قنبلة أمريكية في عمق البيت الصيني.. هل تكون تايوان حصان طروادة في الحرب التجارية؟
الأحد، 12 أغسطس 2018 10:00 م
تمضي الحرب التجارية بإيقاعها الذي حدّدته الولايات المتحدة، وتجتهد الصين في التماشي معه. المشهد حتى الآن يبدو غائما، ورغم تعدد أوراق المناورة لدى الطرفين، فإن لا أحد يعلم إلى أي وجهة قد تتطور الأمور!
بدأت الأمور بشكل لا يدعو إلى القلق. الولايات المتحدة تُعلن عدم رضاها عن المنظومة التجارية التي تجمعها ببعض الشركاء، ثم تقر حزمة رسوم جمركية على قائمة من الواردات. بعض الدول الأوروبية تقبل الأمر بهدوء، مع قدر من المناوشات والتصريحات، بينما تعترض الصين وتُهدد بالمعاملة بالمثل. كان المُتوقع أن يظل الإيقاع متذبذبا بين حروب التصريحات وتهديدات المعاملة بالمثل، وحتى مع إقرار رسوم مضادة من جانب الصين فإن الأمر لا يتجاوز مدى المناوشات. لكن يبدو أن انفتاح البلدين على ملفات ساخنة تتصل بمصالح كل منهما، ساهم في توسيع مدى الصراع وتناميه في اتجاهات أكثر تعقيدا وخطورة.
الخطوة الأولى التي اتخذتها الولايات المتحدة في الحرب، بفرض رسوم حمائية على واردات صينية تتجاوز 34 مليار دولار، تبعتها خطوة صينية شبيهة. هذا الإيقاع كان كافيا لضمان فوز واشنطن في الحرب، إذ يميل الميزان التجاري لصالح الصين بواقع 375 مليار دولار، ما يُعني تعطل قدرة بكين عن الرد بالمثل عند رقم 125 مليار دولار الذي يمثل إجمالي وارداتها من الولايات المتحدة، بينما يمكن للأخيرة التمادي في الأمر إلى آخر المسار، لفرض رسوم على 500 مليار دولار من السلع الصينية. هذه الصورة المغلقة ربما كانت السبب في بحث التنين الصيني عن منافذ وثغرات بديلة للمناورة، وعن أوراق أخرى لتقوية موقفه التفاوضي وتدعيم جبهته في الحرب المتصاعدة. هكذا وقع الاختيار على إيران.
إيران.. ثغرة الصين في الحرب
على طريقة البحث عن ثغرات جانبية للالتفاف حول جيش الخصم في المعارك الحربية، ألقت الصين رهانها على إيران، التي وجدت نفسها متورطة في صراع مباشر مع الولايات المتحدة الأمريكية بالتزامن مع اشتعال الحرب التجارية.
في مايو الماضي أعلن الرئيس الأمريكي الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني، ثم لاحقا تحدث عن حزمة عقوبات أمريكية على طهران. الأخيرة قررت تصعيد الموقف عبر خطاب سياسي ساخن، وفي الوقت نفسه تواصلت مع شركائها الاقتصاديين البارزين (الصين وتركيا وروسيا) وهي أبرز الوجهات التي تستقبل النفط والغاز الإيرانيين أو تشتبك مع طهران في علاقات اقتصادية وعسكرية مباشرة. كل واحدة من الثلاثة وجدت فرصة سانحة لمناورة الغول الأمريكي في ساحة حرب محايدة، بعيدا عن مجالاتها الحيوية المباشرة، وهكذا قررت الصين تجربة هذا الخيار.
مع إعلان الولايات المتحدة عن حزمة عقوباتها الأولى بحق طهران خلال الأيام الماضية، قالت الصين إنه لن يكون بمقدورها الالتزام بهذه العقوبات، وهو الموقف نفسه الذي أعلنته فيما يخص العقوبات المرتقبة في نوفمبر المقبل بحظر صادرات النفط والغاز الإيرانية. الصين لا تبدو في رفاهية التخلي عن وارداتها النفطية من طهران في ضوء نهمها المفرط للطاقة، وتقلبات السوق العالمية في الآونة الأخيرة، لكن حتى لو كان بمقدورها البحث عن مصادر بديلة فإنها لن تفعل، فالأمر لا يتصل فقط بالحاجة المباشرة للطاقة ومسارات تدبيرها، وإنما يخص البحث عن ساحات أوسع للحرب وبطاقات أكثر للمناورة، وإيران تمثّل حصانا رابحا للصين في هذا التسابق المحتدم، أو هكذا تخيلت بكين.
