ضربة فرشاة جديدة على لوحة المستقبل.. واشنطن وبكين تواصلان رحلتهما نحو المجهول
الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018 09:00 م
أنهى دونالد ترامب سنته الأولى في البيت الأبيض بصورة هادئة نسبيا. لكنه كان قد قرر على ما يبدو أن يفتتح السنة الثانية بتغيرات درامية في عدد من الملفات. وبالفعل بدأ منذ فبراير الماضي في هيكلة الرؤية الأمريكية لعديد من الأمور.
بدأ الرئيس الأمريكي استراتيجيته الساعية إلى تجاوز ميراث سلفه باراك أوباما، وتعظيم العوائد الاقتصادية من المواقف السياسية الإقليمية والدولية، بالنظر في الاتفاق النووي الذي وقعته الولايات المتحدة وعدة قوى دولية مع إيران في أبريل من العام 2015، ومع الاحتفال بالذكرى الثالثة للاتفاق كان "ترامب" قد قرر التخلص منهم للأبد.
خريطة بحر الصين الجنوبي
في الأيام الأولى من مايو أعلن دونالد ترامب خروج بلاده من الاتفاق النووي، وبدء حزمة من العقوبات الاقتصادية والسياسية على إيران، تصل ذروتها في نوفمبر المقبل بإقرار حظر مباشر على صادرات طهران من النفط والغاز، وفي الأسابيع التالية مارس ضغوطا مباشرة على حلفائه السياسيين في أوروبا وآسيا للالتزام بالعقوبات، ورغم مناورات عديدة من ألمانيا وفرنسا واليابان والصين وكوريا الجنوبية، فالمتوقع أن ينجح في إنجاز حصار كامل للنظام الإيراني، خاصة في ظل تزامن هذا الأمر مع حرب تجارية شرسة تخوضها واشنطن مع بكين، بصورة تُقلّص قدرة الصين على تحدّي البيت الأبيض في الجبهة الإيرانية، وتُمثّل ردعًا معنويا قاسيا لباقي الحلفاء ومن يُفكّرون في الالتاف على الرؤية الأمريكية.
البيت الأبيض
قبل أن ينتهي البيت الأبيض من خطته التكتيكية للتعامل مع نظام الحكم في طهران، بدأ صراعا تجاريا مع عدد من القوى. كانت الخطوة الأولى بفرض رسوم جمركية على واردات الولايات المتحدة من بعض السلع والمنتجات الأوروبية، ثم وضع اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية "نافتا" على محكّ التقييم والمراجعة، وكانت المحطة الأبرز والأكثر إثارة في هذا الملف إطلاق صافرة البداية لحرب تجارية مباشرة مع الصين، من المتوقع أن يطول مداها وتتصاعد آثارها في الشهور المقبلة، واستكمل الأمر لاحقا باشتباك اقتصادي مع تركيا، على خلفية احتجاز الأخيرة القس الأمريكي أندرو برونسون. في كل هذه الملفات مضى "ترامب" بخطوات حاسمة، وبرؤية اقتصادية أقرب لحسابات الجدوى وتقديرات رجال الأعمال، ورغم تعقّد كل هذه الملفات، يظل الملف الصيني أكثرها تعقيدا واضطرابا وخطورة على الاقتصاد العالمي.
محطة حاويات وسفينة بضائع
رؤية متزنة وموقف ضعيف
في حلقة جديدة من حلقات الصراع، تبادلت واشنطن وبكين حزمة جديدة من الرسوم الجمركية أمس الاثنين. وحتى الآن فإن المواقف العملية تؤكد أنه لا سبيل للتراجع عن هذه المناطحة، وأن البلدين يتعاملان مع الأمر على طريقة حرب تكسير العظام، أو مصارعة الموت، وعلى الأرجح ستكون هناك خسائر متبادلة من الطرفين، ليس أفدحها تأثر مئات الشركات والمُصدّرين والسلع، وإنما قد يطال الأمر مُعدلات النمو الداخلية، وبالضرورة سينعكس على الاقتصاد العالمي ومعدلات النمو في كل الاقتصادات المرتبطة بالبلدين، وأيضا على أسعار الطاقة والذهب وأذون وسندات الخزانة وأسواق المال.
حال إصرار الإدارة السياسية في الولايات المتحدة والصين على المُضيّ قُدمًا بالوتيرة نفسها، فإن الأمور ستشهد مزيدا من التعقيد والاحتدام في الشهور المقبلة. لا يبدو أن هناك مفرًّا من الكُلفة الباهظة التي قد تطال اقتصادي البلدين، ومعدلات النمو في العالم، إلا بالتوقف برهة، أو بالعودة خطوة إلى الخلف، وفي الوقت الذي تُبدي فيه الصين استعدادها للتفاوض مع واشنطن، باشتراط أن تقوم المحادثات على المساواة والاحترام المتبادل، لا تُنبئ موقف ترامب والإدارة الأمريكية عن احتمال اللجوء إلى هذا المسلك.
