الطريق لردع إيران
الخميس، 07 يناير 2016 04:01 م![الطريق لردع إيران الطريق لردع إيران](https://img.soutalomma.com/Large/86746.jpg)
ليس بوسع أزمة طارئة أن تغير حقائق الجغرافيا والتاريخ والثقافة ، فمن حق السعودية ـ ودول أخرى ـ أن ترد على الحرق الهمجى لسفارتها وقنصليتها فى إيران ، ومن حقها أن تقطع أو تبقى على العلاقات مع طهران ، ولكن دون اندفاع إلى ما يشبه إعلان الحرب الدائمة ، فإيران ليست "إسرائيل" ، وإيران كانت وستظل بلدا كبيرا فى العالم الإسلامى ، وأيا ما كانت طبيعة نظامها الحاكم .
ولا أحد يستطيع أن ينكر دور إيران فى إثارة قلاقل بدول الخليج ، ووضع الشيعة العرب فى حوزتها ، واستخدامهم فى توسيع رقعة النفوذ الإيرانى ، خاصة بعد التضخم الهائل لدور إيران فى المنطقة ، وتزايد قوتها العسكرية والعلمية والميدانية ، ومد نفوذها المسيطر إلى شاطئ البحر المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان ، وإلى البحر الأحمر عبر دعم "الحوثيين" فى اليمن ، وإلى حد بات فيه المشرق العربى والخليج العربى تحت رحمة الخطر الإيرانى المباشر ، والذى لم تفلح فى دفعه ترتيبات الاستعانة بالحماية الأمريكية ، التى استنزفت هى الأخرى عوائد البترول الخليجى ، ومدت قواعدها البرية والبحرية على خرائط الهلع ، وفى صورة استعمار مدفوع الأجر .
والمفارقة الكبرى فى المسألة الإيرانية ، أن دولا عربية غنية ساهمت بالنصيب الأكبر فى صناعة المجد الإيرانى ، بإنفاق عشرات المليارات من الدولارات على حملات ملتاثة لتكفير الشيعة ، ودعم مذاهب وجماعات دينية ، تحقق سياسة الاستعمار "فرق تسد" ، وتنشر الفرقة بين المسلمين ، وتنهك مجتمعاتهم ، وتشعل حروب السنة والشيعة ، خاصة بعد الغزو الأمريكى لاحتلال العراق ، وإسقاط صدام حسين ، والذى كان نظامه يشكل حائط الصد للتوسع الإيرانى ، ولم يكن ليسقط بدون الدعم اللوجيستى والمالى العربى لحملة الغزو الأمريكية البرية ، والتى انتهت إلى تفكيك دولة العراق ، وحل الجيش العراقى ، واجتثاث حزب البعث ، فقد مول العرب حملة احتلال وتفكيك العراق ، وكانت إيران هى المستفيد الأعظم ، فقد زالت قوة العراق المانعة للانتشار الإيرانى ، وتخلق فراغ "جيو سياسى" و"جيو عسكرى" فى المشرق العربى ، تقدمت إيران لملئه ، وخلقت اتصالا جغرافيا وميدانيا مباشرا مع دوائر نفوذها الأسبق حضورا فى سوريا الأسد ولبنان حزب الله .