تايوان.. بطاقة واشنطن الأكثر إزعاجا
التجارة تتراجع والسياسة تتقدم
المسعى الصيني لاختراق الغلاف الذي تحاول الولايات المتحدة إحاطة بريطانيا به، جاء عبر إعلان بكين رغبتها في توقيع اتفاق للتجارة الحرة مع المملكة بعد إنجاز انسحابها من الاتحاد الأوروبي. التحرك الصيني الذي جاء تاليا لخطوات واشنطن وعروضها الاقتصادية المقدمة للندن، دفع كثيرين من المحللين والمهتمين للنظر إلى الأمر باعتباره تحرّكا سياسيا يستهدف الولايات المتحدة كخصم، أكثر من استهدافه للمملكة المتحدة كصديق وحليف، وعزز من هذا الأمر دعوة الصين لوزير الخارجية البريطاني الجديد جيرمي هانت، لتكون أولى زياراته الخارجية عقب توليه منصبه خلفا للوزير المستقيل بوريس جونسون، إلى العاصمة الصينية، وهي الزيارة التي شهدت لقاءات موسعة مع نظيره الصيني وانج يي هو ومسؤولين بارزين بالإدارة الصينية، وأُثيرت خلالها نقاشات موسعة حول خطط التعاون المشترك واتفاق التجارة الحرة المقترح.
السفيرة البريطانية في الصين، باربرا وودوارد، دخلت على الخط بتوجيه رسائل تحمل إشارات ضمنية إلى الحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة على الصين وعدد من الدول الأوروبية، إذ قالت إن بلادها تدعم التعددية وتتطلع للعمل مع الصين من أجل حماية المنظومة التجارية العالمية وضمان حرية التجارة وإصلاح منظمة التجارة العالمية. التصريحات وما سبقها من زيارات ونقاشات كلها تصب في اتجاه ترجيح كفة التفسير السياسي للتقارب الصيني البريطاني، خاصة أن هذا التقارب المحتمل يُحقق مصالح مشتركة للبلدين، والمناورة واعتبار الأمر ورقة للضغط على واشنطن يُحققان مصالح البلدين أيضا، خاصة أن الرسوم الحمائية الأمريكية طالت القارة الأوروبية، وضغوط ترامب في قمة زعماء حلف شمال الأطلنطي "ناتو" شهدت ضغوطا أمريكية قاسية على الحلفاء الأوروبيين، واتهامات بالتقاعس والتقصير، وصولا إلى إملاء شروط ستتسبب في تكبيد الدول الأعضاء خسائر كبيرة من ناتجها الإجمالي لقاء زيادة موازنة الحلف ونفقاته الدفاعية.
إيران وتايوان في ميدان رماية
تفاصيل المشهد التي لا تبدو واضحة حتى الآن، تثير مزيجا من الاحتمالات القريبة من التناقض فيما يخص مصير الورقتين التفاوضيتين (تايوان وإيران). لكن هذه الاحتمالات رغم تقابلها الحاد والصادم، تظل قابلة للتحقق، حتى دون تصفية أجواء الحرب القائمة.
الولايات المتحدة تخوض الحرب بعقيدة تبدو نهائية، تستهدف تركيع الصين وإجبارها على التراجع عن ممارساتها التجارية المنفلتة، بحسب رؤية واشنطن، وما يُحيط بها من قرصنة على الملكية الفكرية وخوض منافسة غير عادلة. إذا كانت الصين تخوض الحرب بالمُعطى نفسه فغالبا لن تتراجع عن التصعيد، حتى لو شعرت أن النار التي تشعلها الولايات المتحدة في أطراف تايوان تُهدد ملابسها بالاحتراق. هذا السيناريو يُعني مزيدا من التصعيد في الحرب التجارية، ومزيدا من توظيف ورقتي إيران وتايوان، بحيث يُصبح كل جانب من الصراع وقودا للآخر، في لعبة طردية متنامية، ستقود حتما لمزيد من الاشتعال الذي لن ينتهي في المدى القريب، وربما يشهد توترات ومناوشات مباشرة في الساحات الفرعية.
