الطبيب المتوفى ومحسوبية رجاء الجداوي
الإثنين، 25 مايو 2020 06:35 م
غاضبًا، قال لي صديقي: أرأيت ماذا فعلت الوساطة والمحسوبية، التي أدت إلى تدخل وزيرة الصحة شخصيًا؛ لتوفير كل سبل الدعم والعلاج للفنانة رجاء الجداوي، المصابة بكورونا، وإيجاد مكانٍ لها بمستشفى العزل، وبين ما حدث مع الطبيب وليد يحيى، الذي «داخ السبع دوخات» من أجل عمل مسحة له، وتوفير مكان له بأي مستشفى لعلاجه من الفيروس الذي يعالج مرضاه منه؟ هل يعجبك هذا الوضع؟ وماذا تفعل لو كنت مكان زملائه الذين غضبوا لزميلهم، وتقدموا باستقالات جماعية؛ تضامنًا مع زميلهم؟
ثم ألا تعلم أن المادة 18 من الدستور تنص على أن: «لكل مواطن الحق فى الرعاية الصحية المتكاملة وفقًا لمعايير الجودة.. ويجرم الامتناع عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة»؟
طلبت من صديقي أن يهدئ من روعه، وقلت له: صحيح أن المادة 18 من الدستور تنص على ذلك.. ولكن ألا تعلم أن في مصر «دستورين»؟ وأن «الدستور المكتوب»، المحفوظ في الكتب، والموضوع على الأرفف، وحبيس الأدراج، أضعف كثيرًا من «الدستور الشفهي» الساري بين الناس، والمعمول به، والمطبق على أرض الواقع؟
هل تتذكر زميلنا «فلان» الذي ما إن حصلنا على الثانوية العامة، حتى «داخ والده، وحفيت قدماه»؛ ليأتي له بـ«واسطة كبيرة» ليتمكن من إلحاقه بكلية الشرطة، وهو الآن «رتبة كبيرة»؛ وكثيرًا ما نستعين بخدماته، خاصة في وقت الأزمات؟
وهل تتذكر زميلنا فلان الذي حصل على تقدير «مقبول» في ليسانس الحقوق، وعلى الرغم من ذلك عُيِّنَ في النيابة العامة؛ بتدخل شخصي من والده الذي كان مسؤولًا كبيرًا، وكان يشغل منصبًا مرموقًا.. وها نحن الآن «نتدلع على حسه»، و«نتفشخر» بأننا من أصحاب أو من دائرة معارف سيادة المستشار؟
وهل تتذكر أنك شخصيًا حصلتَ على رخصة القيادة، على الرغم من عدم ذهابك لوحدة المرور، وإجراء الاختبارات اللازمة.. وما كنت ستحصل عليها بهذه الطريقة لولا أن المسؤول عن التراخيص في هذه الوحدة هو صديقنا الأنتيم؟
وهل تتذكر أنك حصلت على استثناء من وزير التعليم العالي؛ كي تُقبل ابنتك في إحدى الكليات، على الرغم من أن مجموعها كان أقل من المقرر بواحد في المئة، وأن عشرات، بل مئات الطلاب لم يحصلوا على نفس استثناء ابنتك؛ لأنهم لم يعرفوا إلى الوزير طريقًا؟
وهل تتذكر يوم أن قلبنا أحد أشهر المستشفيات رأسًا على عقب؛ لنحصل على خدمة طبية استثنائية، بينما عشرات المرضى- «الذين ليس لهم ضهر»- كانوا ينتظرون دورهم في طرقات وأروقة المستشفى.. على الرغم من أننا لم نطلب سوى حقنا في خدمة طبية وعلاجية وفق تعاقدنا مع هذا الصرح الطبي؟
هل تتذكر أننا اتصلنا بزميلنا «فلان» ليسهل لنا إجراءات الحصول على بطاقة الرقم القومي- وهي بالمناسبة خدمة «تافهة جدًا»- دون الوقوف في الطوابير مع أقراننا الذي كانوا يقفون تحت لهيب الشمس..؟
هل تتذكر عشرات ومئات المواقف التي حصلت أنت فيها على استثناء، أو أحدًا من أقاربك، أو من دائرة معارفك؟
يحدث ذلك على الرغم من أن الدستور والقانون يجرمان الواسطة والمحسوبية، واستغلال النفوذ.. لكننا لا نعترف بالدستور المكتوب، ونفضل عليه الدستور الشفهي الذي يمنحنا استثناءات وتسهيلات دون غيرنا..
فنحن نكره المحسوبية طالما كانت لغيرنا.. وندين الواسطة طالما كانت لغيرنا.. ونرفض الاستثناء طالما كان لغيرنا.. ونكره الرشوة طالما لن تدخل جيوبنا.. ونحارب الفساد طالما لن نستفيد منه.. ولا نعترف بالدستور والقانون طالما يمنح الحق لغيرنا.. فكلنا- إلا مَن رحم ربي- نتمنى في دواخلنا أن نكون مثل رجاء الجدواي، وأكثر من رجاء الجداوي.. ولكنها «قلة الحيلة»!
قال لي صديقي: معنى ذلك أنك توافق على ما حدث؟
فقلت: أنا مع حق الفنانة في العلاج، وتقديم أفضل رعاية طبية لها، هي وغيرها، بنفس المستوى من السرعة، والتميز، والاهتمام.. ومع أن يكون الاستثناء الذي حصلت عليه رجاء الجداوى هو القاعدة الطبية المأمولة.. أما الطبيب وليد يحيى، فهو ضحية منظومة متهالكة، وضحية وزيرة لم تستطع إسعاف أحد أطبائها، وتوفر له مكانًا للعزل..
كما وليد يحيى ضحية نقابة الأطباء، التي راحت تتاجر به على مواقع التواصل الاجتماعي.. وعملت على «تهييج» الأطباء، وتأجيج مشاعرهم، حتى تقدم بعضهم باستقالات جماعية، تضامنًا مع زميلهم.. وكأن الاستقالة هي الحل، أو كأنها أفضل ورقة ضغط على وزارة الصحة، وعلى الدولة.. مع أن هذه الاستقالات- في هذا التوقيت الحرج- إثمها أكبر من نفعها.. وقد تُخسر الأطباء كثيرًا من تعاطف المصريين معهم، ومساندتهم في مطالبهم المشروعة والعادلة.. فالشعب ينظر إلى الأطباء- الآن- باعتباره جنودًا في أرض المعركة، عليهم أن لا يتركوا الميدان مهما كانت الظروف والأسباب.. وما إن تضع الحرب أوزارها، ولم تستجب الحكومة لمطالبهم، حينئذٍ لن يلومهم أحد.