العرب ـ إذن ـ هم الذين صنعوا مجد إيران ، وبصورة أكبر تأثيرا مما صنعته إيران بجهدها الذاتى ، فقد تمدد المشروع الايرنى فى خلاء المشروع العربى ، وتطور المشروع القومى الإيرانى فى زمن انهيار المشروع القومى العربى ، فقد خرجت مصر بثقلها الحاسم من قيادة المنطقة عام 1979 ، بعقد ما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، ودخلت إيران على الخط بثورة الخمينى فى عام 1979 نفسه ، كان الدخول الإيرانى متواقتا مع خروج مصر ، خرجت مصر من ساحة المواجهة مع "إسرائيل" ، ودخلت إيران بدعم بناء "حزب الله" اللبنانى ، وبدعم حركات المقاومة الفلسطينية بعدها ، ثم كانت القفزة الكبرى بعدها بعشر سنوات ، مع توقف الحرب العراقية ـ الإيرانية التى أنهكت إيران داخليا ، وكان جيش صدام حسين مؤلفا بغالبية جنوده من الشيعة ، وقد حاربوا الخمينى نفسه ، دفاعا عن العراق وعروبة العراق ، ثم كان الخطأ التراجيدى لصدام بغزو الكويت ، وعجز النظام العربى المتآكل عن صياغة حل عربى ، واللجوء للقوة الأمريكية بهدف إخراج صدام من الكويت ، ثم فرض الحصار الشامل على العراق ، والذى لم يكن ليسقط ، لولا الغزو الأمريكى المدعوم عربيا ، وهكذا أزيح آخر حجر عثرة من طريق إيران ، التى لم تدفع فلسا لكسب العراق ، واستفادت بإتاحة مليارات العرب وأراضيهم ، التى جرى تجنيدها لذبح صدام ودولة العراق ، ثم ذهب الضلال ببعض العرب إلى المدى الأبعد ، وتصوروا أن الحل فى "مشروع سنى" يحل محل المشروع القومى العربى ، ويجعل غاية همه فى إعلان الحرب على الشيعة كيدا لإيران ، وبما جعل الشيعة العرب رصيدا مضافا لحساب إيران ، التى لم تفوت الفرصة العظيمة المهداة إليها على طبق الذهب ، ووضعت شيعة العراق فى جيبها ، ثم طورت علاقاتها مع الشيعة فى بلدان الخليج العربى ، وجعلت من نفسها حامية حمى الشيعة فى كل مكان ، فالتشيع فى إيران ليس مجرد قضية دينية ، بل قضية قومية بامتياز، ذلك أن إيران بلد متعدد القوميات ، ولا تشكل القومية الفارسية فيها أكثر من ثلث الإيرانيين ، فى حين يشكل الشيعة الغالبية الساحقة فى قوميات إيران المتعددة ، حتى فى صفوف عرب "الأحواز" التى تحتلها إيران منذ حوالى قرن كامل ، وهكذا بدا "التشيع" حلا قوميا فى إيران متعددة القوميات والأعراق ، وكان "التشيع" هو الصيغة المثلى لتكريس النزعة الفارسية ، والمزج بين ميراث فارس القديمة ونفوذ إيران الحديثة ، وقد كانت تلك هى الصيغة المعتمدة إيرانيا منذ عهد اسماعيل الصفوى ، ووصلت إلى ذروة تمامها مع حكم آيات الله فى طهران ، والذين حولوها من صيغة تماسك داخلى ، إلى أداة لكسب النفوذ الإقليمى والدولى ، فلم يكن لإيران هذا النفوذ الطاغى على الشيعة العرب فى أى وقت سابق ، وكان الشيعة العرب من أشد أنصار المشروع القومى العربى ، وكان غالب أعضاء حزب البعث العراقى ـ مثلا ـ من الشيعة ، وكان شيعة العراق يحاربون بحماس "إيران الخمينية" دفاعا عن انتمائهم القومى العربى ، وهو ما لم يعد ممكنا تصوره الآن ، فقد تحول غالب الشيعة العرب ـ فى العراق والخليج ـ إلى "التابعية الإيرانية" عمليا ، ووجدوا فى طهران ملاذا مفضلا ، دفعتهم إليه دفعا تيارات التكفير المتعصب ، التى تنسب نفسها لأهل السنة والجماعة ، والتى تشكل غالب ملامح وتلاوين ما يسمى التيار الإسلامى ، ولعبت أخطر الأدوار فى تمزيق لحمة المجتمعات العربية "السنية" ، ونشرت تفسيرات متخلفة للإسلام ، تعادى القومية العربية وتكفر الشيعة ، ومع غياب المشروع القومى العربى ، وتداعى فكرة المواطنة القائمة على الأساس القومى لا المذهبى والطائفى ، وجد الشيعة العرب ملاذهم فى خدمة المشروع القومى الإيرانى ، والذى يزدهر الآن بأكثر من أى وقت مضى ، خاصة مع التطور الإيرانى الطفرى فى العلوم وصناعات السلاح والمشاريع النووية والصاروخية ، وتحول إيران إلى "الرقم الصعب" فى المنطقة ، يتغذى نفوذه على موارد التخلف والتكفير ، وعلى مليارات البترودولار ، التى أنفقت وتنفق على تحطيم الدول وتفكيك النسيج القومى العربى ، وبغير فائدة محققة إلا لطرفين ، هما الاستعمار الأمريكى ـ الإسرائيلى المشجع لسياسة "فرق تسد" ، مع النفوذ الإيرانى الذى كسب ويكسب أرضا جديدة كل يوم ، وعلى حساب "الخلاء الصحراوى" والدمار الشامل الذى صنعته تيارات تكفير وتفجير ، تنسب نفسها زورا لمذاهب السنة ، وتحظى بمليارات الذين يدعون محاربة إيران "الشيعية" ، وهم فى الحقيقة يدعمون نفوذها ، ويقدمون لها أعظم الخدمات .
