اهتم بها ناصر وأهملها السادات وتجاهلها مبارك..
أفريقيا على ضفاف النيل... السيسي يستعيد القارة السمراء
السبت، 02 فبراير 2019 08:00 مرضا عوض
استعادة مصر لدورها الريادى فى أفريقيا.. حقيقة ملموسة على الأرض يراها كل من تابع زيارات وتحركات الرئيس عبدالفتاح السيسى الأخيرة والتى جاب خلالها بين جنبات القارة الأفريقية شمالا وجنوبا، شرقا وغربا لاستعادة الدور القديم الذى سبق وقام به الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، متخطيا الإهمال الذى سار عليه الرئيسان السابقان أنور السادات وحسنى مبارك، مقتربا من فكرة عبدالناصر حول أهمية الدائرة الأفريقية فى السياسة المصرية، وهو ما مهد لمصر رئاسة الاتحاد الأفريقى خلال دورته القادمة، وهى الرئاسة التى ستتولاها مصر خلال أيام قليلة.
المتابع لتاريخ مصر فى القارة الأفريقية يعلم الدور الكبير والتاريخى الذى قامت به مصر خلال فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر الذى حول مصر لمركز مهم فى معادلة حركات التحرر الأفريقى، حيث كان التحرك نابعا من فلسفة لخصها «عبدالناصر» فى كتاب «فلسفة الثورة»، عندما قال «إننا لا نستطيع بأى حال أن نقف بمعزل عن الصراع الدامى المخيف الذى يدور اليوم فى أفريقيا بين البيض والأفريقيين وسوف تظل شعوب القارة تتطلع إلينا نحن الذين نحرس الباب الشمالى للقارة، الذى يعتبر صلتها بالعالم الخارجى كله، لن نستطيع بحال من الأحوال أن نتخلى عن مسئولياتنا فى المعاونة بكل ما نستطيع على نشر النور والحضارة حتى أعماق القارة العذراء»، ولعل ذلك هو ما دفع مصر لمساندة حركات التحرر، لذلك كان من الطبيعى أن يصفه الرئيس نيلسون مانديلا بأنه «زعيم زعماء أفريقيا».
فبعد الحرب العالمية الثانية وانتشار أفكار التحرر الوطنى، انطلقت العديد من الدول الأفريقية فى البحث عن حريتها من الاستعمار وبعدها قامت ثورة ٢٣ يوليو لتلعب مصر بعدها دورا مهما فى مساندة هذه الدول، فتبنى عبدالناصر سياسة مساعدة وإمداد هذه الدول بالمال والسلاح اللازم لمواجهة قوى الاستعمار بالإضافة للدعم السياسى والدبلوماسى لهذه الدول، وتأسست الجمعية الأفريقية فى القاهرة، والتى كانت حاضنة لحركات الاستقلال وعملت على إعداد وتدريب القيادات الأفريقية لتتحمل مسئولية الكفاح لتحرر بلادها، حتى أن مصر استضافت القادة الأفارقة فى مصر، وهو ما حدث مع كوامى نكروما وأحمد سيكوتورى وأحمد بن بيلا، وكان من نتائج الدعم المصرى للقارة السمراء، أن وصل عدد الدول المحررة إلى ثلاثين دولة فى عام 1963، وكانت هذه الدول هى النواة الأولى لمنظمة الوحدة الأفريقية.
وقد ساندت مصر ثورة الماوماو فى كينيا، ودعمت زعيمها جومو كينياتا، ثم دعمت الكونغو بارسال قوات مصرية إليها، إضافة إلى الموقف المعادى لنظام الفصل العنصرى فى جنوب أفريقيا، كما قدمت مصر الدعم للمؤتمر الوطنى الأفريقى بزعامة نيلسون مانديلا.
وفى الشمال الأفريقى ساندت مصر ثورة الجزائر، وتحولت إذاعة صوت العرب لبوق دعائى للثورة الجزائرية، كما تم انشاء أول إذاعة سرية للجزائر عام 1955 لإذاعة بياناتها، بل وتأسست أول حكومة للجزائر فى المنفى على أرض مصر عام 1959، وهو نفس الموقف الذى اتخذته مصر مع شعوب تونس وليبيا والمغرب.
بل إن مصر ساهمت فى تكوين كتلة الدار البيضاء فى إطار دعم باتريس لومومبا فى الكونغو، التى كانت الدول الاستعمارية قد قررت عدم السماح باستقلالها، بسبب ثرواتها الضخمة من الماس.