الرئيس الصيني شي جين بينج
في الوقت الذي تتوسط فيه واشنطن وبكين حلبة المصارعة، وتشحذ كل منهما كامل قواها استعدادا للتصعيد المحتمل، تبدو الأخيرة أكثر توازنا في رؤاها ومواقفها، حتى لو كانت صاحبة الموقف الأضعف، ربما لأنها الأكثر احتياجا لهذا أو الأكثر تضرّرًا من مواصلة التصعيد، لهذا تحافظ على لياقتها واستعدادها، وفي الوقت نفسه تُبدي استعدادا دائما للتراجع والجلوس إلى طاولة التفاوض. في وقت سابق قال مسؤولون صينيون إنهم مستعدون للحوار، ومؤخرا قال فو تسي ينج، ممثل التجارة الدولية في الصين، إن الحفاظ على علاقات تجارية إيجابية سيكون أمرًا أكثر إفادة لواشنطن، لافتا إلى أنه إذا كان الميزان التجاري في صالح الصين، فإن ميزان الأرباح من هذه التجارة يميل إلى جانب الولايات المتحدة.
صراع على المستقبل
حتى الآن ما زالت موازين القوى في صالح واشنطن. الأرقام تؤكد أن الولايات المتحدة صاحبة الاقتصاد الأكبر عالميا، وهي القوة الأولى عسكريا، ورغم أن الصين تحتل المرتبة الثانية اقتصاديًّا، فإن الفارق الكبير بين البلدين لا يمكن أن يُشكل إزعاجا أو خطرا في المدى الراهن. الحقيقة أن الأمر يبدو صراعا استباقيا على المستقبل.
موقع الولايات المتحدة في صدارة المشهد العالمي يوفر لها مزايا عديدة. في الشق السياسي تفرض الإدارة الأمريكية رؤاها على الجميع، توجه المؤسسات الدولية، وتضع قوانين ومعادلات الصراع في أنحاء العالم. هذا الأمر ينعكس في صورة مزايا وموارد اقتصادية وفرص ضخمة، بجانب ما يوفره من مكاسب معنوية. وفي الاقتصاد تربح الولايات المتحدة كثيرا من حضورها المباشر في كل الملفات الساخنة، وعلاقاتها الوطيدة بكل الأطراف، وكونها هدفا مهما لدى دول العالم جميعا لتطوير العلاقات وعقد اتفاقات وشراكات. هكذا تتشارك واشنطن في موارد العالم ومعدلات نموّه، ويزداد الأمر مع وضعية عملتها الوطنية "الدولار" كعملة قياسية عالمية.
هذه الوضعية تستند إلى القطبية والهيمنة الأمريكيتين، وترتد عوائدها في صورة أرباح ضخمة دون جهد مباشر، سواء بتعزيز موقع الدولار وجدارته الائتمانية وحضوره الكاسح ضمن احتياطيات الدول، أو بزيادة الطلب على السندات والأذون الأمريكية. وبالتأكيد لا يمكن الحفاظ على هذه الوضعية ما لم تظل قبضة واشنطن قابضة على صولجان العالم بهيئة إمبراطورية. البديل يمكن تصوّره بالنظر إلى تبدل المراكز بين الولايات المتحدة والصين، فحينما تتقدم الأخيرة الصفوف وتتصدر المشهد، ستصبح اللاعب السياسي والاقتصادي والعسكري الأول، وسيتقدم اليوان على الدولار، لترتدّ أمريكا إلى داخل حدودها مُنكفئة على مواردها وقدراتها الذاتية وإمكانات نموّها الداخلية، وتخسر المساندة الدولية الواسعة التي تتوفر للرجل الأول.
التهام نصف الكعكة
حصيلة موجات الرسوم الأمريكية، طالت بضائع ومنتجات صينية بقيمة 250 مليار دولار حتى الآن، من إجمالي صادرات صينية للولايات المتحدة تسجل 500 مليار دولار سنويا. وعلى الجانب المقابل طالت الرسوم الصينية بضائع أمريكية بقيمة 110 مليارات دولار من إجمالي وارداتها الأمريكية البالغة 125 مليار دولار. هذه الأرقام تُعني أن خيارات الصين تقترب من النفاد، فرغم أن الأخيرة لم تُطبق مبدأ المعاملة بالمثل بشكل كامل، ومقابل 250 مليار دولار منها تُحصّل رسوما على 110 مليارات من غريمتها، تظل لدى الولايات المتحدة قدرة أكبر على معاقبة 250 مليار دولار جديدة، بينما لا يتبقى لدى الصين سوى 15 مليار دولار قبل أن تنفد قدرتها على الرد.
