسرائيليين، الأمر الذي أشعل حرب الـ 34 يوما مع إسرائيل التي أسفرت عن مقتل 1400 شخصا، من بينهم 1200 لبناني.
وفي مايو 2008، شهدت بيروت ومناطق أخرى اشتباكات بين عناصر حزب الله، ومؤيدي الحكومة، لتخلف نحو 100 قتيل.
بعد محادثات لتجنب تجدد الحرب الأهلية، شكل لبنان حكومة وحدة وطنية من 30 عضوا، كان لحزب الله وحلفاؤه فيها حق النقض.
وفي يونيو 2009، فاز تحالف مناهض لسوريا بقيادة سعد الحريري، نجل رفيق الحريري، في الانتخابات التشريعية، وتولى رئاسة الحكومة، وبعد شهور من الجمود مع المعسكر الذي يقوده حزب الله، لم يتمكن من تشكيل حكومة إلا في نوفمبر.
وفي يناير 2011، تسبب حزب الله في انهيار حكومة الوحدة. وفي يونيو من العام نفسه، تم تشكيل حكومة جديدة يهيمن عليها حزب الله، ومع دخول أبريل 2013، أكد حزب الله انتشار مقاتليه في سوريا للقتال في الصراع الدائر، إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد، وفي السنوات التالية، أرسل الآلاف من مقاتليه عبر الحدود، بجانب مساعدات عسكرية ومالية من إيران الدولة الشيعية ذات الثقل الإقليمي.
وفي أكتوبر 2016، أصبح الجنرال السابق المدعوم من حزب الله ميشيل عون رئيسا للبنان، منهيا 29 شهرا من الفراغ السياسي نتيجة الخلاف داخل البرلمان المنقسم بشدة.
وفي مايو 2018، اكتسح حزب الله وحلفاؤه أول انتخابات تشريعية منذ 2009، وخسر حركة المستقبل بقيادة الحريري ثلث مقاعدها، لكن تم تنصيبه رئيسا للوزراء لولاية ثالثة، واستمرت مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة حتى أواخر يناير 2019، وسط إلقاء اللوم على حزب الله في التأخير.
في سبتمبر 2019، شهدت بيروت تظاهرات ضمت المئات احتجاجا على تدهور الأوضاع الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة، والناتجة بشكل كبير عن انهيار العملة المحلية، ثم في 17 أكتوبر 2019، هزت شوارع بيروت احتجاجات غير مسبوقة عابرة للطائفية، وسط اعتراض المتظاهرين على إجراءات التقشف، والفساد الحكومي وضعف البنية التحتية، ف الناهية وفي 29 أكتوبر، أعلن الحريري تقديم استقالة حكومته.
في 19 ديسمبر، تم تعيين الأكاديمي غير المعروف حسن دياب، بدعم من حزب الله، رئيسا للوزراء ورفضه المحتجون على الفور، بعدها تحديدا في 21 يناير 2020، تم الكشف عن الحكومة الجديدة، المشكلة من معسكر سياسي واحد، وهو معسكر حزب الله الموالي لإيران وحلفاؤه، الذين لديهم أغلبية برلمانية، في 30 أبريل الماضي، تخلف لبنان عن سداد ديونه السيادية لأول مرة في تاريخية، وتبنى خطة لإنقاذ الاقتصاد وتعهد بإصلاحات، قبل أن يستقيل وزير الخارجية اللبناني في أغسطس احتجاجا على سوء إدارة الحكومة للأزمة.
في النهاية وإلى جانب من الأسباب المباشرة أو المسؤول عن حادث انفجار مرفأ بيروت الأليم، كانت الأوضاع في لبنان تبشر بتلك الكارثة، ولا شك أن الانفجار الهائل أضاف بعدا مأساويا لجملة الأزمات المعيشية والاقتصادية والسياسية بل والصحية التي سيعيش تحت وطأتها اللبنانيون وهم وحدهم من يتحمل أعباء التكاليف إن كانوا ما زالوا قادرين في الأساس على حملها.