ما يؤكد دور مصر فى حركة التحرر الأفريقية ما قاله الزعيم الأفريقى نكروما من أنه بعد معركة السويس 1956 بدأنا نتحرك لتحرير أفريقيا بمساندة ودعم كبيرين من جانب مصر عبدالناصر، وأشار إلى أن قيام كتلة الدار البيضاء التى كانت أول اتحاد أفريقى يعطى أفريقيا مفهوم القارة السياسية والتى توحدت فيها مجموعة من دول الشمال الأفريقى ودول جنوب الصحراء، لتشكل تكتلا قوميا يناهض الاستعمار ويعمل على تفادى الآثار السلبية للحرب الباردة المشتعلة آنذاك بين المعسكرين الشرقى والغربى، جعل الاستعمار يحاول إقامة كتلة من الدول المرتبطة به سميت كتلة «مونروفيا» إلا أن مصر بزعامة عبدالناصر نجحت فى إجهاض هذه المحاولة.
الغريب أن هذا الدور الكبير الذى قام به عبدالناصر تراجع كثيرا على يد الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك اللذين أهملا القارة الأفريقية بشكل غريب لينأى الرئيس الراحل محمد أنور السادات بمصر عن أفريقيا، كما نأى بها عن العرب عقب حرب أكتوبر 1973، مستبدلًا كل منهما بالولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أجمع المحللون على أن مصر بدأت فى عهد الرئيس السادات، الخروج من أفريقيا لتحل محلها إسرائيل، وتحولت القارة السمراء إلى ساحة من ساحات الحرب الباردة، وانخرط الرئيس الراحل فى مغامرات اعتبرها خصومه «عقيمة»، كان منها نادى «السافارى»، وهو حلف ضم 5 دول هى « فرنسا وإيران فى عهد الشاه، والسعودية والمغرب، فضلا عن مصر».
بل إن علاقات مصر بعدد من القارة الأفريقية أصيبت بالتوتر، وهو ما حدث فى العلاقة بين مصر وأثيوبيا، وهو ما رصده بطرس غالى فى كتابه «طريق مصر إلى القدس» والذى أشار إلى واقعة سفره إلى إثيوبيا حاملا رسالة من السادات إلى منجستو هيلاميريام، ولكن منجستو رفض مقابلته وكلَّف أحد وكلاء وزارة الخارجية الإثيوبية بتسلم رسالة السادات منه وهو فى المطار، وهو ما رصد حجم التوتر بين مصر وإثيوبيا، حتى أن السودان دخل فى أزمة أخرى مع مصر وقت حكم جعفر النميرى الذى تعاطف مع اثيوبيا فى ازمتها مع السادات حول مياه نهر النيل.
استمرت العلاقة المصرية الأفريقية السيئة مع وصول حسنى مبارك للحكم، حيث حدثت أزمات بين مصر والسودان، ودعمت مصر حركة تحرير جنوب السودان، ثم انفجرت الأوضاع بعد محاولة اغتيال الرئيس مبارك فى إثيوبيا عام 1995 لتصل العلاقة إلى أسوأ ما يمكن أن تكون عليه، لتفقد مصر قيمتها تدريجيا فى القارة السمراء، بسبب فقدان نظام مبارك لرؤية محددة للتعامل مع أفريقيا يمكنها من مواجهة إسرائيل التى أبدت اهتماما بمنطقة القرن الأفريقى، حيث عملت على توطيد علاقتها مع إثيوبيا وإريتريا والتى سعت إسرائيل لخلق علاقة جيدة مع الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا عقب استقلالها لضمان تواجدها فى البحر الأحمر، كما سعت للحيلولة دون انتماء إريتريا لجامعة الدول العربية وتوجت هذه العلاقة بزيارة الرئيس الإريترى لإسرائيل، أما النظام المصرى فلم يستغل العلاقات التاريخية بين مصر ودول أفريقيا، لتحقيق أهدافه وتأمين منابع النيل، وترك المسرح الأفريقى لإسرائيل حيث لعبت إسرائيل فى أفريقيا دورا كبيرا على ضوء التواجد الأمريكى فى المنطقة فأصبحت تمد معظم الدول الأفريقية بالخبراء العسكريين والزراعيين وتقوم بزيارات رسمية لهذه الدول، لمحاصرة مصر مائيا وإقامة علاقات مع إريتريا والصومال لمحاصرة مصر من ناحية البحر الأحمر، ولعل أبلغ دليل على اهمال مصر للملف الأفريقى كان تعليق أحمد أبو الغيط على زيارة «ليبرمان» لدول حوض النيل عندما قال «بأننا غير معنيين بهذا الأمر»، رغم أن الوزير الاسرائيلى ذهب ليحرضهم على مصر لتكون النتيجة أن تحل إسرائيل مكان مصر فى أفريقيا.