في الفترة الأخيرة خفّضت وكالة فيتش الدولية تقديراتها المتوقعة للنمو الاقتصادي في الصين خلال 2019. فبعدما حققت الصين نموا في 2017 بنسبة 6.9%، تراجعت الأرقام في الربعين الأول والثاني من 2018 إلى 6.4 و6.3% على التوالي، ومن المُرجّح أن يتراجع هذا الرقم في العام المقبل، في ظل أن تدفقات السلع الصينية للولايات المتحدة تقترب من خُمس صادراتها للخارج (19% في العام الماضي). بالنظر إلى أن الرسوم تتراوح بين 10 و20% فإن الصين تتكبّد قرابة 3% من إجمالي صادراتها لصالح الموازنة الأمريكية، في وقت لا تستطيع فيه تعويض إلا أقل من رُبع هذه الخسارة.
البحث عن أوراق بديلة
أحدث حلقات الرسوم الأمريكية التي تمثلت في فرض 10% على بضائع بقيمة 200 مليار دولار، بدءا من المنتجات الغذائية وحتى الآليات والماكينات الصناعية. تبعها في إطار سياسة الرد بالمثل إعلان الصين اتجاهها لفرض رسوم بين 5 و10% على قرابة 5200 سلعة أمريكية بقيمة 60 مليار دولار. تلا هذا التراشق تعليق الصين للمحادثات التجارية مع الولايات المتحدة انتصارا لرؤيتها السابقة بأنه "لا تفاوض تحت الضغط"، حسبما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية. على خلفية الرسوم الجديدة، وعقوبات واشنطن بحق الجيش الصيني عقب اتفاقه على شراء أسلحة وتجيهزات عسكرية من روسيا. بينما خفّضت وكالة "فيتش" الدولية تقديراتها للنمو المتوقع في الصين خلال 2019 بنسبة 0.2% وصولا إلى 6.1%، مع تراجع النمو العالمي 0.1% ليسجل 3.1%.
التعريفة الأمريكية الجديدة التي تطال بضائع صينية بـ200 مليار جنيه بدأ سريانها أمس، ومن المنتظر أن ترتفع إلى 25% قبل نهاية العام الجاري. بينما تبدأ التعريفة الصينية بـ5% وترتفع إلى 10% بحسب نوعية المنتج وأهميته وارتباطه بالخريطة الاقتصادية والصناعية واحتياجات السوق المحلية. لكن حتى هذه الأرقام المصحوبة بمدى زمني محدد للتطور لا تبدو نهاية الصراع. تقول شبكة "سي إن إن" الأمريكية إن الأجواء ملبّدة بالغيوم واحتمالات السير إلى مدى أبعد من التصعيد. لافتة إلى تهديد ترامب بتوسيع مدى الرسوم ليطال إجمالي الصادرات الصينية للولايات المتحدة، بوضع ما تبقى خارج التعريفة الجديدة، والبالغ 267 مليار دولار، في مدى العقاب.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
ما لم تستكمله "سي إن إن" في تقريرها أن الصين لن تجد مزيدًا من أوراق الضغط. ستفرض رسومها على إجمالي البضائع الأمريكية البالغة قيمتها 125 مليار دولار ثم تتعطّل. هذا على صعيد التجارة المباشرة، لكن تظل هناك مسارات بديلة وربما غير متوقعة، يمكن استشرافها من إعلان جاك ما، مؤسس موقع "علي بابا" الشهير، تراجعه عن وعود سابقة قطعها عقب تنصيب ترامب في يناير 2017 بتوفير مليون وظيفة. وقال عملاق التجارة الإلكترونية إن "الوعد كان يستند لشرطين مُسبَقين، هما تعاون واشنطن وبكين يشكل ودي، والتبادل التجاري بموضوعية وعقلانية. لكن الوضع الراهن يُهدّد الشرطين، ويجعل الوفاء بالوعد مستحيلا".
تراجع مؤسس ومالك "علي بابا" يمثّل ضغطا كبيرًا على الإدارة الأمريكية. لكن تظل احتمالات الخطورة أعلى وأبعد مدى من موقف جاك ما، فبالنظر للأمر ومدّ الخط على استقامته يُمكن توقع مزيد من الحصار الصيني للولايات المتحدة، سواء عبر شركات صينية عملاقة تعمل في الداخل الأمريكي، أو عبر حلفاء وأذرع اقتصادية في أوروبا وآسيا ومناطق أخرى من العمل. يمكن القول إنه سيظل هناك هامش دائم للمناورة والتفاف الصين على الغطرسة الأمريكية، والبحث عن أوراق جديدة لتحقيق التوازن المفقود في الصراع التجاري. وإذا كانت واشنطن تستغل نموّ الصين وتوحّشها التجاري ضدّها، فبإمكان الأخيرة معادلة الصورة بتطوير قواعد اللعب، أو تطبيق مبدأ الهجوم خير وسيلة للدفاع.
