اقتصاد على أرجوحة السياسة.. هل تذهب بريطانيا إلى المستقبل زحفا على البطن؟
الثلاثاء، 21 أغسطس 2018 11:00 م
رأى البريطانيون أن وجودهم في الاتحاد الأوروبي يأتي على حساب مصالحهم المباشرة واقتصادهم القوي الذي يتكلّف فاتورة فشل بعض دول القارة، فقرروا مغادرة الاتحاد، لتبدأ رحلة جديدة من الأعباء.
منذ إجراء استفتاء الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" صيف العالم قبل الماضي، لم تهدأ الأمور على كل الأصعدة داخل المملكة المتحدة، فبجانب قدر غير هيّن من التوترات السياسية والصراعات الداخلية، تبدو الأمور غير مبشّرة على الصعيد الاقتصادي، في ظل مؤشرات أداء سلبية بعض الشيء، وفرص إيجابية مهمة لا تملك لندن رفاهية التحرك لاقتناصها.
البريطانيون في استفتاء بريكست
تراجع الثقة في اقتصاد بريطانيا
لسنوات طويلة كان الاقتصاد البريطاني واحدا من أكبر الاقتصادات الأوروبية قوة وامتلاكا للفرص، ربما لهذا حرصت المملكة المتحدة وقت الاندماج مع أوروبا والدخول في سوق مالية واحدة، أن تُبقي على استقلالها المالي بشكل نسبي، وألا تُنحّي عملتها المحلية "الجنيه الاسترليني" لصالح العملة الأوروبية الموحّدة "اليورو". وحتى مع اتخاذ قرار مغادرة مؤسسات الوحدة الأوروبية في بروكسل، كان الأمر مدفوعا برؤى اقتصادية.
طوال العقدين الماضيين منذ اندماج بريطانيا في المنظومة الأوروبية، لم يتوقف البريطانيون عن تسجيل الملاحظات على هذه الوحدة، وانتقاد الفاتورة الباهظة التي يتحملها اقتصادهم في دعم المنظومة الأوروبية، والتضحية بفرص ضخمة يوفرها الاستقلال لصالح شراكة إجبارية ضاغطة، كما كان قطاع واسع من المواطنين ينظر للمسألة الأوروبية، ويوما بعد يوم تضخمت هذه الرؤية وقادت إلى الانفصال، بغرض استعادة الاستقلال المحاط بالفرص، وتعزيز الاقتصاد القوي بالتحرر من كُلفة الارتباط بالضعفاء.
على العكس من هذا التصور، يبدو أن التوترات التالية لاستفتاء "بريكست" تُثمر أثرا عكسيا، فبحسب استطلاع رأي جرى بين 11 و26 يوليو الماضي ونُشرت نتائجه اليوم، تبين أن ثقة المستثمرين وقادة قطاع الأعمال في اقتصاد المملكة المتحدة هبطت لأدنى مستوياتها في العام الجاري، مدفوعة بالتوجس والقلق من حالة الارتباك والغموض التي تسيطر على المناخ السياسي والاقتصادي البريطاني، وتُخيّم على مفاوضات خروج لندن من مؤسسات الوحدة في بروكسا.
الاستطلاع الذي أجراه "معهد المديرين" لأرباب العمل شمل عينة تضم 750 من قادة قطاع الأعمال، وجاءت النتيجة في صالح القلق من الغموض الذي يسيطر على أوضاع الاقتصاد بشأن الأوضاع الاقتصادية والمالية مع الاتحاد الأوروبي عقب إنجاز الانفصال في مارس المقبل. وفي إجابة عن سؤال حول حجم التفاؤل بالاقتصاد خلال سنة مقبلة، تفوقت النظرة المتشائمة وسجل مستوى الثقة (-16) بتراجع كبير عن مستوى (-11) المسجل في يونيو الماضي، وتراجع بالغ الحدة عن مستوى إيجابي (3%) في أبريل، وبحسب الاستطلاع فإن 44% من العيّنة شددوا على أن غموض الأوضاع الاقتصادية والتجارية مع أوروبا في المدى المستقبلي يؤثر على شركاتهم وأعمالهم بشكل سلبي.
