المجددون (2).. الشيخ على عبدالرازق: مجدد أنصفه الليبراليون وكفره الأزاهرة

السبت، 11 مايو 2019 05:00 م
المجددون (2).. الشيخ على عبدالرازق: مجدد أنصفه الليبراليون وكفره الأزاهرة
الشيخ على عبدالرازق
محمد الشرقاوي

هل الخلافة أصل من أصول الدين؟ وهل الإسلام أو غيره من الأديان يمكن أن يكون نظاما للحكم فى العصر الحديث؟.. بتلك التساؤلات، افتتح الشيخ الأزهرى على عبدالرازق، كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، لتكون سببا فى إطلاق وابل من الاتهامات صوبه، بل فتح عليه أبواب محاكمة لم تنته، حتى بعد مرور 53 عاما من تاريخ وفاته فى 23 سبتمبر 1966. قام الكتاب على فكرة إثبات أنّ الإسلام دين روحى لا دخل له بالسياسة، أو بالأحرى لا تشريع له فى مجال السياسة، فالسياسة أمر دنيوى يعود للناس اختيار وسائله ومبادئه، وهو يرى أنّ نظام الخلافة الذى نُسِب للإسلام ليس من الإسلام فى شىء، إنّما هو من وضع المسلمين. 
 
على حسن أحمد محمد عبدالرازق، من مواليد البهنسا، أبو جرج، محافظة المنيا، أبوه حسن باشا عبدالرازق درس فى الأزهر الشريف، وكان عضوا فى المجالس شبه النيابية، حفظ القرآن كاملا، وأدخله أبوه الأزهر فى القاهرة لإكمال تعليمه، ولما فتحت الجامعة المصرية التحق بها ودرس فيها بجانب دراسته فى الأزهر. أنهى الشيخ تعليمه فى الأزهر الشريف عام 1912، وحصل على شهادة العالمية، وفى يوليه من نفس العام سافر مع أخيه مصطفى عبدالرازق إلى فرنسا ليكمل دراسته هناك، لكنه ترك أخاه فى فرنسا وذهب إلى انجلترا نزولا على رغبة والده، فدخل جامعة أكسفورد ودرس السياسة والاقتصاد، وظل هناك حتى قيام الحرب العالمية الأولى، فعاد إلى مصر سنة 1915، وعين قاضيا شرعيا، فى محكمة المنصورة الشرعية، حتى عزل من القضاء بعد نشر كتابه «الإسلام وأصول الحكم».

مناخ سياسى أشعل الأزمة 
فى عام 1922 كان على عبدالرازق عضوا فى حزب الأحرار الدستوريين، الذى تأسس فى العام نفسه، وتبنى الفكر الليبرالى، هو وشقيقه الشيخ مصطفى وانضما إلى مجموعة ليبرالية ضمت العديد من الشبان منهم محمود عزمى، وعزيز ميرهم ومنصور فهمى والدكتور محمد حسين هيكل وغيرهم، وهذا الحزب وريث حزب «الأمة»، الذى تأسس العام 1907، وكان من أبرز قادته ومفكريه أحمد لطفى السيد، وقاسم أمين، ثم طه حسين، وهم جميعا يمثلون المدرسة الفكرية المنحازة إلى المدنية، والوطنية، والحداثة، والليبرالية. 
 
وبما أن الحزب محسوب على تيار المجددين الأوائل، كان من الطبيعى مهاجمته إذا حاول الاقتراب من قضايا فقهية جدلية، وبعد 3 أعوام، وتحديدا فى عام 1925، أصدر عبدالرازق كتابه المثير للجدل «الإسلام وأصول الحكم»، وتلخّصت أطروحته باعتبار نظام الخلافة شكلا تاريخيا دنيويا، وليس نظاما ملزما من صميم الدين، وأنه مجرد اجتهاد من قبل الصحابة لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي، عليه السلام، وبأنّ الإسلام جاء بالأساس كرسالة روحية أخلاقية، وهو ما أسماه بـ«روحانية الإسلام»، لا تحديد فيها لشكل الدولة والنظام السياسي، وإنّما المهم هو تحقيق المقاصد العليا للدين.+
Ali-1

المعركة بدأت مبكرا
لم يتوقع القاضى على عبدالرازق وهو يدفع العام 1925 بكتابه «الإسلام وأصول الحكم» إلى المطبعة، أن يتحول الطرح الذى قدّمه سريعا إلى قضية رأى عام، وإلى معركة يقودها كبار العلماء ضده، يكون الملك فؤاد الأول فى صفّ أحد أطرافها، ويُتَّهَمُ فيها عبدالرازق بدينه، وتنتهى بفصله من وظيفته.
 
حمل القاضى فى الكتاب على عاتقه مهمة تجديد الفكر الدينى، والاشتباك مع قضايا سياسية، يراها الناس دينية، وهى فى الأصل ليست من أصول الدين، ولم يرد أى نص شرعى يقضى بوجوبها أو شرعيتها، وعلى رأسها أنظمة الحكم (الخلافة). 
 
تساؤلات عدة أثيرت فى عقل الشيخ على عبدالرازق، حول الخلافة، فبدأ كتابه بكلمة لماذا؟ وأجاب بأن هناك سؤالين، هما: هل الخلافة أصل من أصول الدين؟ وهل الإسلام أو غيره من الأديان يمكن أن يكون نظاما للحكم فى العصر الحديث؟، كان يريد من خلالها إقصاء الدين عن العملية السياسية لما فيها من تجاوزات قد تضر بالدين وليست فى صالحه، فاعتبره المفكرون أكثر الكتب ليبرالية وشجاعة، فى وجه الفكر العقيم، المسيطر على كثير من العلماء ورجال الدين والجماعات الإسلامية.
 
يقول الدكتور غالى شكرى، فى كتابه: «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث»، إن الشيخ بدا فى إجابته ذا توجهات ليبرالية بامتياز، فهو متعمق فى دراسة الفقه، أى أنه من أهل الاختصاص، وليس مجرد واحد من الليبراليين الذين أدركوا قيمة الفكر التجديدي، ولكنه أضاف إلى معرفته بالفقه وبصحيح الإسلام دراسة فى الجامعة المصرية تخصص فيها فى الأدب والفلسفة، ثم دراسة فى أكسفورد مستهدفا التخصص فى الاقتصاد والعلوم السياسية لكنه قطعها بسبب نشوب الحرب.

نظرة فى «الإسلام وأصول الحكم»
ينقسم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء، يغطى الجزء الأول منها موضوع الخلافة والإسلام، والجزء الثانى الحكومة والإسلام، والجزء الثالث الخلافة فى التاريخ.
 
بحسب الكتاب، لم يرد فى القرآن الكريم والسنة النبوية، أى ذكر لفكرة الخلافة كنظام سياسى ملزم للمسلمين، وكل ما جرى فى أحاديث الرسول الكريم من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة لا يدل على شىء أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكم قيصر.
 
ويؤكد أن الخلافة لا تقوم إلا على القهر والظلم، وإذا كان فى الحياة الدنيا شىء يدفع المرء إلى الاستبداد والظلم، ويسهل عليه العدوان والبغى، فذلك هو مقام الخلافة، وقد رأيت أنه أشهى ما تتعلق به النفوس، وأهم ما تغار عليه، وإذا اجتمع الحب البالغ والغيرة الشديدة وأمدتها القوة البالغة، فلا شىء إلا العسف ولا حكم إلا السيف. 
 
وتابع: «ذلك أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذى يسميه الفقهاء خلافة، وأولئك الذين يسميهم الناس خلفاء، فليس من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا، ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك، فإنما كانت الخلافة ولا تزال نكبة على الإسلام والمسلمين، وينبوع شر وفساد». 
 
ويفرق الشيخ بين ولاية الرسول وولاية الحاكم أو الخليفة، بقوله: «فولاية المرسل إلى قومه ولاية روحية منشأها إيمان القلب وخضوعه خضوعا صادقا تاما يتبعه خضوع الجسم، ولا الحاكم ولاية مادية تعتمد على إخضاع الجسم من غير أم يكون لها بالقلب اتصال». 
 
وأشار إلى أن القرآن صريح فى أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن إلا رسولا خلت من قبله الرسل، ثم إن القرآن بعد ذلك صريح فى أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن من عمله شىء غير إبلاغ رسالة الله سبحانه وتعالى إلى الناس، وأنه لا يكلف شيئا غير ذلك البلاغ وليس عليه أن يأخذ الناس بما جاءهم به، ولا أن يحملهم عليه، ثم هو يوضح أن الرسول لم يعين من بعده خليفة وأن الذين تزعموا المسلمين من بعده ومن بينهم الخلفاء الراشدون كانت زعامتهم مدنية أو سياسية وليست دينية، وإن أبا بكر هو الذى أسمى نفسه خليفة، وأن بيعته كانت ثمرة لجدال ثم اتفاق سياسيين ومن ثم كان حكمه مدنيا وكان اجتهاده دنيويا ولا علاقة له بفكرة الدولة الدينية.

أسباب الخلاف 
قال على عبدالرازق فى كتابه إن الخلافة كانت اجتهادا من قبل الصحابة، لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وبأنّ الإسلام جاء بالأساس كرسالة روحية أخلاقية، وهو ما أسماه بـ«روحانية الإسلام»، لا تحديد فيها لشكل الدولة والنظام السياسي، وإنّما المهم هو تحقيق المقاصد العليا للدين.
 
اكتسبت أطروحة القاضى الشرعى بعدا سياسيا، وذلك لطبيعة الظرف السياسى الذى كان يمر به الشرق الأوسط، من انهيار للدولة العثمانية وإعلان كمال أتاتورك ولادة الجمهورية التركية فى عام 1923، وإلغاء منصب الخلافة فى 1924. 
 
وفى ذلك التوقيت حاول بعض الملوك العرب تقلد منصب الخلافة، كالملك فؤاد فى مصر، والشريف حسين بن على فى الحجاز، ومن قبل ذلك كان آل سعود قد أعلنوا الخلافة أيضًا، وبالتالى أبعد المحاربون للقاضى الشرعى أطروحته عن تجديد الخطاب الديني، وأخذوها على محمل سياسى، فهى تنطوى على معارضة مباشرة لمحاولة الملك فؤاد تنصيب نفسه خليفة للعرب، خصوصا أنها صادرة عن أحد المنتمين لحزب الأحرار الدستوريين، الحزب المعارض للقصر.
24139950_10154762399921403_408220805_o-767x1024

الأزهر ينحاز للملك فؤاد 
كانت لأطروحة عبدالرازق صدمة فى أوساط العلماء والمشايخ، فلم يسبق أن قال أحد من آئمة الدين بمثل ما ذهب إليه، خاصة أنّها جاءت من عالم أزهرى، استعان فى إثباتها بالآيات القرآنية، والسيرة النبوية. وتردد الأزهر قليلا فى المعركة ربما منتظرا الضوء من الملك وتململ رشيد رضا، فكتب «لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عن هذا الكتاب لئلا يقول الشيخ وأنصاره إن سكوتهم عنه إجازة له أو عجز عن الرد عليه [المنار – 21يونيو 1925 – مجلد 26 – ص104] . ويثمر هذا التحريض الواضح معركة ضارية هزت أركان مصر .
 
اعتبر المعارضون أنّ الشيخ يدعو للعلمانية وفصل الدين عن السياسة، وتصدّى عدد منهم للرد على الكتاب، كالشيخ محمد الخضر حسين، فى كتابه: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، والعالم التونسى الطاهر بن عاشور، فى كتابه «نقد علمى لكتاب الإسلام وأصول الحكم»، والشيخ «محمد بخيت المطيعى»، فى كتاب: «حقيقة الإسلام وأصول الحكم».
 
لم يتوقف الأمر عند تأليف الكتب والردود العلمية، وإنما تطوّر إلى أن بادر علماء الأزهر لتأسيس هيئة علمية لمحاكمته، باسم هيئة «كبار العلماء فى الأزهر»؛ وبالفعل، فى يوم الأربعاء 12 أغسطس، عام 1925، اجتمعت الهيئة، بصفة تأديبية، بمقتضى المادة الأولى من قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية. 
 
وكان اجتماعها فى دار مجلس إدارة الأزهر والمعاهد الدينية الإسلامية فى شارع عابدين، وفى حدود الساعة العاشرة صباحا دخل على عبدالرازق إلى المحاكمة، حضرها أربعة وعشرون عالما، حول طاولة يتوسطهم الشيخ محمد أبو الفضل الجيزاوي، شيخ الجامع الأزهر، وإلى يمينه الشيخ محمد بخيت، وعن يساره الشيخ قراعة، ووراءه الشيخ الظواهرى.
 
نص محاكمة الشيخ أمام شيوخ الأزهر
جلس على عبدالرازق قبالتهم وهو ممسك الكتاب بيمينه.
 
سألوه: هذا كتابك؟ .. نعم، هذا كتابى.. أنت مصمم على كل ما فيه؟.. نعم.. شيخ الأزهر: هذا الكتاب كلّه ضلال وخطأ! كتبنا لك عن نقاط سبع فيه.. 
 
وهنا، تلا الإمام نصّ التهمة، والتى تضمنت سبع نقاط اعتبرت الهيئة بأنّ الكتاب احتواها، وبأنها «مخالفة للدين ولنصوص القرآن الكريم، والسنة النبوية، وإجماع الأمة»، وهى:
 
1. جعل الشريعة الإسلامية شريعة روحية محضة، لا علاقة لها بالحكم والتنفيذ فى أمور الدنيا.
 
2. جعل الدين لا يمنع من أن جهاد النبي، عليه السلام، كان فى سبيل الملك لا فى سبيل الدين ولا لإبلاغ الدعوة للعالمين.
 
3. اعتبار نظام الحكم فى عهد النبي، عليه السلام، موضوع غموض أو إبهام أو اضطراب أو نقص وموجبا للحيرة.
 
4. اعتبار مهمة النبى، عليه السلام، كانت بلاغا للشريعة مجردة عن الحكم والتنفيذ.
 
5. إنكار إجماع الصحابة على وجوب نصب الإمام وأنه لا بد للأمة ممن يقوم بأمورها فى الدين والدنيا.
 
6. إنكار أن القضاء وظيفة شرعية.
 
7. اعتبار أنّ حكومة أبى بكر والخلفاء الراشدين، رضى الله عنهم، من بعده كانت لا دينية.
 
وبعد انتهاء الشيخ من تلاوة نصّ التهمة، قرر -باسم الهيئة- فصل عبدالرازق من الأزهر، وتجريده من شهادة العالمية، وإخراجه من زمرة العلماء، ومنعه من تولى أى منصب دينى، بما فى ذلك فصله من مهنته فى القضاء، فضلا عن قرار مصادرة الكتاب ومنع تداوله.
 
حاول عبدالرازق الرد، فسجل اعتراضه بداية على قانونية الهيئة والمحاكمة، ولكن الهيئة لم تلتفت لاعتراضه، وبعد أن فرغ الشيخ من تلاوة نصّ التهمة والحكم، تلا مذكرة كان قد أعدّها للرد على التهم والتوضيح، كان رد فعل الهيئة هو أن أخذت منه المذكرة وضمتها إلى ملفات المحاكمة، دون نقاش لها، وانتهت جلسة المحاكمة بذلك.
 
برقية.. إلى الملك
وبعد أن أصدرت هيئة كبار العلماء قرارها ضد الشيخ على عبدالرازق، أرسل شيخ الجامع الأزهر، محمد أبو الفضل الجيزاوى، برقية إلى القصر الملكى، جاء فيها:
 
«صاحب السعادة، كبير الأمناء.
 
أرجو أن ترفعوا إلى السّدة العليّة الملكية، عنّى، وعن هيئة كبار العلماء، وسائر العلماء، فروض الشكر وواجبات الحمد والثناء، على أن حُفظ الدين فى عهد جلالة مولانا الملك من عبث العابثين وإلحاد الملحدين، وحُفظت كرامة العلم والعلماء».
 
كما بادر الشيخ لإرسال كتاب إلى وزير الحقانيّة (العدل) عبدالعزيز فهمي، طلب فيه فصل عبدالرازق من وظيفته فى القضاء.

الرأى العام ينقسم وأزمة سياسية تشتعل 
اعتبر على عبدالرازق، أنّ الحكم باطل، يخالف الدستور المصرى الذى كفل حرية الرأى لكل مصرى، وأرسل خطابا لوزير الحقانية يؤكد فيه أنّ قانون الأزهر لا يطال إلا المعاهد الدينية، وهنا جاء موقف الوزير عبدالعزيز فهمى برفض قرار الفصل، فما كان من القصر الملكى إلا أن تدخل بشكل مباشر، فصدر قرار بإقالة الوزير عبدالعزيز فهمى من الوزارة. وتصاعدت القضية إثر ذلك، بعد أن اعتُبرت إقالة الوزير إهانة لباقى الوزراء، فاستقال احتجاجاً على ذلك، كُلّ من: محمد على علوبة باشا، وزير الأوقاف، وتوفيق باشا دوس، وزير الزراعة، وإسماعيل صدقى باشا، وزير الداخلية آنذاك، وبعد شغل المناصب الوزارية الشاغرة بهذه الاستقالات، فُصل الشيخ على عبدالرازق من وظيفته، كما أراد الملك.
 
وأحدث الكتاب زلزالا فكريا وسلطويا، حيث انقسم الرأى العام المصرى، فتحركت أقلام عديدة لمساندته وقوى عاصفة أخرى لإدانته، فقد انحاز حزب الأحرار الدستوريين، لمساندة الشيخ فى مواجهة حملة وصفها بالظالمة، كذلك مجلة الهلال إلى صف الشيخ قالت فى عددها الصادر [يوليو 1925]: «إن كل أمة إسلامية حرة فى انتخاب من تريده حاكما عليها وسواء كان الأستاذ على عبدالرازق قد وفق فى أن يسند نظريته إلى الدين – كما يعتقد – أم لم يوفق، فإن هذه النظرية تتفق وأصول الحكم فى القرن العشرين الذى يجعل السيادة للأمة دون سواها من الإفراد مهما كانت ولادتهم وميزاتهم الأخرى».
 
