تمضي الأيام بوتيرة سريعة، لكن القطار الذي تستقله بريطانيا يظل بطيئا في مساره باتجاه الخروج من الاتحاد الأوروبي. يبدو الأمر مرتبطا بتعنّت أوروبي، لكن كثيرين داخل بريطانيا يُحمّلون المسؤولية لرئيسة الحكومة تيريزا ماي.
منذ اختيار البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء "بريكست" الذي جرى صيف العام قبل الماضي، يبدو أن هذا الملف أقرب إلى طرد مفخّخ تتداوله أيدي السياسيين في المملكة المتحدة. بدأ الأمر بالإطاحة بحكومة ديفيد كاميرون الذي رهن وجوده برفض الانفصال عن أوروبا، ويتواصل حاليا بإثارة عاصفة عاتية تهدد حكومة تيريزا ماي، الذي جاءت لمنصبها بفضل الاستفتاء، وتقف الآن مهددة بالرحيل بسببه.
في الشهور الأخيرة خسرت حكومة "ماي" ثلاثة من وزرائها، استقالوا من مناصبهم، كان في مقدمتهم المسؤول المكلّف بملف الانفصال، وزير شؤون بريكست السابق ديفيد ديفيز، ثم وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، ثم وزير الدولة بوزارة الدفاع جوتو بيب. ورغم هدوء عاصفة الاستقالات ظلت الأمور داخل أروقة الحكومة في 10 دونينج ستريت غير هادئة، إذ تتصاعد حدّة الخلافات بين تيريزا ماي وبعض وزرائها بشأن ملف الانفصال.
حكومة بريكست تتحايل على الانفصال
تواجه حكومة تيريزا ماي اتهاما بمحاولة الالتفاف على ما أقره البريطانيون في استفتاء بريكست. معارضو "ماي" يقولون إنها لا تدعم خيار الانفصال، وإن الأمر بدا واضحا في خطتها للخروج من الاتحاد، التي عرضتها على البرلمان الشهر الماضي، وهدّدت خلال عرضها بأنه إما اعتماد هذه الخطة وإما المغامرة بالبقاء الدائم داخل مؤسسات الاتحاد في بروكسل.
تقارير إعلامية عديدة في بريطانيا وخارجها تشير إلى أن أبرز وجوه المحافظين، تيريزا ماي، ترفض الانفصال عن الاتحاد الأوروبي وكانت تسعى لإجراء استفتاء آخر، سعيا للهروب من فكرة مغادرة بروكسل وقطع العلاقات القائمة مع أوروبا الموحّدة. رئيسة الحكومة لم تُصرّح بشكل معلن بهذا الأمر، ولم ت}كد أيضا دعمها للانفصال، وحتى تولّيها لمفاوضات الخروج يظل محكوما بموقعها على رأس الحكومة، باعتبار الأمر التزاما قانونيا وتنفيذيا، لا يتوفر دليل على أنه قناعة خاصة لدى المسؤولة الأولى في المملكة.
موقف تيريزا ماي يدعمه كثيرون داخل حزب المحافظين، يرون أن الخروج من الاتحاد الأوروبي ربما يعصف بمركز المملكة داخل القارة، ووضعها السياسي داخل المؤسسات الأوروبية، وقد ينعكس الأمر على وضعها الدولي وثقلها السياسي عالميا. لكن داخل الحزب نفسه يتشدّد آخرون في مسألة الخروج الكامل والنهائي دفعة واحدة، رافضين أي مناورة للإبقاء على علاقات فوق طبيعية، أو التحايل على ما أقره البريطانيون في استفتائهم.
جيوش بريكست تتأهب للحرب
أمام موقف الحكومة ورئيستها الهادئة والبطيئة نسبيا، يبدو أن داعمي "بريكست" باتوا يستشعرون قدرا من الخطر على مستقبل الخروج من الاتحاد الأوروبي، ما دفع بعضهم لإعلان خطوات عملية أقرب إلى التصعيد. من هذا القبيل ما أعلنه نايجل فاراج، أحد قادة التحرك لخروج بريطانيا من بروكسل، بشأن عودته للساحة السياسية البريطانية سعيا لمواجهة سياسات "ماي" وحصار خطة الحكومة للخروج ومنع تطبيقها.
