مسلسل يروى سيرته العطرة.. «بابا العرب» محطات في حياة «مثلث الرحمات»

السبت، 02 نوفمبر 2019 10:00 م
مسلسل يروى سيرته العطرة.. «بابا العرب» محطات في حياة «مثلث الرحمات»
البابا شنودة
عنتر عبد اللطيف

حكايات البابا شنودة مع الرهبنة ومدارس الأحد وصاحبة الجلالة.. متعدد المواهب «رجل دين وكاتب قصة وصحفى وشاعر وسياسى رافض لزيارة الأقباط إلى «القدس».. قصيدته الرائعة «أبواب الجحيم» أظهر فيها عظمة الكنيسة القبطية

تخرج فى كلية الضباط الاحتياط وأول دفعته.. خلال فترة الجيش تعلم النظام والجدية فى الحياة وخدمة الإنسان لنفسه

لم يكن بمقدوره أن يكون طبيبا لشدة حساسيته تجاه آلام الناس ففضل دراسة التاريخ

«جعلتك يا مصر فى مهجتى.. وأهواك يا مصر عمق الهوى.. إذا غبت عنك ولو فترة أذوب حنينا أقاسى النوى.. إذا ما عطشت إلى الحب يوما.. بحبك يا مصر قلبى ارتوى.. نوى الكل رفعك فوق الرؤوس.. وحقا لكل امرئ ما نوى».. كذا تحدث المتنيح البابا شنودة الثالث، البطريرك الـ117 فى تاريخ الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، عن عشقه لمصر، قبل أن يرحل عن دنيانا  فى 17 مارس 2012.
 
وتعتزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إنتاج فيلم يروى سيرته العطرة، ويلعب شخصية البابا الراحل فى الفيلم الفنان ماجد الكدواني ويحمل عنوان  «بابا العرب»، وهو اسم موفق من صناعه، لأن البابا شنودة تعدى تأثير شخصيته المحلية ليمتد عربيا وعالميا.
 
يعد نظير جيد، وهو اسمه قبل أن يترهبن ويحمل لقب «أنطنيوس السريانى» ثم لقب  البابا شنودة الثالث، عقب تنصيبه بطريركا ليصبح بابا استثنائيا فى تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية، فقد تعددت مواهب الرجل وكان كتلة من النشاط والمواهب تمشى على الأرض فهو رجل الدين، وكاتب القصة القصيرة، الصحفى، وهو «السياسى صاحب الموقف الشهير الرافض لزيارة الأقباط للقدس طالما الأراضى العربية ما زالت تقع تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلى، فضلا عن سلسلة مقالات أقرب للشعر بعنوان «انطلاق الروح»، والتى عنها يقول البابا المتنيح:  بدأت أشعر أن كل شىء فى العالم لا يشبع القلب من الداخل، كانت عملية الموت عن العالم أو موت العالم فى قلب الإنسان قد بدأت تستولى على قلبى، وتنمو فيه يوما بعد يوم، وكنت أعبر عن هذه الأحاسيس فى سلسلة مقالات كتبتها فى الفترة من 1951 حتى 1954 بعنوان «انطلاق الروح»، حيث ترهبنت فى سنة 1954، وبدأت أعد نفسى لهذا الأمر، وكنت مصمما عليها (الرهبنة) ماضيا نحوها، كان ذلك يعنى لى حياة الوحدة الكاملة، فعشت فى دير السريان واخترت لى اسم «أنطونيوس السريانى»؛ لأننى كنت أحب حياة الأنبا أنطونيوس أول راهب عاش حياة الرهبنة ووضع أسسها، ولأننى نشأت فى كنيسة الأنبا أنطونيوس فى شبرا»، ويضيف: «بعد أن أمضيت فى الدير فترة انطلقت إلى مغارة على بعد ثلاثة كيلومترات ونصف، وعشت فيها وحيدا، ثم ذهبت بعد ذلك إلى مغارة أخرى على بعد 12 كيلومترا من الدير، وعشت عزلة فيها، فكنت أقضى الأسابيع دون أن أرى وجه إنسان، وكانت تلك الأيام أسعد أيام حياتى وأقربها إلى الله».
 