بعيدا عن المال.. قريبا من النفوذ
رؤية الولايات المتحدة للصراع لا تنحصر في جانب الاقتصاد. بات واضحا أن المؤسسات الأمنية الأمريكية تستشعر قدرا من الخطر المحمول على الرياح الآتية من شرقي آسيا، وهذا ما أكدته جينا هاسبل، مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA بقولها إن الصين تبذل جهودا حثيثة لزيادة نفوذها على الصعيد الدولي، وإن هذه الجهود ملحوظة وتثير اهتمام الوكالة. وفي هذا الجانب استشهدت بأنشطة بكين الاستثمارية في أفريقيا وقروضها المُيسّرة لعدد من الدول الفقيرة حول العالم.
جينا هاسبل مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA
موقف الاستخبارات المركزية الأمريكية الراصد لتحركات الصين، لا تُحرّكه المخاوف الاقتصادية من وتيرة النمو المستقرة لاقتصاد التنين الآسيوي، إذ لا يُشكّل هذا النمو عامل تهديد عاجلا، على الأقل في السنوات المقبلة. لهذا فإن تأكيد جينا هاسبل أن CIA تراقب تحركات الصين ومحاولاتها لتوسيع نفوذها عن كثب، خاصة في جنوبي آسيا وجزر المحيط الهادئ وفي أمريكا اللاتينية وأفريقيا، يشير إلى رؤية سياسية واستراتيجية للأمر، ومخاوف من المستقبل الذي قد تتمكن فيه بكين من اقتحام ملفات ومناطق أخرى، تعتبرها واشنطن تجسيدًا عمليا لتصدّرها قائمة القوى العالمية، واحتلال موقع القطب الأوحد منذ التخلص من الغريم السابق، الاتحاد السوفيتي.
"الصين تعمل على تقليص نفوذ الولايات المتحدة من أجل تحقيق أهدافها الخاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ وما وراءها" بهذه العبارة الكاشفة وصلت "هاسبل" بالمخاوف إلى مداها الأقصى، بحسب ما نقلته عنها صحيفة واشنطن بوست، التي قالت في تقريرها إن الصين وجهت قرابة 84% من جملة استثماراتها في مشروعات العمران، البالغة 734 مليار دولار بين 2005 و2017، لعدد من الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. الواضح من سياق الحديث أن واشنطن تحاول التأكيد على أن الصين تتوسع خارجيا، وتبني قاعدة حلفاء وموالين حول العالم، والصين تفعل هذا بالفعل، وفي ضوء أن هذه التطلعات تُكبّد بكين فاتورة اقتصادية ليست هيّنة، فإن من التبسيط المُخلّ أن نتعامل مع الصراع المحتدم الآن باعتباره حربًا تجارية أو سباقا بين متنافسين على كعكة من الأرباح والعوائد المالية.
بالنظر إلى حقيقة أن القوة العسكرية تستند في جانب كبير إلى القدرة المالية، واستنادا إليهما تأتي التطلعات السياسية، يُصبح من الجائز القول إن احتدام الموقف وتصاعد حدّة التعامل الأمريكي مع الصين، لا يتأسّسان فقط على سؤال الاقتصاد وسباق الثروة، حتى وإن بدا الأمر في وجهه البسيط على هذه الصورة، لكن حقيقة الشجار الدائر الآن أن الولايات المتحدة نسيت حافظة نقودها بصورة ما، وتُركّز الآن على حافظة النفوذ، وعلى مناطق توسّعها ومواضع أقدام جنودها على امتداد العالم.
صدام مكتوم في الأمم المتحدة
الانعكاسات السياسية للصراع الذي بدأ كحرب تجارية، ويواصل رحلة التطور على أصعدة عدة، لم تكن إشارته الأوضح في حديث جينا هاسبل، أو تصريحات مسؤولين بالإدارة الأمريكية حول تهديد بكين لمصالح واشنطن، وإنما تجلّى الأمر بصورة أخرى في أروقة المؤسسات الدولية، حسبما عرضت صحيفة "جارديان" البريطانية في تقرير لها تناولت فيه مساعي البلدين لفرض نفوذهما على المحيط العالمي.
في تقريرها، قالت "جارديان" إن النفوذ المتنامي للتنين الآسيوي بشكل هادئ ومتصاعد بوتيرة منتظمة، بات يُعادل تقريبا حالة الصخب المحيطة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة. ورغم تجاهل بكين لقدراتها الاقتصادية والسياسية التي تمنحها موقعا متقدما ضمن قادة المؤسسة الدولية، وارتضائها الحضور الناعم وغير الملفت، أو "الجلوس في مقعد خلفي" حسب تعبير الصحيفة، فإنها الآن تبدو أكثر استعدادا للتقدم خطوات إلى الأمام وشغل مواقع مهمة ضمن بنية السلطة في المحافل الدولية. كما تبدو مستعدة لتعزيز تأثيرها السياسي بالعلاقات والتحالفات، وزيادة حصّتها في موازنة المؤسسة، ربما في إطار التأهب لتمرير رؤاها السياسية وحشد المؤيدين لها حول العالم.
مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة
بحسب الصحيفة البريطانية يقول ريتشارد جوان، المسؤول بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، إن حضور الصين في الأمم المتحدة بات أكثر وضوحا ولفتًا للأنظار، وقد بدأت هذا التغير الذي يعتبره "صحوة" خلال أعمال الجمعية العامة بالعام الماضي، لافتا إلى أن هذا الأمر "يحدث منذ عقود عدّة، لكنه آخذ في التنامي الآن بوتيرة متسارعة". واعتبرت "جارديان" أن الصين تسعى لخلافة الولايات المتحدة في عدد من المؤسسات التي رفعت يدها عنها، مثل مجلس حقوق في جنيف، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو". ما يُعني أن بكين تتحرّك وفق رؤية واضحة بملء الفراغات التي تركتها واشنطن، ولا تستهدف فقط ارتقاء الدرج خطوة بعد خطوة، وإنما تحاول اقتحام المشهد دفعة واحدة، ومن مقعد الإمبراطور الذي بات خاليا.
منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - يونسكو
تايوان.. ذراع الصين الضعيفة
منذ اللحظة الأولى كان واضحا أن الصراع قد لا ينحصر طويلا في الملف الاقتصادي. يبدو أن البلدان يتعاملان مع الأمر كحرب حقيقية، وفي الحروب تستغل القوى المتصارعة كل الأسلحة والقدرات. في الجانب الصيني لا يتضح حتى الآن ما يمكن أن تمثله بكين من إزعاج لواشنطن، حتى مع اقترابها من ملفات ساخنة مثل الوضع في إيران، أو مناطق استراتيجية مثل جنوب شرقي آسيا وشبه الجزيرة الكورية والقرن الأفريقي. أما فيما يخص البيت الأبيض فإن لديه أوراقا عديدة للمناورة، في طليعتها تايوان.
خريطة شبه الجزيرة الكورية
قبل ساعات أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية "البنتاجون" إقرار صفقة مبيعات وشيكة لتايوان، الجزيرة التي تتمتع باستقلال سياسي واقتصادي نسبي بينما تعتبرها الصين جزءا من أراضيها، تتضمن معدات عسكرية وقطع غيار للمقاتلات الأمريكية من طرازي "إف 5" و"إف 16" وطائرة النقل الضخمة "سي 130" بقيمة إجمالية 330 مليون دولار. وكالة التعاون الأمني التابعة لوزارة الدفاع قالت في بيان صادر عنها إن الصفقة تغطي كل أنظمة الطيران بجانب أنظمة فرعية ودعم للبرامج وعناصر دعم لوجيستي أخرى، متابعة: "الصفقة المقترحة ستدعم الأمن القومي والسياسة الخارجية" فيما يبدو أنه إشارة ضمنية إلى تأثيرها على موقف الصين، في ضوء حساسية قضية تايوان بالنسبة لها، واحتمال توظيفها كذراع ضعيفة قابلة للكسر.
مقاتلات أمريكية من طراز إف 16
إذا كانت واشنطن تستهدف من صفقتها مع تايوان إثارة ضيق بكين، فقد حققت هذا الهدف بالفعل، وبشكل سريع للغاية، فبعد ساعات من إعلان تفاصيل الصفقة قالت وزارة الخارجية الصينية إنها ستتقدم باحتجاج شديد اللهجة للإدارة الأمريكية على الصفقة العسكرية المقدرة بـ330 مليون دولار. وقال المتحدث باسم الوزارة جينج شوانج: "خطوة الولايات المتحدة تنتهك العلاقات الدولية والإعلانات الثلاثة المُوقّعة حول العلاقات بين الجانبين، كما تضر بالأمن الإقليمي. الصين غير راضية عن الأمر، وقدمت احتجاجًا شديد اللهجة لواشنطن".
في حديثه بالمؤتمر الصحفي اليومي بمقر الوزارة، شدد "جوانج" على المبدأ الصيني الراسخ بشأن اعتبار تايوان جزءا أصيلا وغير قابل للانفصال عن الصين، واستكمل حديثه بمطالبة الولايات المتحدة بالتخلّي عن موقفها الداعم لتطلعات تايوان الانفصالية، والالتزام بالتعهدات التي أقرت بها في الإعلانات الثلاثة التي وقعها الجانبان، وما يترتب على ذلك من وقف فوري لأية تفاهمات أو اتصالات عسكرية مع "تايبيه"، إذا كانت واشنطن مهتمة بتجنب الإضرار بالسلم الإقليمي في شرقي آسيا، وبالحفاظ على علاقات البلدين بعيدة عن التوتر. ويمكن القول إن لهجة الخارجية الصينية التي بدت حادة وانفعالية، بقدر ما تؤكد نجاح البيت الأبيض في استفزاز بكين وإشعارها بالخطر حال التمادي في الصدام، فإنها تشير في الوقت نفسه إلى عواقب غير محمودة حال إفلات الأمور من قبضة الإدارة الأمريكية، خاصة أن التنين الصيني لن يخضع بسهولة، ولا يمكن معاملته كبلد فقير أو ضعيف.