"فاراج" وغيره من داعمي مغادرة الاتحاد الأوروبي يرون خطة تيريزا ماي متساهلة بدرجة كبيرة، وتتضمن التفافا على فكرة الخروج الكامل التي انحاز لها البريطانيون، إذ تُبقي على اتصال سياسي وعلاقات اقتصادية فوق طبيعية بين لندن وبروكسل، بشكل يضمن درجة من التنسيق الاقتصادي والتجاري مع الاتحاد قبل أي خطوة بريطانية، وهو ما يراه بريطانيون كُثر خصمًا مباشرا من استقلال المملكة، وأشار له الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال زيارته لندن الشهر الماضي، مشددا على رهن أي علاقة تجارية مع لندن بإنجاز خروج كامل من الاتحاد، وفي هذا الصدد قدّم عرضا مغريا بتوقيع اتفاقية تجارة حرّة بقيمة 1.2 تريليون دولار مع المملكة عقب إنجاز الخروج الشامل.
إعلان نايجل فاراج عن عودته للساحة السياسية ومواجهة خطة تيريزا ماي المتساهلة بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي، قال فيه زعيم حزب الاستقلال البريطاني "يوكيب" السابق، إنه قرر العودة للشارع والمشاركة في تحرك مجموعة "المغادرة تُعني المغادرة" لمعارضة خطة "تشيكرز" التي قدمتها رئيسة الحكومة. يأتي هذا الموقف بعد أكثر من سنتين على مغادرة فاراج منصبه في حزب "يوكيب" عقب بريكست، في ضوء رؤيته أنه أكمل المهمة، لكنه فسّر عودته الآن بأنها خطوة لمعارضة خطة تيريزا ماي التي قال إنها "تنازل جبان". مضيفا في صحيفة "ديلي تليجراف": "فاض بي الكيل من كذبهم وخيانتهم وخداعهم. حان الوقت لتلقينهم درسًا لن ينسوه. منذ خيانة تشيكرز أوقفني أشخاص كثيرون في الشارع يسألونني متى ستعود؟ وها هي الإجابة.. لقد عدت".
في مقاله قال زعيم "يوكيب" السابق إن تيريزا ماي تحاول استرضاء الاتحاد الأوروبي، لهذا "طرحت مجموعة أفكار ليست أكثر من استسلام جبان". واستكمل المقال بلهجة حادة: "نحتاج حملة في أنحاء البلاد تعيد انخراط الناخبين وتعيد لهم ثقتهم في بريكست. وعلى نوابنا المتهاونين أن يفهموا إلى أي درجة يتأثر الناس بشدة من الكذب عليهم، في وقت يتم تجاهل رغباتهم بشكل سافر". من جانبها أعلنت مجموعة "المغادرة تُعني المغادرة" استعدادها لتنظيم حملات شعبية موسعة تغطي أنحاء بريطانيا، تتضمن مسيرات جماهيرية وفعاليات إعلامية وأنشطة عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
خطوة جادة أم مناورة جديدة؟
على الجانب المقابل لهذا التصعيد الذي يدق طبوله داعمو بريكست، أظهر مكتب رئيسة الحكومة تيريزا ماي قدرًا من التحرك الإيجابي على صعيد مفاوضات الخروج من الاتحاد، إذ أعلن مؤخرا أن وزير بريكست دومينيك راب، الذي خلف ديفيد ديفيزعقب استقالته مطلع يوليو الماضي، سيزور العاصمة البلجيكية الثلاثاء المقبل، للقاء ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، في إطار العمل على تسريع وتيرة المفاوضات الجارية بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد.