في بيان صادر عن "معهد المديرين" الذي أجرى الاستطلاع، علّق الخبير الاقتصادي تيج باريخ على النتائج السلبية بالقول، إنه "رغم التفاؤل الحذر الذي ظهر بين قطاع الأعمال في وقت سابق من العام الجاري، فقد تراجع أي زخم على ما يبدو. نحن في طريق العودة لمستويات التشاؤم التي رأيناها قبل إحراز تقدم في المرحلة الأولى من مفاوضات مغادرة الاتحاد الأوروبي".
خسائر مؤكدة وفرص محتملة
الدافع الذي قاد البريطانيين لتعبئة صناديق الاستفتاء برغبة الخروج من الاتحاد الأوروبي، انتصارا لاستقلال القرار والانتفاع بقدرات ومكاسب الاقتصاد البريطاني القوي، هو نفسه المشكلة التي تواجهها لندن الآن، إذ إن أية خسائر قريبة قد تُغذّي مشاعر الندم على القرار، وتصبّ في صالح تخطئة المنحازين للانسحاب من بروكسل والمروجين له.
حالة التوجس المتوقعة عقب إنجاز الانفصال يمكن أن تسبب ضغطا على الاقتصاد البريطاني، رغم قوته الواضحة، خاصة إذا لم تتوصل لندن لاتفاق إيجابي مع بروكسل، سواء بخروجها دون اتفاق وبشكل يُهدد المنظومة التجارية البينية ويضغط على الطرفين في علاقاتهما الخارجية، أو بانصياعها لرغبة الاتحاد ومساعيه للإبقاء على علاقات تجارية فوق طبيعية بدرجة تحدّ من استقلال بريطانيا وقدرتها على توقيع اتفاقات أو شراكات إيجابية مع أطراف أخرى. الاحتمالان يُعنيان أن لندن قد تخسر بسبب القرار الذي تخيلت أنه طريقها للمكسب، وأن ما توقعت أن يوفر لها مزيدا من الفرص قد يكون عائقا عن الوصول للفرص.
يبدو تعقيد المشهد بالنظر لعرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته للعاصمة لندن الشهر الماضي، وحديثه عن توقيع اتفاق تجارة حرة بين البلدين بقيمة 1.2 تريليون دولار، مع رهن الأمر بإنجاز خروج كامل من الاتحاد الأوروبي دون إبقاء على علاقات تجارية استثنائية. الأمر نفسه تكرر مع زيارة وزير الخارجية جيريمي هانت للصين مؤخرا، وهي الزيارة التي شهدت تقديم بكين عرضا باتفاقية تجارة حرة ضخمة مع لندن، ورغم عدم إعلان تفاصيل بشأن العرض، فمن المؤكد أنه يتعارض مع العرض الأمريكي، وكحال عرض واشنطن أيضا فلن يكون بمقدور المملكة المتحدة إنجازه ما لم تقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي بشكل كامل، على الأقل حتى لا يكون الاتفاق بابا خلفيا لتسرب المزايا لأسواق أخرى على غير رغبة الشريك.
هكذا تبدو احتمالات الخسارة أكبر من احتمالات الكسب مع اتخاذ الخطوة العملية الأولى على طريق مغادرة بروكسل والانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وفي الوقت نفسه تبدو الفرص التجارية البديلة مهددة بحسابات التفاوض والمباحثات بين لندن وبروكسل، وبالصراع التجاري المشتعل بين الولايات المتحدة والصين. هذه الأمور كفيلة بتشكيل قدر من الضغط على المستثمرين وقادة الأعمال، بشكل يدفعهم للتوقف والترقب وتحسس الخُطى قبل الإقدام على قرارات استثمارية جيدة أو تطوير وتنمية استثمارات قائمة.
الاقتصاد على أرجوحة السياسة
بجانب تعقيدات المشهد الاقتصادي، فإن السياسة تُلقي بظلالها على الأمر. المستثمرون يُقيّمون الأمور وفق الحسابات المالية والاقتصادية وتطورات الانفصال عن الاتحاد الأوروبي والصيغة التي سيصل إليها هذا الانفصال، لكن لا تغيب عن أذهانهم معادلة الاستقرار وحسابات الساحة السياسية، باعتبارها تطورا مُضافا قد يُشكل عبئا مُركّبا بجانب الضغوط الاقتصادية، أو يكون أداة ليّنة لمعادلة المشهد وامتصاص صدمات الاقتصاد.