محطات عديدة وزخم كبير تعج به حياة البابا الراحل، لكننا هنا سنكتفى بلمحات خاطفة من حياته منها كونه عضو نقابة الصحفيين المصرية، وهى المعلومة التى ربما لا يعرفها كثيرون، حيث منحت نقابة الصحفيين «البابا شنودة» عضوية النقابة عام 1966م، وكان رقم عضويته 156، أى قبل تنصيبه بطريركا للكنيسة الأرثوذكسية بـ 5 سنوات، ويرجع السبب لمنح نقابة الصحفيين عضويتها للبابا الراحل كونه رئيسا لتحرير مجلتى «مدارس الأحد» و«الكرازة».
وللبابا المتنيح حكاية مع مدارس الأحد، يرويها المؤرخ عزت أندراوس، فى موسوعة تاريخ أقباط مصر قائلا: «بدأ نظير جيد خدمته فى مجال مدارس الأحد عام 1939 بكنيسة السيدة العذراء بمهمشة، التى كانت كنيسة الكلية الإكليريكية فى ذلك الوقت، وكانت فى فناء الكلية، وفى عام 1940 أنشأ فرعا لمدارس الأحد فى جمعية الإيمان بشبرا، ولنشاطه الكبير ضمه الإرشيدياكون حبيب جرجس للجنة العليا لمدارس الأحد، أما شهرته فى الخدمة فقد توجت فى مجال الشباب بكنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا، حيث كان متحدثا لبقا وممتازا فتجمع النشء الجديد حول خدمته وجذبهم إلى الروحانيات التى تملأ الكتاب المقدس.
 
وكان اجتماع الشباب بهذه الكنيسة مساء كل أحد مكتظا بالشباب والخدام، وشاع نجاح خدمته فلم يكن حضور اجتماع الشباب مقصورا فقط على شباب الحى الذى تقع فيه الكنيسة، ولكنه اجتذب أيضا خداما وشبابا من كنائس وأحياء مختلفة، كانوا يحضرون من أماكن بعيدة، متحملين مشقة السفر ليستمعوا ويستفيدوا من موهبة الروح القدس المعطاة لهذا الشاب، فملأ الخادم نظير جيد كل مكان تطؤه قدماه بالإرشاد والتعليم.
 
ولم يكن نظير جيد، لبقا فحسب، لكن ظهرت له موهبة أخرى هى الكتابة وقرض الشعر- وفق عزت أندراوس- فبدأ إنتاجه الغزير بقصيدة رائعة بعنوان «أبواب الجحيم»، وفيها أظهر عظمة الكنيسة القبطية، وبعد سنتين على صدور مجلة «مدارس الأحد»، حمل مسئولية إدارتها وتحريرها واستطاع من خلال مسئولياته أن يعبر عن آماله وآمال الجيل الجديد من الشباب فى مستقبل الكنيسة القبطية فى القرن العشرين، فبدأ يوجه الفكر القبطى ويؤثر فيه وتبنى الكثيرون آراءه وأفكاره، فكتب فى كل نواحى المجتمع الكنسى القبطى ومشاكله.
 