في البيان الصادر عنه، قال مكتب رئيسة الحكومة البريطانية إن الزيارة ستشهد "بحث التفاصيل العملية لحل المسائل القليلة المتبقية بشأن الانسحاب ومغادرة المملكة المتحدة للاتحاد الأوروبي، ومواصلة المباحثات بشأن العلاقات في المستقبل". وأشار البيان إلى أن الحكومة ستبدأ اعتبارا من الخميس نشر أول سلسلة من البيانات الفنية التي جرى إعدادها لمساعدة الشركات والمواطنين على التعامل مع المرحلة المقبلة والسيناريوهات المحتملة حال الإخفاق في التوصل لاتفاق مُرضٍ بشأن بريكست.
النقطة الأخيرة ربما لا تُعني قدرا من الموضوعية في النظر لمشهد التفاوض، بقدر ما تشير إلى تعزيز رئيسة الحكومة تيريزا ماي لاحتمالات إفشال المفاوضات أو عدم التواصل لاتفاق يُلبي طموحات البريطانيين. صدور البيان عن مكتب تيريزا ماي بدلا من وزير شؤون بريكست قد يكون دلالة على توجه رئيسة الحكومة الذي لا يحظى بإجماع أعضاء حكومتها، خاصة أنها تسعى لإقرار بعض الروابط بين لندن وبروكسل بعد مغادرة بريطانيا للاتحاد.
بحسب البيان وغيره من المؤشرات، ومنها تقارير إعلامية متواترة في عديد من الصحف البريطانية، فإن الحكومة تستعد لتكثيف مساحات عرض خططها العملية لتخفيف مخاطر الانسحاب من الاتحاد الأوروبي دون التوصل لاتفاق، أو مع اتفاق يُبقي على روابط فوق طبيعية ويضمن لبروكسل قدرا من المزايا الاقتصادية والتجارية. هذا الأمر يُمثّل هاجسا لكثيرين من البريطانيين، ولحلفاء سياسيين واقتصاديين مهمين، خاصة مع تلقي لندن عروضا اقتصادية مغرية من الولايات المتحدة والصين، تظل مرهونة بقدر من الاستقلال في القرار والانفتاح المحسوب على الظهير الأوروبي، حتى يضمن الشركاء الجدد عدم تسرب مزايا اتفاقاتهم لآخرين.
بريكست والصراع على قيادة المحافظين
صراع بريكست وما أحدثه من توترات وانشقاقات في بنية الحكومة البريطانية، يبدو أنه انعكس على حزب المحافظين الذي تتزعمه رئيسة الحكومة تيريزا ماي. هذا الأمر يُعني احتمال الإطاحة بـ"ماي" من دونينج ستريت، ليكون بريكست الذي حملها لمنصبها العاصفة التي تزيحها منه.
في هذا الإطار كشفت صحيفة أي نيوز" البريطانية أن وزير الداخلية ساجد جافيد يواصل تحركاته في أروقة حزب المحافظين خلال الفترة الأخيرة، سعيا لتوسيع مساحة القبول والدعم التي يحوزها، فيما يبدو أنه تخطيط لمنافسة "ماي" على زعامة الحزب في الانتخابات المنتظر إجراؤها خلال سنة على الأكثر. ونقلت الصحيفة عن مقربين من "جافيد" أنهم متيقنون من سعيه لمنافسة رئيسة الحكومة، ولهذا فإنه يفتح قنوات اتصال مع قائمة طويلة من أعضاء حزب المحافظين ونوابه.
تحرك ساجد جافيد لا يبدو الوحيد الذي يهدد تيريزا ماي وبقاءها في منصبها، إذ يستعد وزير الخارجية المستقيل بوريس جونسون للمنافسة على قيادة حزب المحافظين، مدعوما بتطلعات واسعة ورصيد كبير لدى داعمي بريكست، أحرزه بموقفه السياسي من خطة "ماي" للانسحاب من الاتحاد، الذي توّجته استقالته خلال الشهر الماضي، تُضاف لهما قائمة طويلة محتملة تضم كلا من: جيريمي هانت، ودومينيك راب، ومايكل جوف، وليز تروس، والوزيرة السابقة بريتي باتل، والنائبان توم توجندهات وجاكوب ريس موج. هذه التهديدات تترافق معها توقعات من نواب محافظين بتخلّي تيريزا ماي عن رئاسة الحزب في صيف العام المقبل حال نجاحها في تنفيذ خطتها وتأمين خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالطريقة التي أرادتها.