الهجوم من شواطئ كوريا
محاولات الولايات المتحدة لحصار الصين، أو غزوها في معاقلها، تجاوزت محطة تايوان باتجاه ساحات كانت تُعد بمثابة مناطق نفوذ تقليدية للصين. فبعد عقود من سيطرة بكين على مفاتيح شبه الجزيرة الكورية، ورعايتها المباشرة لنظام الحكم في كوريا الشمالية وحمايته من استهداف واشنطن، نجحت الأخيرة في فكّ الارتباك بين بكين وبيونج يانج، وحققت تقاربا كبيرا مع نظام كيم جونج أون، عقب لقاءات متتابعة بين مسؤولين من البلدين، وقمة جمعت الرئيسين في سنغافورة، واتفاقية واضحة على تفكيك الترسانة النووية لكوريا الشمالية مقابل التدرج في رفع العقوبات الاقتصادية والسياسية.
رئيسة تايوان تساي إنج ون
في سياق الغزو الناعم للجغرافية الصينية وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتفاقية تجارة حرة مع نظيره الكوري الجنوبي مون جاي إن، خلال لقائهما في نيويورك أمس الاثنين، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، ونقلت شبكة "سي بي إس" الأمريكية عن ترامب قوله إن واشنطن و"سول" يجمعهما تعاون جيد فيما يخص ملف بيونج يانج. وقال نظيره الكوري: "نحرز تقدّمًا في ملف كوريا الشمالية، وزعيمها كيم جونج أون أكّد في رسالة للرئيس ترامب أنه ملتزم بنزع السلاح النووي. رسالة الزعيم الكوري الشمالي تضمنت أيضا تأكيده أنه يثق في ترامب ثقة لا تتزعزع".
في تصريحات نقلتها وكالة رويترز اليوم، قال وانج شو ون، نائب وزير التجارة الصيني، إنه يصعب على بلاده مواصلة الحوار أو المُضيّ قُدمًا في نقاشات عميقة بشأن الصراع التجاري مع الولايات المتحدة، بينما تضع الأخيرة "سكينا على رقبة الصين". فيما يبدو فإن هذه التصريحات تأتي ردًّا على وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين، الذي دعا بكين لجولة محادثات جديدة. لكن هذه الدعوة جاءت تالية لحزمة رسوم أمريكية جديدة بدأ تطبيقها أمس الاثنين، إضافة إلى تهديدات من الرئيس ترامب بأن سيف الرسوم الجمركية قد يطال 267 مليار دولار (باقي الصادرات الصينية للولايات المتحدة).
يرى المسؤول الصيني، بحسب رويترز، أن إجراءات الإدارة الأمريكية عقّدت الأمور وجعلت المفاوضات أمرا مستحيلا. مشدّدًا على أن اللوم في هذا الأمر يقع على عاتق واشنطن التي تجاهلت فرص التفاهم في مايو، ثم بدأت مسيرتها نحو فرض رسوم جمركية على الجميع من طرف واحد. وردّ نائب وزير التجارة على اتهامات الإدارة الأمريكية للصين باختراق قوانين الملكية الفكرية وأُطر المنافسة العادلة، بالقول: "هذا الكلام لا أساس له، وخالٍ من الحقيقة تماما. الشركات الأمريكية باعت منتجات للصين بـ700 مليار دولار، وربحت ما يزيد على 500 مليار دولار".
نزيف في بكين.. جفاف في واشنطن
بالنظر إلى قوائم الخاسرين من هذا التراشق فقد تأتي الموانئ الأمريكية في المقدمة، هذا ما أوردته وكالة الأنباء الفرنسية في تقرير لها قبل يومين. وبحسب التقرير قال كورت ناجل، رئيس الجمعية الأمريكية لسلطات الموانئ، إن الرسوم الجمركية من جانب واشنطن والردّ عليها تُكبّد الموانئ خسارة كبيرة، إذ تؤثر على 10% (ما يوازي عائدات بقيمة 160 مليار دولار) من إجمالي التجارة العابرة من خلالها.