قصة البابا شنودة مع مدارس الأحد رواها هو بنفسه أثناء تسجيله للفيلم الوثائقى  «همسة حب» قائلا : «فى سنة رابعة فى كلية الآداب اللى هيه سنة 46/47 حدث أمران، الأمر الأول أننى التحقت بالكلية الإكليريكية القسم المسائى وأنا طالب فى كلية الآداب، والأمر الثانى أننى بدأت أدرس فى مدرسة إنجليزية فى سراى القبة جدول بياخد الوقت كله فى سنة46/47  كنت فى تلك السنة أدرس فى فروع مدارس الأحد وأدرس فى مدرسة إنجليزية وكنت أدرس فى مدرسة ابتدائية وكنت طالبا فى الكلية الإكليريكية وكنت طالبا فى كلية الآداب وتخرجت سنة 47 وفى نفس الوقت تخرجت من كلية الضباط الاحتياط وكنت أول دفعتى، فترة الجيش علمتنا أشياء كثيرة، منها النظام والجدية فى الحياة وخدمة الإنسان لنفسه إلى ما فيها من فوائد صحية أيضا يتميز بها كل ضباط الجيش، وكنت جادا جدا فى عسكريتى وكنت محبوبا من زملائى».
 
أيضا كنت أدرس فى مدرسة ابتدائية لغة إنجليزية وكنت أدرس فى مدارس الأحد وكنت محررا فى مجلة مدارس الأحد وأول عدد صدر منها فى إبريل ١٩٤٧ كتبت فيه قصيدة هى، فى الحقيقة لم أكتبها وإنما ألقيتها فى مؤتمر عن الأحوال الشخصية قصيدة كم قسا الظلم عليك كم سعى الظلم عليك، بالمناسبة دى أقول لكم على حاجة غريبة فى الشعر يمكن مكنتش قلتها قبل كده خالص، كنت ساعتها فى سنة رابعة ثانوى، اللى هيه زى الثقافة، وأحد زملائنا توفى واختارونى نيابة عن الطلبة أن أقول كلمة فى الجنازة أو قصيدة، وأنا كنت متأثرا، وقلت شعرا مؤثرا، أول بيت، والستات بقوا يدمعوا، وتانى بيت وابتدوا يتنهنهوا، وتالت بيت يبكوا بصوت عالى وبعدين جالى القسيس وقالى كفاية كده يا ابنى فنزلت من على المنبر.
 
قلت لكم إننى التحقت بالكلية الإكليريكية، وكعادتى باستمرار الأول فى الكلية وتخرجت أيضا سنة 49 وكنت أول الخريجين بالقسم الليلى الجامعى وعينت بهيئة التدريس بالكلية وأصبحت حياتى حياة تكريس تقريبا ما عدا سنتين أو ثلاث قضيتها فى التعليم الثانوى وما عدا التدريس فى المدرسة الإنجليزية.
 
منذ ذلك الحين ازداد نشاطى جدا فى مدارس الأحد، حتى كنت أدرس فى العديد من الفصول، وفى كثير من اجتماعات الشباب، وصرت عضوا باللجنة العليا لمدارس الأحد، وصرت رئيسا لتحرير مجلة مدارس الأحد، وصرت مدرسا بمدارس الرهبان بحلوان، وأفتكر لما إخوتنا فى الجيزة أسسوا بيت التربية المسيحية بالجيزة، اللى بقى بيت المغتربين، جعلونى عضو مجلس إدارة فى هذا البيت، وطبعا ما كنا ندعى إطلاقا لحضور جلسات يعنى اسم عبارة عن ديكور، وبعد ثلاث سنوات تقريبا سقط نصف الأعضاء بالقرعة لكى ينتخب بدالهم وأنا كنت من الذين استمرت عضويتهم وفى إحدى المرات كنا فى زيارة الأستاذ حبيب جرجس مدير الكلية الإكليريكية ورئيس مدارس الأحد فقال له أحد أعضاء مدارس أحد الجيزة: يا حبيب بيه الأستاذ نظير جيد على يعنى عضو عامل معانا فى جماعة التربية، فأنا قلت له: هو عضو عامل وعامل عضو؟- يضحك- لأنى ما كنت أتدخل فى شئونهم إطلاقا، كنت عزوفا عن المسائل الإدارية كثيرا، وأفتكر فى مرة فى بيت مدارس الأحد اللى هوه بيصدر المجلة، كانت مجموعة الأستاذ إدوارد بنيامين قصاد مجموعة الأستاذ ميخائيل عياد، مجموعتان فى الانتخابات، وكل مجموعة تحب أنصارها هم اللى ينجحوا، وأنا كنت محبوبا من كلتيهما، ومش نجحت وأخدت معظم الأصوات، لا نجحت وأخدت كل الأصوات يعنى مجموع الأصوات كلها، كل الفريقين اختارونى، ولكن كل فريق عايز يكون رئيس مجلس الإدارة يكون منه، ومكسوفين منى إنهم يقولوا لى أنت واخد كل الأصوات وماتبقاش رئيس، فجوم فى أول اجتماع وقالوا إحنا بتوع مدارس أحد، ومش بتوع مدارس أحد، فإحنا نعمل قرعة، طبعا القرعة تيجى لأى واحد منهم وبعدين يتنازل إلى كبيرهم، فقام عملوا القرعة فوقعت علىّ أنا برضه، لكن أسلوبى كان غير أسلوبهم تماما، أنا لى الأسلوب الروحى فى الخدمة وهم ليهم الأسلوب الإدارى فى الخدمة.
 
المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى برئاسة الأنبا أرميا أصدر كتابا بعنوان «هكذا عاش.. وهكذا تكلم .. حكاية العمر كما رواها مثلث الرحمات قداسة البابا شنودة الثالث والذى يعد مذكرات للبابا الراحل ويسرد مقتطفات من حياته ومنها تسميته بشنودة  الثالث، وهو اللقب الذى حصل عليه عقب فوزه بالقرعة الهيكلية لخلافة البابا كيرلس السادس فى 31 أكتوبر 1971 حيث يقول البابا الراحل عن ذلك «كان اسمى شنودة حينما كنت أسقفا، ولم يتغير.. وأنا لم أختر هذا الاسم، وإنما البابا كيرلس هو الذى اختاره، ففى رسامتى الأسقفية غير البابا اسمى من أنطونيوس إلى شنودة والذى هو أحد مؤسسى الرهبنة فى الكنيسة، وله دير يسمى الدير الأبيض فى برية سوهاج، ويعتبر تاريخيا «أب للأدب القبطى»، وكان قديسا ذائع الصيت». 
 
ونترك هنا البابا شنودة ليتحدث عن طفولته- وفقا للمذكرات-  حيث يقول: «بدأت قصة حياتى منذ رأيت النور فى قرية «سلام» إحدى قرى محافظة أسيوط فى 3 أغسطس 1923 وتوفيت والدتى بعد ولادتى مباشرة، فقضيت أيام طفولتى الأولى فى الصعيد وكانت خطواتى المدرسية الأولى متعثرة فقد كنت طفلا يتيما، بعد انقضاء تلك المرحلة انتقلت إلى دمنهور، حيث كان شقيقى قد استقر هناك ودخلت رياض الأطفال وبعدها أمضيت المرحلة الأولى فى التعليم الابتدائى متنقلا بين دمنهور وأسيوط وبنها والقاهرة، وأذكر أننى كنت فى طفولتى مولعا بالقراءة إذ لم يكن حولى أطفال فى مثل سنى ألعب معهم، فكانت لعبتى المفضلة هى الكتب، فأقرؤها بنهم شديد، إلى درجة أنى قرأت كتاب «قادة الفكر» لطه حسين وقصة «سارة» لعباس العقاد وأنا فى سن الخامسة عشرة، وقرأت العديد من كتب الطب والاجتماع والأدب والقصص، وقرأت وأنا فى الرابعة عشرة قصصا تدور حول الثورة الفرنسية والروسية وكتبا لكثير من الأدباء والمفكرين، فقرأت قصص «شارلوك هولمز» فى البحث الجنائى وغيرها الكثير ودرست فى مدرسة الإيمان الثانوية بشبرا، وكانت المرحلة الثانوية تسمى «التوجيهية» أو «البكالوريا»، وفى البداية كنت منتسبا للقسم العلمى، ودائما الأول على الفصل، غير أننى حينما انتصف العام الدراسى بدأت أعيد التفكير فى مستقبلى، وقلت لنفسى: «إن الفرع العلمى سيؤهلنى للدراسة العلمية وربما انتهى إلى دراسة الطب، وليس بمقدورى إطلاقا أن أكون طبيبا، ذلك لأننى كنت حساسا جدا تجاه ألم الناس، حتى إنى كنت أغادر المنزل حين يكون أحد أفراد العائلة مريضا يكابد الأوجاع ويصرخ من الألم، فكيف سأكون طبيبا أو جراحا يفتح بطون الناس، فعزمت على الانتقال للقسم الأدبى».
 