ماي تحت عجلات بريكست
في الموقف الذي تقف فيه تيريزا ماي، بين اتهامات بالضعف تجاه الاتحاد الأوروبي، واهتزازات في أروقة الحكومة وحزب المحافظين، وضغوط شعبية وسياسية من الأحزاب والحركات الداعمة لانفصال حاد وقطيعة كاملة مع بروكسل، تبدو رئيسة الوزراء البريطانية مُوزّعة بين أفكارها ورؤاها وخطتها للانفصال، وما يجب عليها فعله للنجاة من الأزمة وتجنب الانسحاق تحت عجلات بريكست وقطاره الثقيل. هذا الأمر قد يدفع "ماي" للتشدد مع بروكسل بشكل يُهدد التوصل لاتفاق، أو التساهل معها لإنجاز اتفاق يُهدد الساحة الداخلية، ويظل الأمر محكوما بموعد الخروج سالف التحديد قبل نهاية مارس المقبل.
في هذا المناخ تتصاعد حتى الآن مطالبات بتنظيم استفتاء جديد على شروط الخروج من الاتحاد الأوروبي وترتيبات ما بعد الانفصال، حتى يكون الأمر وفق رؤية البريطانيين المباشرة. لن تذهب تيريزا ماي لهذا الخيار بالتأكيد، لكن مصيرها يظل مُعلّقا على المسار الذي سيسلكه قطار بريكست من الآن حتى موعد الخروج في مارس. فبينما يتوقع عدد من برلمانيي المحافظين معركة على زعامة الحزب خلال سنة مع تخلي "ماي" عن رئاسة الحزب بإرادتها حال إنجاز خروج سلس من الاتحاد. يتوقع آخرون أن تُجبر على المغادرة إذا وصلت بالمفاوضات لطريق مسدود أو أنجزت اتفاقا يستجيب لإملاءات بروكسل.
الشهور السبعة الماضية ستشهد تطورات ضخمة فيما يخص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. المتوقع في الأمر أن الاتفاق الذي عجزت لندن عن إنجازه مع بروكسل طيلة أكثر من سنتين لن تستطيع التوصل إليه في الشهور المتبقية. غالبا ستصل المملكة لمحطة الخروج دون وفاق مع الاتحاد الأوروبي ما يُعني تكبدها فاتورة اقتصادية ضخمة، أو دون وفاق مع البريطانيين مع يُعني اهتزاز الساحة الداخلية. والأغلب أن الأزمة ستسفر عن ضحايا كُثر، وقد تكون تيريزا ماي في طليعة الضحايا.
أعلن مكتب تيريزا ماى رئيسة وزراء بريطانيا، اليوم السبت، إن دومينيك راب وزير شؤون الانسحاب من الاتحاد الأوروبى سيتوجه إلى بروكسل يوم الثلاثاء فى محاولة للإسراع بوتيرة محادثات الانسحاب من الاتحاد الأوروبى مع ميشيل بارنييه كبير مفاوضى الاتحاد الأوروبي.
وقال مكتب ماى " سيجرى بحث حل المسائل القليلة المتبقية المتعلقة بالانسحاب والتى لها صلة بمغادرة المملكة المتحدة الاتحاد الأوروبى ومواصلة المباحثات بشأن العلاقة فى المستقبل". وستنشر بريطانيا يوم الخميس أول سلسلة من البيانات الفنية التهى تهدف لمساعدة الناس والشركات على الاستعداد لسيناريو عدم التوصل لاتفاق.
وسيلقى راب أيضا كلمة يحدد فيها الخطوط العريضة لخطط الحكومة لتخفيف الأخطار المحتملة لانسحاب الاتحاد الأوروبى دون التوصل لاتفاق وضمان الاستمرارية والاستقرار.
وزير الداخلية البريطاني ساجد جافيد
وزير بريكست المستقيل ديفيد ديفيز