جاء محمد مرسى إلى الحكم غير مهتم بالملف الأفريقى، بعد أن تفرغ مع جماعته الارهابية التى كانت تسيطر على الدولة «للتمكين» من الحكم بالسيطرة على مفاصل الدولة لتظهر مصر فى أضعف حالاتها الأفريقية، وهو ما ساهم فى أن تتجرأ أثيوبيا على مصر وتبدأ فى بناء سد النهضة.
أمام هذا الانحدار، حاول الرئيس عبدالفتاح السيسى استعادة الدور المصرى فى أفريقيا حيث جاء التحرك نابعا من إيمان القيادة السياسية بتفعيل الدور المصرى فى القارة السمراء، لذلك كان البعد الأفريقى حاضرا بوضوح فى البرنامج الانتخابى للرئيس السيسى، وتضمن دستور 2014 نصوصا تؤكد البعد الأفريقى للهوية المصرية، وظهر بوضوح خطاب سياسى جديد يعلى ويبرز قضايا السلام والتنمية، ويوظف كل أدوات الدبلوماسية والقوى الصلبة والناعمة، على أساس مبدأ المكسب للجميع، لذلك كانت أولى الجولات الخارجية للرئيس عبدالفتاح السيسى بعد تقلده الرئاسة من نصيب القارة الأفريقية؛ حيث زار الجزائر والسودان، وشارك فى القمة الثالثة والعشرين لمؤتمر رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأفريقى بغينيا الاستوائية، فضلا عن حضوره للفعاليات الأفريقية الأخرى، وآخرها قمة دول حوض النيل فى عنتيبى بأوغندا، والقمة الألمانية الأفريقية خلال العام 2017، وقد بلغ نصيب أفريقيا من الزيارات الخارجية للرئيس حتى أغسطس 2017 نحو 30 %، وذلك بواقع 21 زيارة من إجمالى 69 زيارة قام بها.
تحركات الدولة المصرية فى أفريقيا حاليا والسعى للمشاركة فى المزيد من المشروعات الاقتصادية بدول القارة هى جزء من استراتيجية شاملة للعودة لأفريقيا بشكل عام ودول حوض النيل بشكل خاص، حيث قام الرئيس بعدة زيارات لها، واستقبل عددا من الرؤساء لبحث سبل تعميق العلاقات وأطر التعاون المشترك وتوقيع مزيد من اتفاقيات التفاهم الدبلوماسى والأمنى والاقتصادى بين مصر والدول الأفريقية.
توجه مصر نحو أفريقيا مبنى على فكرة التعاون الاقتصادى والتنموى ودعم القدرات البشرية بكل ما تستطيعه مصر من جهد، خاصة عبر توفير العديد من المساعدات العلمية وتمويل المشروعات والمنح التعليمية والتدريبية وإيفاد الخبراء المصريين عبر الوكالة المصرية للشراكة مع دول أفريقيا وتسعى مصر لتشجيع المستثمرين من القطاع الخاص على الذهاب لأفريقيا وتمويل المشروعات التنموية فى تلك الدول، وقد حدث ذلك بجنوب السودان وأوغندا وكان من بينها تمويل مشروع تطهير المجارى المائى بواقع 20 مليون دولار فضلا عن تمويل عدة مشروعات فى مجالات الصحة والتدريب والتعليم، حيث أظهر التحرك الأخير للسيسى مدى تفهم القيادة السياسية لأهمية التقارب مع دول أفريقيا ودول حوض النيل فى أزمة سد النهضة، وتوضيح وجهة النظر المصرية فى مواجهة السياسات الإثيوبية بشأن السد.
تحركات السيسى الأفريقية كشفت عن وعى الرئيس بأهمية القارة الأفريقية، وهو ما جعل المتابع لتحركاته يتذكر الدور الذى قامت به مصر فى عهد عبدالناصر فى أفريقيا، ويثنى على التحركات الواعية للرئيس الذى أدرك البعد الاستراتيجى للقارة الأفريقية وأهمية التواجد المصرى فى القارة، وهو ما مهد لتولى مصر لرئاسة الاتحاد الأفريقى، بل وكان السبب المباشر فى حصول مصر على شرف تنظيم كأس الأمم الأفريقية بعد أن حصلت على أصوات أبناء القارة السمراء، ليستعيد السيسى القارة الأفريقية وأبناءها مرة أخرى.