 
وعن دراسته للتاريخ، ينتقل حديث البطريرك الراحل فيقول: «التحقت بجامعة فؤاد الأول “القاهرة حاليا”، كانت دراسة اللغات صعبة جدا لمن فى ظروفى، فالإنجليزية والفرنسية يلتحق بهما من تلقوا تعليمهم فى كل المراحل بهذه اللغة أو تلك، بينما اللغة العربية كان الانتساب إليها صعبا، إذ إن مدرسى اللغة العربية كانوا يجمعون بينها والدين الإسلامى، وبالتالى كان التحاق المسيحيين بالقسم نادرا، وهكذا وجدت أن دراسة التاريخ هى الأفضل بالنسبة لى، واستمريت فى دراسته حتى حصلت على الليسانس، وكانت المرحلة الجامعية بالنسبة لى مرحلة غنية سواء من ناحية الدراسة أو من ناحية النشاطات المختلفة، فقد كنت دائم الحيوية والنشاط وعضوا فعالا فى فرق الحفلات والرحلات، وربطتنى علاقات قوية بزملائى».
 
فكيف كان يرى البابا شنودة الرهبنة؟..  يجيب عن السؤال السابق البابا الراحل قائلا، إن الرهبنة كانت موجودة منذ القرن الثالث للميلاد وكانت لها جذورها فى العهد القديم قبل المسيح، ثم جاءت تجربة التصوف فى التاريخ الإسلامى، وجميعها تعنى الارتباط الروحى بالله.
 
كما نشر البابا شنودة العديد من المقالات فى الصحف تطرق فيها إلى موضوعات شتى، نكتفى هنا بنشر مقطع من مقالة رائعة له تكشف مدى تنوره بعنوان: «الحب ما هو؟ وأنواعه” نشرت فى العدد 4421 من جريدة الأهرام الصادرة بتاريخ 23 ديسمبر 2007 قال فيها: «سألنى البعض‏:‏ هل يمكن أن تحدثنا أو تكتب لنا عن الحب؟ أم أنك ـ كرجل دين ـ تتحرج من الخوض فى مثل هذه الموضوعات؟ فقلت‏:‏ كلا‏،‏ ليس هناك من حرج‏،‏ فليست الحساسية فى الموضوع الذى يتكلم فيه رجل الدين، إنما المهم فى الأسلوب الذى يتكلم به‏، وطريقة معالجة الموضوع بحيث تحتفظ بوقارها‏،‏ والحب على أنواع‏:‏ أهمها المحبة التى تربط بين الإنسان وخالقه، فالله تبارك اسمه ـ بسبب محبته لنا،  يتولانا بالرعاية والعناية‏، ويغدق علينا من كرمه وعطائه، ونحن نحب الله من أعماق قلوبنا‏،‏ وتظهر محبتنا له فى إيماننا به، وفى طاعتنا لوصاياه، وبأن نحيا حياة الفضيلة والبر التى ترضيه، ‏وكما نحب الخير، نحب الغير‏:‏ نحب الناس جميعا‏،‏ لا بالكلام ولا باللسان‏،‏ بل بالعمل والحق نخلص لهم ونعمل على إسعادهم بقدر طاقتنا‏، وفى مقدمة هؤلاء‏:‏ الأهل والأقارب والأصدقاء، وكل من يسمح الله بأن يوجدوا فى طريقنا لكى نعمل معهم خيرا، ومن الحب السامى أيضا حب الوطن‏، وهو غريزة فى الإنسان بحيث يحب بلده وشعبه بالمعنى الواسع،‏ كما يحب قريته أو الحى الذى ولد فيه‏،‏ أو الذى فيه ذكريات،‏ انتقل من هذا كله‏، إلى النوع الذى يظن البعض أن الحديث عنه لا يخلو من الحرج‏،‏ وهو الحب الذى بين فتى وفتاة،‏ أو بين رجل وامرأة‏،‏ والشباب قد يسأل عن هذا الموضوع فى شئ من الحياء كأنه يعبر خطا أحمر‏».
 