ربما لا تتمكن الولايات المتحدة من معالجة أزمة الموانئ. لكن الصين تتحرّك الآن على طريق تلافي آثار الصراع المحتدم وموجات الرسوم الأمريكية. الحكومة الصينية تبذل جهودا حثيثة لطمأنة الرأي العام والمستثمرين، سواء عبر تصريحات مسؤوليها أو من خلال المنصات الإعلامية والصحفية الموالية للدولة. في هذا الإطار كتب رئيس تحرير صحيفة "جلوبال تايمز" إن معدل النمو قد يتباطأ بنسبة 1% لكن لا خطورة في الأمر، فالصين تستطيع التحمل. متابعا: "ستدرك واشنطن أن سياراتها وهواتفها لن تستطيع البقاء دون عملاء صينيين". في السياق نفسه أكد وزير الصناعة، لو ون، أن الحكومة الصينية ستتخذ إجراءات وتدابير عملية لمساندة الشركات وتخفيف آثار الرسوم الأمريكية المطبقة على منتجاتها. مشيرا إلى أن الأمر سيشمل حزمة إنعاش تبدأ بمزايا وامتيازات لتحسين بيئة العمل، بجانب تخفيض الضرائب والأعباء المالية.
الآثار الجانبية التي تخاف منها الصين حاليا أن تتسبب الرسوم الجمركية الأمريكية في موجات ارتدادية لشركات ومجموعات استثمارية إلى خارج السوق الصينية. هذا الأمر يُعني تراجعًا في النمو وارتفاعا في مستويات البطالة، أو تقلص قدرة السوق على توليد مزيد من فرص العمل، وتراجع معدلات الادخار والإنفاق الاستهلاكي. كل هذه الاحتمالات تُشكّل ضغوطا قاسية على التنين الآسيوي بالغ الضخامة، الذي لا تسمح له ضخامته بالتهاون في معدلات النمو الكافية لتحريك هذا الجسد العملاق. لكن المشكلة أن شركات أوروبية وأمريكية عديدة بدأت تحويل سلاسل توريدها من الصين للخارج، أو تعليق استثماراتها الجديدة وخططها التوسعية. بينما أكد نائب وزير الصناعة الصيني أن الأمر طبيعي ولا يشكل ظاهرة تستدعي الانزعاج، وستتعامل الحكومة معه بطريقة عقلانية شاملة.
سكّين فوق الرقبة
وكالة الأنباء الفرنسية تناولت صعوبة التوصل إلى تفاهمات في ظل مناخ التصعيد الحالي، ونقلت عن وانج شو ين، نائب وزير التجارة الصيني، قوله إن "يستحيل مواصلة المفاوضات تحت التهديد، خاصة بهد إقرار رسوم جديدة على سلع بـ200 مليار دولار. الولايات المتحدة تبنّت قيودا تجارية موسعة، فكيف يمكن التفاوض والسيف فوق رقبتنا؟ هذه المفاوضات لن تكون في أجواء ندّية".
رؤية الصين لخطوة الإدارة الأمريكية الأخيرة تنحاز إلى أن البيت الأبيض يستهدف إخضاع بكين قبل التفاوض معها، بينما تستهدف الأخيرة الدخول في مناقشات متكافئة. لكن تظل العقبة بحسب رؤيتها فيمن يستهدفون الإبقاء على التوتر في مستوياته الحالية. فبحسب وكالة إنترفاكس الروسية ترى بكين أن دائرة من المسؤولين في واشنطن يتعمّدون إثارة الفتنة وتسميم الأجواء بين البلدين في الوقت الراهن. ونقلت الوكالة عن وزير الخارجية وعضو مجلس الدولة الصيني، وانج يي، قوله خلال لقاء بممثلين للجنة الأمن القومي الأمريكي، إنه "بات واضحا أن واشنطن تنتهج سياسة سلبية تجاه الصين. هناك قوى تكيل التهم لنا في مجالات الاقتصاد والأمن والتجارة. وهذا النهج غير مسؤول ويتناقض مع الحقيقة"، مشددا على أن مواصلة هذا المسار لن تضر علاقات البلدين فقط، وإنما ستطال العالم بكامله.
التصعيد المتواصل من جانب الإدارة الأمريكية عبر موجات متتابعة من الرسوم الجمركية، طالت حتى الآن قرابة 50% من الصادرات الصينية للولايات المتحدة، دفع بكين إلى تصعيد لهجة الاشتباك مع الأمر. في البداية هددت بالرد بالمثل، ثم أشارت إلى استعدادها للجوء لمنظمة التجارة العالمية بشكوى رسمية، وبعدها بدأت تطبيق زيادات في الرسوم الجمركية على البضائع الأمريكية، مع التهديد بين وقت وآخر بمزيد من العواقب السيئة.
في مؤتمر صحفي عقده اليوم الثلاثاء، قال وزير التجارة الصيني شو ون، إن بكين أصبحت مضطرة للرد على واشنطن في النزاع التجاري القائم بينهما. مشددا على أن الشركات والمصدرين الأمريكيين سيكونون عُرضة لضرر كبير، وفي مقدمتهم مورّدو الغاز الطبيعي المسال. وأردف قائلا: "ردّ بكين سيوفر فرصًا أكبر لدول أخرى من مُصدّري الغاز المسال. وقد تكون أستراليا مصدرا مهمًا للطاقة في الفترة المقبلة".
