«منى» أمام محكمة الأسرة: «زوجي مفتري وسرق بنتي»
الثلاثاء، 27 أغسطس 2019 09:00 ص
وقفت "منى" تتأمل مبنى محكمة زنانيري فى هدوء تام، والدموع تقطر من عينيها المنطفأتين فى حسرة وألم شديدين، حجابها المرتخي على كتفها يكشف عن شعرها الأبيض الذي يتخلله بعض الشعيرات السوداء مما أضاف على ملامحها العجز المبكر رغم صغر سنها، تسع وثلاثين عامًا قضت المسكينة نصفها برفقة زوجها "محمود" الذي تفنن فى إهانتها والسخرية منها يوميًا غير آبه لبكائها وتوسلاتها، عقدين أثنين قضتهما الزوجة تلتمس رحمة الله أن تنزل فتجيب صرخات فؤادها المحرقة التى بدأت من اللحظة الأولى لها في عش الزوجية، الذى أجبرها والدها على دخوله والأستقرار فيه رغمًا عنها.
أفاقت الزوجة من شرودها على صوت زغرودة إحدى السيدات معبرة عن سعادتها الشديدة لخلاصها من زوجها البخيل، فأرتسمت ابتسامة شاحبة على وجه «منى» فشلت فى إخفاء وجعها، ولكنها ساعدتها على تمالك نفسها، فجففت دموعها بمنديل ورقي سحبته من حقيبتها بسرعة قبل أن تخرج منها تنهيدة بسيطة ملأت صدرها بهواء الثقة المستمدة من اللاشئ، وخطت أولى خطواتها مصطنعة الثبات إلى داخل المحكمة؛ لرفع دعوى خلع، علها تتخلص هى الأخرى من زوجها، الذى تعدى كل الحدود، وكسر آخر الروابط بينهما عندما تعدى على والدتها بالضرب على مرأى ومسمع من أهله والجيران، فكادت تلفظ آخر أنفسها لولا تدخل الناس، وإبعاده عنها فى اللحظة الأخيرة.
قبل ما يقرب من عشرين عامًا، تقدم «محمود» لخطبة «منى»، الفتاة البسيطة الهادئة التى التحقت للتو بكلية التجارة بعدما عملت طوال فترة الإجازة بمحله لتوفير مصاريف دراستها، فرفضت الشابة الزواج لرغبتها فى التفرغ لتعليمها الجامعي، إلا أن والدها رفض عرض العريس الغني، وأجبرها على الزواج من رجل يكبرها بمثل عمرها، بعد أن أحال حياتها إلى جحيم مستعر، وحبسها ووالدتها فى المنزل، ومنع عنهما الطعام، واعتدى عليهما بالضرب، وقص لها شعرها حتى وافقت فى النهاية على الزواج هربًا من والدها، فلم تكن تعلم أنها تهرب من الجحيم إلى جحيم آخر، ومن إهانة وضرب إلى إهانة أكبر وضرب أقسى.
لم يفوت "محمود" فرصة للتقليل من شأن "منى"، وإهانتها، وتذكيرها بحياتها السابقة فى منزل والدها الفقير، فمنذ اللحظة الأولى لهما معًا وهو يمطرها بالصفعات واللكمات ويسمم حياتها بلسانه الحاد السليط، ويهددها بالقتل إذا ما فكرت فى الاعتراض على آوامره، فحبسها هو الآخر فى المنزل، ومنعها حتى من فتح الشبابيك أو النزول إلى التسوق، وكان يربط وثاقها إلى السرير بالأيام إذا ما أضطر إلى السفر ويضع فتات الطعام وزجاجة ماء إلى جانبها، فيعود ليجدها مستلقية على الأرض عاجزة عن الحركة من شدة العطش، والجوع، متسخة الثياب لقضاءها حاجتها فى مكانها، فيسبها ويلعنها لهيئتها الرثة، ويطلب منها تنظيف الغرفة، والاستحمام والتجمل ليفرغ فيها شهوته بعد أن يجبرها على تناول حبوب منع الحمل، فهو لا يرغب بذرية منها حيث سبق له الزواج ورزقه الله بطفلين سليمين.
ورغم احتياطات «محمود»، وحرصه على متابعة «منى» أثناء تناولها الحبوب، وحرصها هى الآخرى على عدم الإنجاب منه، حدث الحمل رغما عن كلاهما وتنفيذا لمشيئة الله، وحاول الزوج إجهاض زوجته المسكينة لكنه فشل، فلا راد لقضاء الله، ووضعت «منى» طفلة جميلة تحمل الكثير من ملامحها، فسلبها «محمود» إياها، وأودعها عند زوجته الأولى؛ لتربى وسط أبناءه الذكور وتعامل بقسوة لا تتناسب مع برائتها، فلم تجد من يحنو عليها، أو يرق قلبه لها، فزوجة أبيها لا تختلف عنه كثيرًا، فهى سليطة اللسان مثله تمامًا وتزيد عنه قليلًا لجشاعتها، وطمعها، ورغبتها بالسيطرة على أملاكه كلها، حتى أبناءه تشبعوا من قسوته وتحجرت قلوبهم، فلم يميلوا لكفة أختهم الرضيعة الضعيفة، بل على العكس تمامًا، وقفوا مع أمهم ليخططوا لإهانة الصغيرة وحرمانها من حقها فى المستقبل.
مرت السنوات، وكبرت الطفلة بعيدًا عن حضن أمها، وأوهمها أبوها وزوجته بأنها خادمة يتيمة، وظنت الأم أن صغيرتها ماتت فى أيامها الأولى، فاستسلمت لقدرها وكفت عن المقاومة حتى علمت بأمرها بالصدفة، وأخبرت أمها العجوز التى تقصت عنها، وتوصلت لها، وحاولت لم شملهما معًا بعد سنوات طويلة بعيدًا عن أعين «محمود»، الذى علم بالأمر، واقتحم عليهما لقائهما الأول، ولأن السنوات لم تزده إلا قسوة تعدى على حماته المريضة التى تقربه عمرًا، وضربها أمام حفيدتها وزوجته الأولى وأبناءه، وعندما حاولت الطفلة الاستنجاد بالجيران منعها أخويها، وكسرا قدمها، وكادت الجدة العجوز تموت لولا سحبها الجيران من بين يدي «محمود» بصعوبة.
ولما علمت «منى» بالأمر، هربت أخيرًا وأختبئت مع والدتها عند أحد أقاربهما، وحاولت التواصل مع طفلتها وعندما فشلت توجهت إلى محكمة الأسرة لتنصفها، وترد لها صغيرتها التى لم ترها سوى مرة واحدة قبل خمسة عشر عامًا عقب ولادتها.