يضيف البابا فى مقاله: «وهنا أتذكر سؤالا قدمته لى صحفية مشهورة منذ نحو‏35‏ عاما،‏ حيث قالت لى ما الفرق بين الحب والشهوة؟ وكانت إجابتى الحب يريد دائما أن يعطى، والشهوة تريد دائما أن تأخذ‏،‏ الشهوة تريد أن تشبع ذاتها‏،‏ ومن النادر أن تشبع،‏ فهى تريد باستمرار‏،‏ وقد يكون الطرف الآخر ضحيتها‏، وليس هذا هو الحب بمعناه الحقيقى، ‏فالذى يحب فتاة لا يضيع سمعتها بكثرة لقاءاته معها‏،‏ ولا يشغل فكرها بحيث تفشل فى دراستها أو فى عملها،‏ والأهم من هذا كله أنه لا يضيع عفتها‏،‏ ويلقيها إلى مستقبل مظلم‏!‏ فإن كان يحبها لكى يتزوجها‏،‏ فليحفظها نقية وسليمة إلى حين يتم الزواج‏، ‏كذلك فلنفرق بين الحب العاطفى والحب الجنسى،‏ فالحب العاطفى لا خطر منه،‏ ويمكن للشباب من الجنسين أن يحبوا بعضهم بعضا‏، إن كان حبا طاهرا فى نطاق الحياة الجامعية أو الزمالة فى العمل، طالما يكون ذلك مجرد مشاعر بريئة لا علاقة له بالجسد وغرائزه‏، ‏أما الحب الجنسى،‏‏ فله خطورته وانحرافاته‏، وقد سمح به الله فى محيط الزواج،‏ وبه يتم إنجاب البنين واستمرارية الجنس البشرى،‏ وفى غير الزواج لا يسمح به، ‏قرأت مرة لأحد الكتاب أنه عرض لموضوع الحب فقال إن الحب هو أكثر العواطف أنانية، ولعله يقصد أن رجلا يحب امرأة‏،‏ فيهمه أنها لا تحب أحدا غيره‏.‏ كذلك فإن امرأة تحب رجلا‏,‏ فلا تقبل أبدا أن يحب امرأة غيرها ومن هذين المثالين‏،‏ واضح أن هذا الحب يرتبط بالغيرة، ‏ومثل هذه الغيرة تحمل فى داخلها أمرين، هما عدم الثقة بالنفس، ومعها الشك فى الطرف الآخر أن تكون له علاقة آثمة مع طرف ثالث،‏ ولكن المرأة الواثقة بأنوثتها‏،‏ وبقوة جاذبيتها‏،‏ وبشدة تأثيرها على الرجل،‏ لا تجد سببا يجعلها تغار من امرأة أخرى،‏ بل لا تحسب أن هناك امرأة أخرى تنافسها‏،‏ وكذلك الرجل الواثق من محبة امرأته له، والذى لا يشك أبدا فى إخلاصها له‏».‏

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق