«القوة القاهرة».. حالة استثنائية للاعتذار بالجهل بأحكام القانون الجنائي
الأربعاء، 19 فبراير 2020 06:00 م
الاعتذار بالجهل بأحكام القانون الجنائي.. واحدة من الأمور التي قد يواجهها قضاة المحاكم أثناء نظر القضايا، وباتت من الثوابت القضائية التي لايجور الاعتداد بها إذ أن هذا الاعتذار قد يساعد المجرم على الإفلات من العقاب بادعاء عدم العلم، ولهذا كان العلم بأحكام القانون الجنائي مفترض من واقع نشر القانون في الجريدة الرسمية، وذلك بخلاف الجهل بالواقع إذ من شأنه تخلف ركن العلم اللازم لقيام الجريمة.
ونظراً لصرامة هذه القاعدة عمد القضاء إلى التخفيف من حدتها، فأجاز الاعتذار بالجهل متى انصب على قاعدة قانونية غير جنائية تدخل عنصرا في الجريمة، معتبرا ذلك جهل مختلط ما بين الواقع والقانون يعد برمته جهل بالواقع ينفي القصد الجنائي متى اثبت المتهم أنه تقص وتحري أو لم يكن في مقدوره العلم ولقد أيد الفقه القضاء في ذلك نظرا لسلامة أساسه.
ويرصد «صوت الأمة» في السطور التالية، الإجابة عن سؤال، متي يجوز الاعتذار بالجهل بأحكام القانون الجنائي؟ في الوقت الذي يقع فيه العديد من المواطنين لأزمة أنهم لا يعلمون أن هذا الأمر أصبح جُرماَ يعاقب عليه القانون أو أن الجريمة أصبحت عقوبتها أشد، يأتي ذلك في الوقت الذي تصدر فيه حزمة من التشريعات ويتم التصديق عليها – بحسب الخبير القانوني والمحامي بالنقض ياسر سيد أحمد.
في البداية – علينا أن نعلم أن "القاعدة القانونية" تمر عادة بعدة مراحل حتى تصبح ملزمة للكافة وحتى تطبق على جميع الأفراد المخاطبين بها، وتعتبر آخر مرحلة هي نشر القانون في - الجريدة الرسمية - وبمجرد تمام إجراءات نشر القانون في الجريدة الرسمية يفترض علم الكافة به، ولا يقبل من أحد "الاعتذار بالجهل" بالقاعدة القانونية ليفلت من تطبيقها والخضوع لأحكامها – وفقا لـ"أحمد".
والواقع أن الجهل بـ"القاعدة القانونية" لا يعتبر عذراً للإعفاء من تطبيقها، وافتراض العلم بالقاعدة القانونية قاعدة موضوعية لا يجوز مخالفتها وهي مبنية على اعتبارات العدالة والمساواة بين الأفراد أمام القانون، فاعتبارات العدالة والمساواة تقتضي ألا يفتح الباب أمام الاعتذار بجهل القانون، وإلا سادت الفوضى وفتح الباب للتحايل للهروب من تطبيق القاعدة القانونية.
قاعدة "عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون" تسري على كافة القوانين أياً كان مصدرها، وسواء كانت قاعدة آمرة أو قاعدة مكملة، واستثناءاً من هذه القاعدة يجوز الاعتذار بالجهل بالقانون في حالة استحالة العلم بالقانون لوجود - قوة قاهرة - تحول دون وصول الجريدة الرسمية إلى إحدى المناطق بسبب فيضان أو حرب أو ثورة بحيث يستحيل أن تصل الجريدة الرسمية إلى هذا المكان، حيث أنه إذا ما تم نشر التشريع بالجريدة الرسمية ودخل حيز التنفيذ، قامت قرينة قانونية على علم الأفراد به، ولا يجوز بحسب الأصل إثبات عكس هذه القرينة كالتالي:
تعتبر قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون من القواعد المسلم بها في معظم دول العالم، ومؤداها أن التشريع متى أصبح نافذا فإنه يسري في مواجهة جميع الأفراد المخاطبين بأحكامه، ولا يعفى أي منهم من الخضوع له، سواء علموا به أو لم يعلموا، وتسري قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون في حق كافة الناس، فلا يحق لأحدهم أن يحتج بعدم علمه بأحكام القانون أياً كان سبب عدم العلم.
ويُضيف "أحمد" بناء على ذلك، لا يمكن لعائد من الوطن أن يعتذر بجهله القانون الذي يسري في حقه، بحجة صدوره حالة وجوده خارج البلاد، كما لا يقبل نفس العذر من شخص أمي بحجة أنه لا يستطيع قراءة الجريدة الرسمية التي نشر فيها القانون، بل لا يجوز لأجنبي قدم إلى مصر وأتى ما يستوجب تطبيق القانون المصري عليه أن يعتذر بجهله حتى ولو كان حسن النية لأن حكم هذا القانون يخالف تمامأ المعمول به في بلده.