على الجانب المقابل من هذا التصور فالأمور قد تكون مرشحة للهدوء، ففي الوقت الذي ستتطور فيه الأمور إلى مدى يصعب السيطرة عليه، أو يُهدد بمزيد من الانفجار في الجبهتين الفرعيتين، ربما يسعى أحد الطرفين (الصين أو الولايات المتحدة) لتصفية الملفات بشكل جزئي. لا يمكن القول إن هناك ارتباطا شرطيا بين الحرب التجارية وورقتي إيران وتايوان، في وقت من الأوقات نظرت واشنطن وبكين للملفين باعتبارهما سلاحا جديدا أو قوة دعم في الحرب التي تتوسع ويتباعد مداها، وإذا استشعرتا قصور السلاح أو الأثر السلبي للدعم فربما تقرران طوعا، وباتفاق عاقل، تهدئة الأمور على الجبهتين وترك الحرب في طريقها التقليدي الواضح.
المشكلة أن كلا الخيارين يُمثّل هدوءا في جانب واشتعالا في آخر، فاحتمال أن يواصل البلدان الصراع على كل المستويات يهدد بتفجير الأجواء بين واشنطن وبكين، لكنها يضمن مكاسب مباشرة لتايوان وإيران، الأولى ستحصل على اعتراف أوسع باستقلالها وتكسر طوق الحصار الصيني بشكل أكبر، والثانية ستتجنب التهديدات العسكرية الأمريكية المباشرة وستُفلت بدرجة جيدة من العقوبات الاقتصادية. أما الخيار الثاني فيُعني قدرا من التهدئة النسبية بين واشنطن وبكين، لكنه سيكون سببا في اشتعال تايوان وإيران، فالأولى ستُصبح فريسة سهلة للصين بعدما تُسقطها الولايات المتحدة من قبضتها أو ترفع عنها غطاءها، والثانية ستخسر طريقا جانبيا للحماية والهروب من الضغوط الأمريكية ليتواصل نزيفها الاقتصادي والسياسي.
يبدو الموقف الأمريكي أكثر قوة في صراع أوراق الضغط، بقدر قوته في الحرب التجارية، باعتبار أن واشنطن في رهانها على تايوان تخترق البيت الصيني وتزرع قنبلة داخله، وكأن الجزيرة المتمردة على وصاية التنين الآسيوي أقرب إلى حصان طروادة، بينما لا يُشكل رهان الصين على إيران إزعاجا مباشرا بالقدر نفسه للولايات المتحدة، حتى لو كانت إسرائيل تواصل ضغوطها على الإدارة الأمريكية لإحكام الحصار حول الدولة الشيعية وانتشارها في المنطقة. لكن بعيدا عن هذه التوازنات فإن الأمر يظل محكوما بالكُلفة الاقتصادية وحسابات الكرامة. واشنطن لن تتحمل فاتورة مالية وعسكرية للَجْم إيران، والصين لن تقبل انتهاك كرامتها بخروج تايوان من طاعتها. بهذا المنطق تظل احتمالات التراجع قائمة بدرجة واحدة وبالقوة نفسها على الجانبين.
المشهد الحالي أقرب إلى ساحة رماية. تقف فيها الولايات المتحدة والصين مُمسكتين ببندقيتين، بينما على الجانب المقابل تبدو تايوان وإيران ثابتتين في الأرض كأهداف للتصويب. ربما يسحب الراميان زنادي بندقيتيهما ويقضيان على الهدفين، وربما يُلقيان البندقيتين ويتعاركان بالأيدي. في الحالتين سيخسر الهدفان، فإما أن يصيبهما الرصاص، أو يظلا مربوطين في الأرض وعاجزين عن الحركة.