آمنوا بالله ثم بالوطن
الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018 11:38 ص
يخلط بعضهم الأوراق عن عَمد أو عن غفلة، فيوحِّد بين الوطن وبين ظروف معيشة قابلة لأن تتغيّر بين عشيّة وضحاها، الوطن معنى أسمى وأبقى من كل شيء، وخير دليل على صدق ما نقول، قصة عظيمة من قصص الهجرة النبوية الشريفة.
تلكم هي قصة الصحابي الجليل بلال بن رباح.
كُلنا يعلم حياة «بلال» في مكة، وكلنا يعرف تفاصيل عمليات التعذيب التي كان يتعرض لها صباحًا ومساء على أيدى سادته من كفار قريش، حتى حرّره أبوبكر الصديق.
بالجملة نستطيع القول إن "بلال" لم يعش في مكة بعد إعلانه الإسلام سعادة تُذكر أو رفاهية يُشار إليها، أو حتى كرامة تحفظ له ماء وجهه. ثم حدثت الهجرة فمرض «بلال» ومعه أكثرية الصحابة مرضًا شديدًا، وقالت كتب السيرة: لقد أصابتهم الحُمّى.
كان "بلال" إذا ذهبت عنه الحمّى يُنشد باكيًا:
(ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يومًا مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
والمعنى: ليتني أعود إلى مكة فأبيتنّ ليلة بواديها وحولي (إذخر) وهو حشيش مكّي ذو رائحة طيبة (وجليل) وهو نبات كإذخر في طيب الرائحة، والنباتان ينموان بمكّة وأوديتها، ولا يكاد يُلاحَظ لهما وجود في غيرها.
ثم يقول: هل سأرى ثانية مياه (مجنة) وهي على أميال من مكّة، وكانت بها سوق في الجاهلية، وهل سأرى شامة وطفيل؟
وقد اختلفوا في شرح المعنى، فذهب بعضهم إلى أن شامة وطفيل اسما جبلين بالقرب من مكة، وذهب فريق إلى أنهما من أسماء عيون المياه التي كانت حول مكة.
هذا الشعر لو ترنّم به واحد مثل عليّ بن أبي طالب أو أبو بكر أو عمر أو سعد بن أبي وقاص أو غيرهم من أولاد قريش المرموقين، لكان الأمر منطقيًّا، فهؤلاء كانوا سادة وكل ما تعرَّضوا له لا يُعدّ شيئًا مُقارنة بالعذاب الذي تجرّعه "بلال".
الأمر هو أمر بصيرة مُضيئة تمتّع بها بلال، فغيره كان سيُساوي بين الوطن مكّة، وبين الطواغيت الذين عذّبوه، ولكن الصحابي صاحب البصيرة كان يُنادي الوطن الذي سرعان ما سيعود إليه حُرًّا مُنتصرًا.
حنين "بلال" إلى الوطن نقلته إلى الرسول أم المؤمنين عائشة، فما كان من الرسول إلا أن دعا قائلًا: «اللهم حبِّب إلينا المدينة كحُبّنا مكة أو أشدّ».
هل رأيت جملة «كحُبّنا مكّة»؟ الرسول الذي ذاق مرارة التكذيب والتجريح من مكة لا يُحبّ بلدًا كحبه لها، مكة التي كان أمرها بأيدي جماعة من الأجلاف قساة القلوب الذين خطَّطوا لقتله.