الحجاج بن يوسف وواقع مصر الآن
الخميس، 02 مايو 2019 03:27 م
الغالبية العظمى من الناس، والأخوة «الفتايين»- بلغة الجيل الحالي- لا يعرفون شيئا عن الحجاج بن يوسف الثقفي إلا أنه كان رجلًا عاتيًا، جبارًا، شديد القسوة، محبا لسفك الدماء لأتفه الأسباب.
هذه المعرفة المنقوصة روج لها بعض المؤرخين في العهود التالية لوفاة الحجاج؛ مستشهدين بكثير من خطبه التي كان يهدد ويتوعد فيها مخالفيه، أو المناوئين له.. وهذه الخطب كثيرة، ولها مناسباتها التي قيلت فيها.. لكن هذا ليس مربط الفرس، الآن.
قليل من كتب التاريخ هي التي تذكر محاسن ومناقب هذا الرجل، وعلى رأسها انه كان أول من أمر بتشكيل حروف القرآن الكريم؛ تجنبا للخطأ عند قراءته.
أيضًا كان الحجاج محبًا للأدب، ومشجعًا له، وكان يعجب بحسن التصرف في كثير من الأمور والمواقف. مثل موقفه من رجل قبيلة بني عمران، الذي أخطأ في حق الحجاج، وأسمعه ما لا يحب سماعه، إلا أن الحجاج لم يقترب منه، ولم يفعل له شيئًا، بسبب سرعة بديهة الرجل، ووصم نفسه بالجنون؛ للنجاة من بطش الحجاج.
كما أن حوار الحجاج مع الغضبان بن القبعثري، الذي حُبس ثم أطلق سراحه، بعد حوار طويل أعجب فيه الحجاج بفصاحة الغضبان وحسن تصرفه وسرعة بديهته.
صحيح كانت للحجاج مساوئ.. إلا أن هذه المساوئ لا تمنع من الاعتراف بأنه كان صاحب شخصية قوية، وكان حازمًا في إدارة شؤون البلاد، وصاحب رؤية وتقدير للأمور، وذا معرفة بطبائع وأحوال الناس، وكيفية التعامل معهم، بدليل وصيته لطارق بن عمرو، الذى تولى حكم مصر في عهد الدولة الأموية.
فقد أوصى الحجاج طارقًا: «إذا ولاك امير المؤمنين أمر مصر فعليك بالعدل فهم قتلة الظلمة وهادمو الأمم.. وما أتى عليهم قادم بخير إلا التقموه كما تلتقم الأم رضيعها.. وما أتى عليهم قادم بشر إلا أكلوه كما تأكل النار أجف الحطب.. وهم أهل قوة وصبر وجلد وتحمل..
ولايغرنك صبرهم ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجل ما تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل ما تركوه إلا وقد قطعوا رأسه..
فاتقِ غضبهم ولا تشعل نارًا لا يطفئها إلا خالقهم.. وانتصر بهم فهم خير أجناد الأرض.. واتقِ فيهم ثلاثا:
- نساءهم فلا تقربهم بسوء، وإلا أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها.
- أرضهم وإلا حاربتك صخور جبالهم.
- دينهم وإلا أحرقوا عليك دنياك.
وهم صخرة فى جبل كبرياء الله تتحطم عليها أحلام اعدائهم وأعداء الله».
انتهت الوصية.. ولكن مَن منا يعرف أن مثل هذا الكلام يصدر عن رجل كل معرفتهم به أنه دموي، فظ، غليظ القلب، لا يعرف للرحمة طريقًا؟
من هنا، علينا أن لا نتسرع في إصدار الأحكام على الناس دون معرفة حقيقتهم، إن كانوا أحياء.. أو القراءة المتأنية عنهم، المنصفة لهم، والباحثة عن الحقيقة إن كانوا فى رحاب الله.. ولا نكتفي بقراءة كتب المؤرخين المتخذين موقفًا مضادًا على طول الخط من الشخصية التى يكتبون عنها.
شخصيًا أنا لا أثق في كثير من مؤرخي السلاطين والولاة والملوك والرؤساء؛ لأنهم لا يكتبون بتجرد ونزاهة وموضوعية.. بل يكتبون بالهوى وبنظرة أحادية، وجانب واحد، وزاوية واحدة؛ لإرضاء السلطان!
باختصار.. كتب التاريخ ليست قرآنًا.. والمؤرخون ليسوا أنبياء يوحى إليهم، ولكنهم بشر ليسوا معصومين من الخطأ والنفاق وموالاة السلطان؛ لذا يجب التعامل مع كتب التاريخ بمنتهى الحرص، وبعين الباحث المدقق، وليس القارئ المتسرع المتلقف للمعلومة.. لأن بعض المؤرخين يدسون السم في العسل، لأغراض سياسية أو دينية أو عسكرية أو اقتصادية.. ولصالح أفراد ودول أخرى.
وللأسف ما فعلناه بالحجاج نفعله مع غيره دون أن نتحقق أو نتثبت من صدق الرواية المنقولة؛ فكان أحد أسباب انتشار الشائعات، والاكاذيب، حتى بين صفوف النخبة والمثقفين.. كما أنه أحد أهم أسباب التخوين، وانعدام الثقة التي نعاني منها الآن.