بدا مشهد الاقتصاد مهتزا بدرجة ملفتة مع قرار البنك المركزي البريطاني في الأيام الماضية بتحريك سعر الفائدة بواقع 25 نقطة أساس، وهي قفزة كبيرة قياسا على متوسط سعر الفائدة الساري في المملكة المتحدة، ومتوسط تحولاته في السنوات العشر الأخيرة. هذه الخطوة تُعني قلقا من احتمالات تصاعد معدل التضخم، أو سعيا لامتصاص نسبة من السيولة المالية من الأسواق لتحجيم الإنفاق الاستهلاكي، وفي الوقت نفسه تغذية المحافظ الائتمانية للمصارف بشكل قد يساعدها مستقبلا على توفير ملاءة ائتمانية وحوافز مغرية للمستثمرين، حال ارتفاع نسب المخاطرة أو معدلات القلق.
بالنظر للمشهد السياسي لا يبدو مستقرا بالدرجة التي تجعله أداة لامتصاص صدمة السوق، أو التحولات الاقتصادية والاستثمارية المرتقبة. النقطة الأساسية في في الأزمة أن لندن لم تُنجز اتفاقا واضحا مع الاتحاد الأوروبي حتى الآن، قبل أقل من 8 شهور على موعد المغادرة المحدد في مارس 2019، بينما لا تُبدي رئيسة الحكومة تيريزا ماي حماسة كافية لاتخاذ مواقف جادة وغير متساهلة في مواجهة تعنّت بروكسل وسعيا لتحقيق أكبر قدر من المكاسب على حساب الصديق الذي قرر الخصام.
رئيسة الحكومة البريطانية تيريزا ماي
تيريزا ماي التي يعود الفضل في وصولها لرئاسة الحكومة إلى اتفاق بريكست الذي أطاح بسلفها ديفيد كاميرون، تبدو من أنصار البقاء في الاتحاد، ولوّحت هي ودوائر مقربة منها في أوقات سابقة باحتمال اللجوء لاستفتاء آخر على فكرة الانفصال. وخلال الفترة الأخيرة خسرت ثلاثة من وزراء حكومتها بالاستقالة، ديفيد ديفيز وبوريس جونسون في شؤون الانفصال والخارجية، ووزير الدولة بوزارة الدفاع جوتو بيب، وما زالت الخلافات قائمة في أروقة الحكومة على خلفية معارضة كثيرين من وجوه حزب المحافظين الذي تتزعمه "ماي" لخطتها للانفصال، التي يراها قطاع واسع داخل الحزب وخارجه خطة متساهلة.
وزير الخارجية البريطاني السابق بوريس جونسون
محللو المشهد السياسي البريطاني يتوقعون أن تتخلى تيريزا ماي عن زعامة حزب المحافظين خلال سنة، حال نجاحها في إنجاز اتفاق خروج جيد من الاتحاد الأوروبي، وآخرون يرون أن فشلها في الخروج بشكل يُرضي البريطانيين قد يُطيح بها قبل هذا المدى الزمني. على الجانب المقابل تتصاعد استعدادات المنافسين المحتملين لـ"ماي" على زعامة الحزب، في مقدمتهم وزير خارجيتها السابق بوريس جونسون، ووزير داخليتها الحالي ساجد جافيد، وعدة أسماء أُخرى من معارضيها ومنتقدي سياستها في ملف "بريكست".
إذا فشلت تيريزا ماي في التوصل لاتفاق جيد وغير ظالم لبريطانيا، من وجهة نظر البريطانيين، فإنها قد تخسر موقعها لصالح جونسون أو جافيد أو غيرهما. لكن سواء حدث هذا أو لم يحدث فإن التوترات السياسية المتصاعدة في حزب المحافظين، وفي مقر الحكومة بـ10 دونينج ستريت، تُلقي مزيدا من الظلال الرمادية على مستقبل الاقتصاد، وتشكل عبئا ضاغطا على النمو والتوقعات المستقبلية.. هذا الأمر قد يُعني أن الاقتصاد البريطاني سيظل على أرجوحة السياسة لفترة من الزمن.
مقر الحكومة البريطانية في داوننج ستريت