ألغاز العلاقات بين روسيا وتركيا من سوريا إلى ليبيا
الأربعاء، 15 يوليو 2020 03:11 م
يرى المحللون الروس أن من أهم إيجابيات التدخل العسكري الروسي في سوريا جذب تركيا نحو روسيا وابعادها تدريجيا عن واشنطن وعن الأوروبيين، وهذا في حد ذاته إنجاز كبير يحسب لموسكو، وللرئيس بوتين بالتحديد، لأنه استطاع استغلال ظروف النظام التركي ومشاكل أردوغان داخل تركيا، وكذلك المشاكل بين أردوغان والأوروبيين، ومشاكله مع واشنطن، وسعى بوتين إلى التقارب مع أردوغان، وذلك رغم حادث الطائرة الروسية في نوفمبر 2015 التي أسقطها الأتراك وقتل قائدها الروسي، والغريب أن العلاقات بدأت في التحسن بعد هذا الحادث، ولم يعوقها حادث اغتيال السفير الروسي في أنقرة عام 2016، وتطورت العلاقات بين موسكو وأنقرة سياسيا وعسكريا وأيضا اقتصادياً.
وتشكل العلاقات بين روسيا وتركيا لغزا صعباً لدى الكثيرين الذين يريدون أن يعرفوا هل العلاقات جيدة أم بها مشاكل، ويبدو أن كل من موسكو وأنقرة يتعمدان ذلك الغموض، وذلك حتى لا يثيروا حفيظة الغرب وغضبه، خاصة واشنطن وحلف الناتو اللذان يزعجهما كثيرا تطور العلاقات بين روسيا وتركيا، ويرى الكثيرون أن التعاون التركي مع روسيا هو الذي رجح كفة روسيا في سوريا وعجل بهزيمة داعش ورفاقها هناك، وتتهم واشنطن تركيا بالخيانة لأنها أعطت روسيا كل المعلومات والأسرار التي كانت تعرفها عن هذه التنظيمات عندما كانت تساعدهم وتهرب لهم النفط الذي يسرقونه من سوريا عبر أراضيها، وكانت تتولى تسريبهم عبر حدودها إلى سوريا، ويبدو بالفعل أن ما أعطته تركيا لروسيا من معلومات ساعد بشكل كبير على التعجيل بالقضاء على معظم هذه الجماعات الإرهابية في سوريا وتحرير معظم أراضي سوريا منهم.
العلاقات بين روسيا وتركيا تنمو في الجانب الاستراتيجي والعسكري، وزاد تطور العلاقات مع حصول تركيا على منظومة الصواريخ الروسية (إس 400)، والذي أثار مشاكل كثيرة وكبيرة بين أنقرة وواشنطن، وحذرت الولايات المتحدة مرارا تركيا من تداعيات شراء منظومات "إس-400"، قائلة إن هذه الأسلحة لا يمكن تطابقها مع نظام الدفاع لدول الناتو، وهددت بفرض عقوبات.
من جانبه أعرب حلف شمال الأطلسي "الناتو" عن قلقه البالغ بعد إعلان تركيا بدء تسلم أجزاء من منظومة الدفاع الصاروخية الروسية "إس 400". واعتبرت مجلة "شتيرن" الألمانية، أن شراء تركيا أربع بطاريات "إس-400" من روسيا، قد يخلق مشكلة عويصة يستعصي حلها على الناتو.
رغم التقارب الواضح بين موسكو وأنقرة منذ نحو عامين مضيا، إلا أن الأحداث على الساحة السورية وكذلك في ليبيا تبدو وكأنها لا تعكس حقيقة التوافق بين روسيا وتركيا، بل توحي للكثيرين بوجود خلافات كبيرة بينهما، إلا أن هذه الخلافات لم تظهر للعيان ولم يرى أحد معالمها من بعيد أو قريبـ والتصريحات من الجانبين في هذا الشأن لا توحي بجدية الخلافات، رغم أن تصرفات القيادة التركية تبدو للجميع أنها ضد توجهات روسيا في سوريا وليبيا، هذا الأمر يصعد الجدل على الساحة السياسية الدولية حول العلاقات بين البلدين، هذه العلاقات التي عبرت واشنطن مراراً وتكرارا عن قلقها الشديد من تطورها.
حول الأزمة الليبية، يبدو التناقض واضحاً بين موسكو التي تعلن عن موقفها في ليبيا بأنه محايد ويدعم التفاهم بين أطراف النزاع هناك، بينما تدعم موسكو بشكل غير مباشر قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر، وبين دعم تركيا لحكومة السراج وإرسالها قوات ميليشيات وأسلحة لدعمه ضد قوات خليفة حفتر، ورغم هذا التناقض الواضح بين موسكو وأنقرة في ليبيا، إلا أن روسيا هي أقل الدول والجهات التي توجه انتقادات لأنقرة ولأردوغان في ليبيا، الأمر الذي يدهش الكثيرين، ويجعل البعض يتصور وجود اتفاقات خفية بين بوتين وأردوغان في ليبيا، خاصة وأن أردوغان صرح بوجود تنسيق بينه وبين موسكو في كل من سوريا وليبيا.
ويرى محللون روس أن روسيا مستفيدة من تدخل تركيا السافر في ليبيا حتى يشتعل غضب الأوروبيين ضد أردوغان فلا يفكرون في دعمه والخضوع لتهديداته بإغراق أوروبا باللاجئين، خاصة وأن الأوروبيين كانوا منحازين تماما لحكومة الوفاق ورئيسها السراج، لولا تدخل أردوغان في ليبيا الذي غير كثيراً في الموقف الأوروبي، ولو عارضت روسيا تدخل تركيا في ليبيا فسيبدو أنها تدعم الجيش الوطني وقائده خليفة حفتر، مما قد يدفع الأوروبيين لدعم حكومة السراج منعاً لنمو نفوذ روسيا في ليبيا.
ويدور الحديث في الأوساط الإعلامية الروسية حول دور خفي لروسيا في ليبيا، خاصة حول تعاون روسيا مع مصر ودولة الإمارات في ليبيا في دعم الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر ضد التدخل التركي العسكري في ليبيا، ونشرت صحيفة "أوراسيا ديلي" الروسية مقالاً في العاشر من يوليو حول الضربة التي وجهتها عدداً من الطائرات في الخامس من يوليو للقوات التركية الموجودة في قاعدة الوطية العسكرية التي تسيطر عليها تركيا في غرب ليبيا، على بعد 140 كيلومترا جنوب طرابلس، وقالت بتلميح أنها "بدت وكأنها طائرات تابعة للجيش الوطني الليبي"، مشيرة إلى أن الضربات كانت دقيقة للغاية، مما يعني فيما بين السطور أنها أعلى من مستوى خبرات الجيش الوطني الليبي وأنها من تنفيذ قوات دول كبيرة ذات خبرات عالية في القتال، وقالت الصحيفة الروسية أن وسائل الإعلام الرسمية التركية أكدت واقعة الهجوم والأضرار الكبيرة الناجمة عن الغارة الجوية، وهناك رواية منتشرة في الإعلام التركي تقول أن الهجمات "نفذتها طائرات إماراتية أقلعت من قاعدة سيدي براني في مصر". وهكذا، كما قالت الصحيفة، جرى التلميح إلى أن الإمارات ثأرت، بهذه الطريقة، لخسارتها قاعدة الوطية التي كانت تحت سيطرة قوات حفتر في منتصف مايو، ولفقدانها منظومة بانتسير-إس1 المضادة للطائرات الروسية الصنع التي كانت موجودة فيها وزودت الإمارات المشير حفتر بها.
هذا الحديث حول التدخل الإماراتي والمصري عسكرياً في ليبيا، تحاول بعض الجهات ربطه بقضية الجاسوس الروسي إيفان سافرونوف، مستشار رئيس وكالة الفضاء الروسية "روس كوسموس" لشؤون السياسة المعلوماتية، الذي ألقت السلطات الروسية القبض عليه في الأسبوع الأول من يوليو الجاري بتهمة خيانة الوطن وإمداد جهات أجنبية بمعلومات حول التعاون العسكري الروسي السري مع دول عربية، وإمدادها بأسلحة استراتيجية وطائرات مقاتلة حديثة، والتي استخدمت في الغارة الأخيرة على قاعدة الوطية في ليبيا، واتهمت حكومة الوفاق الليبية دول أجنبية بشن هذه الغارة بالطائرات التي أمدتها بها روسيا، لكنها لم تحدد هذه الدول الأجنبية، ودار الحديث عن أن المقصود هنا هما الإمارات ومصر.
وفي موسكو تم فرض طابع السرية، على مواد قضية إيفان سافرونوف، وأعلن إن محاكمة سافرونوف ستجري خلف أبواب مغلقة.
وكانت وسائل الإعلام الروسية قد ربطت بين اعتقال سافرونوف ومقالة كتبها في صحيفة "كوميرسانت" الروسية حول عقد تزويد روسيا مصر بمقاتلات "سوخوي-35"، واعتبرت أن الأمر ربما له علاقة بذلك بسبب تهديد الولايات المتحدة للقاهرة بفرض عقوبات عليها في حالة استلامها للطائرات الروسية.
الإعلام الروسي لا يتناول ألغاز العلاقات بين روسيا وتركيا، ومن الواضح أن هناك ترحيب على الساحة الداخلية في روسيا بتطور العلاقات مع تركيا، ويرجع المحللون السبب في ذلك أن روسيا عانت كثيراً من قبل بسبب تدخلات تركيا في الأمن الداخلي لروسيا، ودعم أنقرة للمجاهدين المسلمين في شمال القوقاز الروسي، وتركيا كانت الداعم الأكبر للمقاتلين الشيشان ضد روسيا، كما أنها تعلن صراحة عن دعمها للمسلمين الأتراك المناهضين لروسيا في شبه جزيرة القرم، ومن الملاحظ أن الأمن داخل روسيا استقر إلى حد كبير مع تحسن العلاقات بين روسيا وتركيا، وبعد أن أوقفت أنقرة دعمها للمناهضين لنظام الرئيس بوتين في روسيا، الأمر الذي يعتقد الكثيرون أنه كان من الأهداف الرئيسية للرئيس بوتين في تحسين العلاقات مع تركيا وجذبها إلى روسيا، هذا إلى جانب سعي الرئيس بوتين لتقليص تواجد حلف الناتو في البحر الأسود، وسعيه إلى خلخلة وحدة الحلف بسحب تركيا منه وربطها عسكرياً مع روسيا، وهذه الخطط والأهداف هي التي يبرر بها البعض تغاضي الرئيس بوتين عن تصريحات أردوغان الحادة وتصرفاته في سوريا وليبيا.
العلاقات بين روسيا وتركيا مستمرة في تطورها، لكنها ستظل، كما يقول البعض، محاطة بالألغاز والجدل، وأيضا التناقضات والخلافات في المواقف، لكنها لن تتأثر، وذلك لأن الذي يديرها بحنكة وخبرة كبيرة هو رجل المخابرات السوفيتية فلاديمير بوتين، الذي يصعب على الكثيرين فهم تصرفاته وأهدافه.