أربع سيقان ومستقبل كسيح
مشهد الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين يشبه جبلا ضخما من الثلج. لا يمكن الحُكم على حجمه وثقله الحقيقيين بالنظر إلى الجزء الظاهر منه. في هذه النوعية من الاشتباكات دائما ما يكون الخفيّ أكبر وأكثر تأثيرًا من الظاهر، وحتى الآن لا يبدو أن لدى أي من الطرفين هامشًا مفتوحا للتراجع أو تقديم تنازلات. الأقرب أن يظل الاحتدام قائما ويواصل كل طرف مساره بالوتيرة نفسها، مراهنًا على احتمالات المناورة وقدرات الاحتمال، والاستعداد لتكبّد الخسائر بثبات وتبادل عضّ الأصابع دون ندم أو ألم.
ما يظهر من جبل الثلج أن واشنطن وبكين تتشاجران على مكاسب اقتصادية، وأنهما اختارتا أن تكون التجارة ساحة اللعب في هذا الصراع. الأولى ترى أن التنين الآسيوي يخوض منافسة غير عادلة، وينتهك القوانين وحقوق الملكية الفكرية، والأخيرة ترى أنها هدف مباشر لأطماع أمريكية يوجّهها ترامب بمنطق رجال الأعمال وحسابات المكسب الأقصى مقابل الأعباء الأقل. لكن في عُمق المشهد يبدو أن الصراع في حقيقته سباق محتدم باتجاه المستقبل. الإدارة الأمريكية تعلم يقينا أن الصين تصعد الدَّرَج بيقين وثبات لتصبح لاعبا إمبراطوريا في غضون سنوات قليلة، وبالتأكيد ستنازعها في موقعها الحاكم للسياسة الدولية وفي تفرّدها بتوجيه دفة العالم بمنطق القطب الأوحد. والصين تراهن على اختلاس الوقت والتقدم الهادئ دون إثارة غيظ الوحش الأمريكي الكاسر. لكن الأرقام الاقتصادية تنسف هذه المعادلة. خطوات الصين تتسارع بنمو يتجاوز 150% من حجم النمو الأمريكي. والولايات المتحدة لن تستطيع مصادرة المستقبل الصيني، لكنها قد تتمكن من تأخيره نسبيًّا، حال تمكنت من تعطيل عجلة نموّه المتوحش.
هكذا يبدو الرهان دائرا حول قدرة الولايات المتحدة على وضع عصا غليظة في عجلة الاقتصاد الصيني. بينما تُراهن الأخيرة على الحركة المنتظمة رغم هذه المعوقات. الهدف الثابت لدى الطرفين هو المستقبل، لا تريد واشنطن خسارة موقعها في السنوات المقبلة، فتناضل لاستنساخ واقعها في الزمن. بينما تهرب الصين من هذا الواقع رافضة استمراره أبعد من هذا. ترى الصين أنها صبرت كثيرا وضحّت بما تستحقه من موقع دولي وأدوار سياسية واقتصادية وعسكرية لسنوات طويلة، حتى لا تستفز القوى الكبرى وتتفرغ لترقية أسواقها وقدراتها الاقتصادية. الجانبان يتفقان حول أهمية المستقبل القريب، ويختلفان بشأن جدارة احتكاره. وبالتأكيد يرفضان اقتسامه معا.
المشكلة أن المستقبل الذي تتنافس الولايات المتحدة والصين لحيازته يبدو مستقبلا كسيحا. لا يسير العالم بالوتيرة نفسها التي ظلت قائمة في العقود الماضية، ولا يمكن القول إن نظرية القطب الأوحد ستظل صالحة في العقود المقبلة. التحالفات الإقليمية الناشئة، والموازين الاقتصادية المتبدلة، والعلاقات المتشابكة بين كل الأطراف، كلها تفرض شروطا مغايرة على الخريطة الجيوسياسية للعالم في المستقبل. وحتى لو ظلت فكرة احتكار العالم صالحة فيما تبقّى من القرن الحادي والعشرين، يصعب تصوّر أن يخرج العالم من الحرب التجارية بأقدام سليمة ومستقبل مُبشّر. ما سيتكبّده الاقتصاد العالمي جرّاء هذه الحرب سيجعل المستقبل عصيبا، أو أقل تفاؤلا. وقتها سيجد القطب الأوحد نفسه في مأزق ضاغط، تتجاوز سلبياته ما يوفره تصدّر المشهد من مزايا. في النهاية لن تكون الصورة وردية إذا استمر الصراع وفق معادلته الحالية. ستتفانى الولايات المتحدة والصين في دفع سيقانهما الأربعة باتجاه المستقبل، لكنهما قد تتفاجآن عندما تصلان إلى وجهتهما النهائية بأنه مستقبل كسيح. وقتها سيقتسم البلدان الأعباء، أو سيتحملها أحدهما بمفرده.