وقد لا يصح لأحد أن يتوقع تغييرا جوهريا فى الصورة العامة ، ما دام البعض لا يزال مصرا على معالجة الخطأ بالخطيئة ، وتحويل ردود الفعل الوقتية العابرة إلى سياسة دائمة ، فقطع العلاقات مع إيران لن يحل المشكلة ، ولن يقلل من التأثير المباشر لإيران على شيعة الخليج ، ولن يحد من النفوذ الإيرانى عموما فى المنطقة ، بل ربما يضاعفه ويفاقمه ، فقد يتوهم البعض أنهم يحاصرون إيران ، بينما الحصار الأمريكى نفسه عجز عن ردع إيران ، ولم يزدها إلا قوة فى المجالات العلمية والعسكرية بالذات ، ولا يكون الدواء أبدا بالتى كانت هى الداء ، ولا بإدارة ماكينات حروب السنة ضد الشيعة من جديد ، وتأملوا ـ من فضلكم ـ سلوك الدول الاسلامية الكبرى غير العربية ، فلم تقطع تركيا وباكستان "السنيتان" علاقاتها مع إيران تضامنا مع السعودية ، برغم أن تركيا وباكستان هى الأقرب سياسيا للسعودية بحسب المعلن ، فباكستان هى الدولة التى حظيت بأكبر دعم سعودى على مدار عقود ، وتركيا عقدت مؤخرا حلف "تعاون استراتيجى" مع الرياض ، لكن حساب المصالح القومية شئ آخر ، ولتركيا وباكستان مصالح قوية مع إيران ، وليس بوسعهما إعلان عداء متصل لطهران ، وهكذا الحال مع دول كبرى أخرى فى الشرق الآسيوى الإسلامى ، يضاف إليها دول كبرى فى العالم العربى نفسه ، مستعدة للتضامن مع السعودية ، ولكن دون حرق الجسور تماما مع إيران ، والمحصلة ظاهرة ، فشئون الأمم الناضجة لا تدار بافتعال حروب المذاهب ، ولا بتأجيج النزعات الطائفية المتخلفة ، والتى ثبت أنها تفيد إيران فى المقام الأول ، وهو ما قد يشير ـ بمعنى الهندسة العكسية ـ إلى حلول لتحجيم وردع التغول الإيرانى ، أولها : وقف حروب السنة والشيعة التى تمزق النسيج العربى بالذات ، وثانيها : رد الاعتبار لأولوية المشروع القومى العربى ، وتأكيد أولوية معنى الأمة العربية الجامعة على معانى أمم الطوائف والزواريب ، وثالثها : المسارعة إلى اتمام مشروع الحلف العسكرى العربى والقوة العربية المشتركة ، فلن يحك جلدك مثل ظفرك ، وتوفير قوة الردع يغنى عن خوض الحروب ، والاستمرار فى طلب حماية الأمريكيين والأجانب لن يوردنا سوى إلى المزيد من التهلكة ، ورابعها : إدارك أن إيران ليست إسرائيل ، وأن تداعى مظاهر وجواهر العداء العربى الجامع لإسرائيل، هو الذى يفاقم نفوذ إيران الحريصة على مظهر العداء للصهاينة ، وخامسها : ضرورة عودة مصر بالذات إلى موقع قيادة وتوجيه تستحقه ، ودون التضحية بأولوية علاقات القاهرة مع السعودية ودول الخليج ، ففى غياب مصر عن دورها ، توالت كل المصائب ، بما فيها مصيبة توحش النفوذ الإيرانى .
[email protected]