ولعل فكرة المساواة بين الأفراد أمام القانون هي- الأساس الذي تقوم عليه قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، فالقانون ينبغي أن يطبق على المجتمع، ولا يجوز لأحد أن يفلت من حكم القانون لأسباب خاصة به، كعدم علمه بالقانون أو ادعائه عدم العلم به، ولا شك في أن القول بغير ذلك يعني الإهدار الكامل للغاية التي من أجلها أنشأت القواعد القانونية، وهي رعاية مصالح الأفراد بالمحافظة على النظام في المجتمع.
وقاعدة عدم جواز الاعتذار بجهل بالقانون تسري على كافة القواعد القانونية، فهي ليست قاصرة على التشريع فقط، بل تمتد لتشمل كافة القواعد القانونية الأخرى مثل القواعد العرفية أو القواعد الدينية، فكما لا يستطيع أي رد أن يحتج بجهله قاعدة تشريعية معينة لاستبعاد تطبيقها، فهو لا يستطيع كذلك أن يحتج بجهله لقاعدة عرفية أو دينية فالمعروف عرفا المشروط شرطا، كذلك تسري قاعدة عدم جواز الجهل بالقانون على جميع القواعد القانونية الآمرة أو المكملة، سواء أكانت من قواعد القانون الخاص أم العام.
أيضا لا يفوتنا أن نشير إلى أن قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون تسري في حق جميع الأفراد أجانب كانوا أم وطنيين، حكاماً كانوا أم محكومين، فلا يستطيع القضاة على سبيل المثال أن يطلبوا من الخصوم في الدعوى تحديد القانون الواجب التطبيق على النزاع المطروح، إذ يفترض علم القاضي بالقانون الواجب التطبيق وتطبيقه من تلقاء نفسه.
وإذا كانت القاعدة هي أنه لا يعذر أحد بجهله القانون، إلا أن هذه القاعدة ليست على إطلاقها، إذا يرد عليها استثناء وحيد يتمثل في حالة القوة القاهرة التي تحول دون وصول الجريدة الرسمية إلى جزء من إقليم الدولة، كاحتلال الأجانب لمنطقة معينة أو حدوث زلزال أو فيضان ترتب عليه عزل أفراد منطقة معينة عن باقي أجزاء الوطن، وبالتالي يمكن للأفراد في مثل هذه الظروف أن يحتجوا بجهلهم القانون مع بذل الجهد الشديد لتوضيح أن دفعهم بهذا الدفع والدفاع مبنى على سند من الواقع يؤيده تأييدا لا تنال منه أوهن الشكوك.
وعلى الرغم من أنه لا يوجد نص تشريعي يقرر هذا الاستثناء على قاعدة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقانون، إلا أن الرأي الغالب في الفقه يذهب إلى أنه يجوز الاحتجاج بالجهل بالقانون وطلب الإعفاء من تطبيقه في حالة وحيدة وهي القوة القاهرة المشار إليها آنفا، إذ لا شك في أن مقتضيات العدالة لا تقبل إلزام الأفراد بما ليس في مقدرتهم، وبما تحول بينهم وبين العلم به أسبابا لا قبل البشر بالسيطرة عليها، وهذا الأمر في مجمله لا يزال موضع اجتهاد فقهى حامى الوطيس.
بعض أحكام محكمة النقض بهذا الشأن:
1-العلم بالقانون مفترض في حق الكافة بمجرد نشره في الجريدة الرسمية المتاح للكافة الاطلاع عليها وأن الجهل بالقانون أو الغلط في تفسيره لا يعد سبباً لامتناع المسئولية الجنائية ولا ينفي القصد الجنائي إذ أن العلم بعدم المشروعية ليس من العناصر التي يتعين على المتهم أن يعلم بها فهو لا يعد عنصر من عناصر القصد الجنائي ولا يمكن أن يتخذه المتهم ذريعة له في عدم مسئوليته عن الواقعة ومن ثم فإن عدم علم المتهم أن المشرع يؤثم فعله لا أثر له على الواقعة المجرمة ولا ينفي مسئوليته عنها، طبقا لحكم المحكمة الاقتصادية ط 28/ س 2013 ق.
2-لا يقبل بعد ذلك من المتهم الاعتذار بالجهل بالسعر المقرر لأن الجهل بالقانون العقابي والقوانين المكملة له ليس بعذر فلا يسقط المسئولية.
3-الجهل بالقانون والغلط في فهم نصوصه لا يعتبر عذراً ينتفي به القصد الجنائي.
4-من المقرر أن الجهل بالقانون أو الغلط في فهم نصوصه لا يعدم القصد الجنائي باعتبار أن العلم بالقانون وفهمه على وجهه الصحيح أمر مفترض في الناس كافة، وإن كان هذا الافتراض يخالف الواقع في بعض الأحيان بيد أنه افتراض تمليه الدواعي العملية لحماية مصلحة المجموع، ولذا قد جرى قضاء هذه المحكمة أن العلم بالقانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له مفترض في حق الكافة، ومن ثم فلا يقبل الدفع بالجهل أو الغلط فيه كذريعة لنفي القصد الجنائي.
تطبيقات محكمة النقض
واعتبر القضاء الجهل بخلو الزوجين من الموانع الشرعية عند مباشرة عقد الزواج يعد جهل بحكم قاعده غير جنائية مقرره في قانون الأحوال الشخصية، أو بالأحرى جهل بالواقع ينفي القصد الجنائي في جريمة التزوير متي كان هذا الجهل مغتفر، وفي ذلك قضت محكمة النقض بأن - لما كان الحكم المطعون فيه بعد أن عرض لواقعة الدعوى وأدلة الثبوت التي استندت إليها سلطة الاتهام خلص إلى القضاء ببراءة المطعون ضدهما من الجريمة المسندة إليهما في قوله:
"وحيث إنه من المقرر قانوناً أنه متى كانت الواقعة الثابتة بالحكم هي أن المتهمين حين مباشرة عقد النكاح وهو مشروع في ذاته قررا بسلامة نية أمام المأذون وهو يثبته لهما عدم وجود مانع من موانعه كانا في الواقع يجهلان وجوده وهي القاعدة الشرعية التي تقرر تحريم الجمع بين الزوجة وابنت اختها، وكانت المحكمة بناء على وقائع الدعوى وأدلتها المعروضة عليها قد اطمأنت إلى هذا الدفاع وعدتهما معذورين يجهلان وجود ذلك المانع.
وأن جهلهما في هذه الحالة لم يكن لعدم علمهما بحكم أحكام قانون العقوبات وإنما هو جهل بقاعدة مقررة في قانون آخر هو قانون الأحوال الشخصية وهو جهل مركب من جهل بهذه القاعدة القانونية وبالواقع في وقت واحد مما يجب قانوناً في المسائل الجنائية اعتباره جهلاً بالواقع، وكان الحكم قد اعتبر الظروف والملابسات التي أحاطت بهذه دليلاً قاطعاً على صحة ما اعتقده من أنهما كانا يباشران عملاً مشروعاً للأسباب المقبولة التي يبرر لديها هذا الاعتقاد مما ينتفي معه القصد الجنائي الواجب توافره في جريمة التزوير، وذلك طبقا للطعن رقم 41358 لسنة 75 جلسة 2012/10/10.
متي أتضح أن جهل المتهم بالقاعدة غير الجنائية لا يغفر؟
ولكن متي أتضح أن جهل المتهم بالقاعدة غير الجنائية لا يغفر؟ فلا يصح له التمسك بالاعتذار بالجهل، ويتحقق ذلك في الأحوال التي لا تتطلب خبرة خاصة في العلم بموانع الزواج، كزواج المسلمة من مسيحي أو عدم الزواج من ذات المرأة بعد الطلقة الثالثة، إلا إذا تزوجه بآخر، ولهذا قضت محكمة النقض بأن الإسلام يعد من الموانع الشرعية لزواج المسلمة من مسيحي، ومن ثم فإن إقرار الطاعنة المسلمة بخلوها من الموانع الشرعية أمام الكاهن فى محضر خطبتها من مسيحي يتحقق به الاشتراك فى التزوير إذ من المقرر أن تغيير الحقيقة فى إثبات خلو أحد المتعاقدين من الموانع الشرعية مع العلم بذلك في محضر الخطبة يعد تزويرا وكانت الطاعنة مسلمة كما قررت بذلك بالأوراق وقام عليه دفاعها فى محضر الجلسة فإنه لا يجوز لها الزواج من آخر مسيحي لأن الإسلام يعتبر من الموانع الشرعية لزواج المسلمة بآخر مسيحي وإثبات الكاهن على لسانها بخلوها من الموانع الشرعية وإنها مسيحية أرثوذكسية مع علمها بقيام المانع يتحقق به جريمة الاشتراك في تزوير خطبتها ولا يجدي الطاعنة قالت انتقاء القصد الجنائي فى جريمة التزوير إذ ثبت إقرار الطاعنة فى محضر خطبتها بخلوها من الموانع الشرعية على خلاف الحقيقة ويكون منعاها غير سديد، وذلك طبقا للطعن رقم 17610 لسنة 60.