وفى عدد أكتوبر من نفس العام كتب سلامة موسى: «لعلى عبدالرازق الحق فى أن يكون حرا يرتئى ما يشاء من الآراء دون أن يقيد بأى قيد سوى الإخلاص»، وتشترك «المقتطف» فى حملة التأييد فتقول: «إننا نعتقد أن كل ما قاله حضرة القاضى على عبدالرازق وأمثاله قرين الصواب وخال من الخطأ، كذلك فإن قيام بعض المفكرين ووقوفهم موقف الانتقاد والشك يشحذ الهمم ويغرى بالبحث والتنقيب». 
 
المثير فى الأمر، أن زعيم حزب الوفد الليبرالى سعد زغلول باشا، هاجم الشيخ على عبدالرازق، فكتب له: «قرأت كثيرا للمستشرقين ولسواهم فما وجدت من طعن منهم فى الإسلام بمثل هذه الحدة فى التعبير على نحو ما كتب الشيخ على عبد الرازق، ولقد عرفت أنه جاهل بقواعد دينه بل بالبسيط من نظريته».
 
ونقلا عن الدكتور غالى شكرى فى كتابه: «النهضة والسقوط فى الفكر المصرى الحديث»، ويتعين هنا أن نتأمل الخريطة المصرية المرتبكة فحزب كبار الملاك الموالى للملك الطامع فى الخلافة يؤيد الشيخ وكتابه، أما سعد زغلول الليبرالى والذى رفض تنصيب الملك فؤاد خليفة وهاجم «مؤتمر الخلافة» يقف ضد الشيخ وكتابه، وهى خريطة أربكت الكثير من الباحثين خاصة بعد أن تسببت مساندة حزب الأحرار الدستوريين ورموزه للشيخ وكتابه فى أزمة وزارية عارمة وتسببت فى استقالات وزارية، وعلى أيه حال فإن معركة الصراع مع الشيخ وكتابه قد تجاوزت حدود مشادات كلامية أو مناكفات حزبية بين خصوم تقليديين، خاصة أن الأزهر بمكانته قد دخل بكل ثقله فى المعركة مستندا إلى الملك فؤاد الذى كان حلم الخلافة يراوده ويقض مضجعه. 
 
الأزهر ينصفه والجدل يستمر

احتاج علي عبدالرازق إلى عشرين عاماً لإنصافه، فأصدرت مشيخة الأزهر العام 1945، قراراً بالتراجع عن فصله، ليتولى بعدها منصب وزارة الأوقاف نهاية العام 1948، كما انتخب عضواً في مجلس النواب، ثم دخل مجلس الشيوخ، كما عُين عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة.

غير أن الكتاب آثار جدلاً من نوع آخر، حين أعلن الشيخ أحمد حسن مسلم، عضو مجمع البحوث الإسلامية في 1989 بما أسر له به الشيخ على عبد الرازق من أن المؤلف الحقيقي للكتاب هو طه حسين وليس على عبد الرازق، وكان ذلك فيما بين 1942، 1948، ولأن الشيخ مسلم رجل لا غبار عليه فقد أثارت شهادته الأوساط الثقافية والدينية، وشككوا في هذه الشهادة على الرغم من وجود خبر أن الشيخ علي عبد الرازق قد تراجع عما جاء في كتابه قبل وفاته والذي نفته قطعا ابنته د.سعاد علي عبد الرازق، مؤكدة أن والدها لم يتراجع وإنه يملك من الشجاعة ما يجعله يواجه الناس بتراجعه ويعلن موقفه الجديد على الملأ.

وفى يونيو 1966 وقبل وفاة الشيخ على عبدالرازق بشهور قليلة ذهب إليه محمود أمين العالم يستأذنه في إعادة طبع كتابه فكان سعيدًا وحريصًا على أن يؤكد له أنه ما تخلى ولن يتخلى عن كتابه أبداً، وكان الحديث عن إعادة طبع الكتاب قد أثارت في نفسه الجرح القديم، فقال له: لم أعد احتمل مغامرة جديدة، اطبعوا الكتاب على مسئوليتكم، ولا تطلبوا منى إذنًا بغير ضمان أكيد اطمئن إليه.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق