هل تتكرر "طائف" الحُديدة ؟
الأحد، 05 أغسطس 2018 02:32 م
هل سيكرر التاريخ نفسه فى الحديدة.. أم ستكون الصورةُ ملهمة هذه المرة، خلافًا لمقولة (كارل ماركس) الشهيرة؟.
القوات المدعومة من التحالف العربى، صارت تتّفق مع خصومها الحوثيين فى أنّ معركة (الُحُديدة) فاصلة وحاسمة.. سينتصر من يكسبها.. أو على الأقل سيفرض شروطه للسلام، وإلى نفس النتيجة تَوصل تقرير نشره (معهد دراسات الشرق الأوسط) الأمريكى الشهر الماضى، وأطلق على هذه المدينة الساحلية "فم اليمن".
وأظن هذا التوافق خبرًا يستحق الاهتمام، لأنّه سيزحزح الوضع من حالة الجمود الراهنة التى تخدم تُجار الحروب -الذين استمرأوا بقاءها، وحولوها إلى استثمارات، عابرة للقارات- وقد يُعيد الأمل لملايين اليمنيين الذين مسّتهم البأساء والضراء، وفتر حماسهم مع مُضى الشهور، حتى نسى معظمهم أسباب الحرب ودوافعها -بعد أن اختلطت أوراقها وخلقت قوىً جديدة وواقعًا مُرعبًا- وصار مُنتهى أمل البسطاء استعادة السكينة التى افتقدوها، بإطعامهم من جوع وتأمينهم من خوف.
أمّا الحديث عن الرفاه الاقتصادى، والوحدة، والسيادة، والديمقراطية، فضلاً عن الدفاع عن الشريعة.. أو الشرعية.. أو مُدافعة الجُرعة، وكل مُصطلحات الماضى الجميل؛ فقد صارت من النُكت السامجة.. لا يأبه لها أحد، ولا تُشبع يمنيًّا ذى متربة.. فى يوم ذى مسغبة.. فقدت صلاحيتها وبريقها وتحولت إلى هرطقات مُقرفة منذ استخدمها الأفّاكون والدجالون ذريعة لتدمير الدولة خلال أشهر، بسبب أحقادهم وأطماعهم وتوزع ولاءاتهم بين عجز الثقة، وجلَد الفاجر.
استدرجوا اليمن بتلك الشعارات نحو الهاوية.. وخلقوا مُبررات للحرب قضت على ما كان مُتبقيًا من مُقدرات ومُدخرات.. وأدخلت، حتى الذين كانوا ميسورين، فى كشوفات الجوعى والنازحين، بعد أن حاصروهم بالموت من كُل مكان... وكُلَّمَا طال أمد الحرب، اكتشف اليمنيون مزيدًا من الحُفر التى أوقعهم فيها الناشطون والسياسيون والعسكر، وأنّهم لم يكونوا يمثلونهم.. بل يمثلون عليهم.
ورُغم أنّ السنوات المُنصرمة من عمر الحرب لم يصدُق فيها قولُ.. أو يتحقق وعد، وتسببت فى ركود مهنة المحللين السياسيين.. وكساد شُروحات الصحفيين.. لا بأس من التصديق هذه المرة، ولو تعاطفًا وبعثًا للأمل الذى فقده اليمنيون.
لِتَكُن الحديدة نهاية (التَيه) والتخبط فى استيراد النظريات وتجريب الشعارات وفرض القناعات... أمّا الحرب فهى حتمًا ستنتهى بها أو بغيرها. وفِى الأخير ستجد الأطراف المعنية فى اليمن نفسها -بغض النظر عن المهزوم و المُنتصر - بين خيار الإبقاء على الدولة الموحدة، القائمة على منح الحقوق المدنية، وفرض الواجبات القانونية على الجميع.. أو الرضا بالتقسيم والتجزئة التى فرضتها الحرب، وصار لها جيوش ومدافعون... والحوار على أفضل السُبل لإضفاء الصبغة القانونية عليها.
بين مارس ومايو 1934: خاض الإمام يحيى حربًا ضد السعودية، قال أنّها دفاعٌ عن شرعية النظام الإدريسى، الذى استجار به، وفِى غضون أسابيع فقط دخلت عساكره أطراف نجران، أمّا الملك عبدالعزيز فقد توغلت قواته التى قادها نجله الثانى "فيصل" فى سُهوب الشريط الساحلى حتى تجاوزت الحديدة، وانتهت حرب الشهرين بتسليم الإمام للأمر الواقع، وتوقيع اتفاقية الطائف -نسبة للقرية التى وُقعت فيها الاتفاقية جنوب منطقة الدُريهمى- ونشوء حلف وثيق بينه وبين الملك عبدالعزيز، ساندت بموجبه السعودية الإمام يحيى وولده أحمد وحفيده البدر، وعند إصرار اليمنيين قبل نصف قرن على رفض الإمام الأخير، استضافته السعودية مع أسرته وحاشيته، ورعت حوار المُصالحة بين طرفى الصراع من الملكيين والجمهوريين.
ومن الواضح أنّ التحركات الأخيرة للمبعوث الأممى، وتحديده السادس من سبتمبر المقبل بداية جولة جديدة، تريد استلهام التاريخ وتكراره مع عدم اطمئنان وتردد من السعودية المتوجسة من دعم إيران للحوثيين، فقد نشطت تحركاته بعد أنْ تجاوزت القوات المسنودة من التحالف العربى قرية (الطائف)، وأعلن أنّها تأتى بضغطٍ من دول الاتحاد الأوروبى لإبقاء الميناء فى منأىً عن نيران المتحاربين، أعقبها وصول وفود أوروبية وسفراء إلى صنعاء لأول مرة، هدفت لإرسال إشارات للتحالف بضرورة الرضوخ للحوار، وواجهتها السعودية بالتلويح بتوقيف صادرات النفط عبر باب المندب، علاوة على المناورات التى أعلن عنها الجيش المصري، فى المياه الإقليمية بالبحر الأحمر، تشمل قوات خاصة من مصر والإمارات والسعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
ناهيك عن مُـغازلات الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الأخيرة للنظام الإيرانى، واشتراط طهران عودة العمل بالاتفاق النووي، خاصة بعد صمتها -الذى يُعدُّ تنازلًا- عن إعلان الْقُدس عاصمة لإسرائيل... لكن الأرجح أنّ ذلك لا يبدو كافيًا، إذ ينبغى تسليمها باستكمال صفقة القرن.
وفقًا لذلك، إذا نجح المبعوث الأممى فى مساعيه، سيكون من الواضح أكثر أنّ الحرب جاءت للتخلص من أفكار وقوى وأشخاص كانت تُشكل ضغوطات على الأطراف المُختَلِفة.. لا سيما التى كان لها موقف سلبى من مُحادثات ظهران الجنوب المُتوافق عليها مع طهران قبل أكثر من عامين.. ناهيك عن تمريرها للتغييرات الإيجابية داخل السعودية التى جعلتها أكثر حداثة وعصرنة وتخففاً من الأفكار الماضوية المتطرفة... والتى كان يفترض أن تشهدها أيضاً المناطق المدعومة منها داخل اليمن .!
ومعنى ذلك أيضاً أنّ تئوب السعودية لقناعتها السابقة بالرؤية التى كانت سائدة إبان حكم الملك الراحل "عبدالله بن عبدالعزيز" -وتعززت أكثر مع التقارب القطرى التُركى فى دعم ثورات الربيع العربي-، وخُلاصتها أنّ تركيا أكثر خطرًا على السعودية من إيران.
وكانت سياسة الملك عبدالله قد استقرت على التهوين من الخطر الإيرانى ومطامعه، رُغم عُلُو نبرته.. وترّسخ فى يقين مُستشاريه -بإيعاز أمريكى وأوروبي- أنّ بلدهم فى مأمن منه؛ على المدى الطويل وقد تنقرض دولة (الولى الفقيه) قبل أنْ تنجح فى تحقيق ما تصبو إليه.
هذه القناعة.. بُنيت على أساس انعدام الحاضنة الشعبية للمذهب (الجعفري) المقرون بالقومية الفارسية داخل الأراضى السعودية، باستثناء أقلية إثنى عشرية، تقطُن مناطق محدودة فى المناطق الشرقية، لا أثر لها، وتحتمى داخل سياج من الانزواء والعزلة فى مواجهة نظرات الكراهية والازدراء من مُحيطها ذى الأغلبية الحنبلية. علاوة على استحالة تقبُّل أكثر من مليار مسلم ينتمون للمذاهب السُنية على اختلافها لسُلطة تدين بالمذهب الإثنى عشري.. ونفورهم من سيطرة أتباع مذهب أقلوى كهذا -تربوا على التوجس منه- على أرض تحوى الكعبة المُقدّسة.. التى يصلى ويحج اليها أكثر من مليار مُسلَّم سُنى .
وعلى ذلك فقد خفت حِدّة الاستنفار ضد "إيران" وخفتت أصوات الدُعاة لحربها، وكان من نتائج تلك القناعة: تغاضى السعودية عن التحذيرات التى أطلقها ملك الأردن السابق (الحسين بن طلال)، وانضم إليه الرئيس المصرى الأسبق "حُسنى مُبَارَك" ..بخصوص تصدير ثورة الملالى إلى بُلدان الشام التى تُشكل هلالًا خصيبًا وتحويلها إلى هلال شيعى تابع لطهران، وتحققت بانتقال سوريا الأسد للضفة الإيرانية، و سيطرة (حزب الله) على مفاصل السُلطة اللبنانية.. وتماهى قرار حركة المقاومة الإسلامية (حماس) فى خدمة طهران المُتكفلة بتسليحها وتمويلها. كما أنّ رفض السعودية التسامح مع ما تبقى من نظام صدام، أوصل إلى التفريط فى العراق وتسليمه طواعية لريموت طهران.
صحيح أنّ تخلى السعودية عن منطق التهويل من مخاطر الثورة الإيرانية كان قرارًا مبنيًّا على قراءة لدروس التاريخ والجغرافيا، التى تُخبرُنا أنّ دولة الفُرْس لم يسبق لها على مر العصور احتلال نجد والحجاز، حتى فى ظل إحكام قبضتها على أرض الشام واليمن. عكس الأتراك العثمانيين الذين حكموا أرض الحرمين لأربعمائة عام بشرعية الخلافة، واحتلوا عاصمة الدولة السعودية الأولى (الدرعية)، وأسروا ملكها (عبدالله) وأعدموه شنقًا فى اسطنبول فى مثل تاريخ هذا العام قبل مئتى عام.. بذراع واليهم (محمد على باشا).. وأنّ نجاحهم فى ذلك كان سببه وجود حاضنة شعبية لهم فى مُعظم مناطق الجزيرة العربية، بسبب انتماء الدولة العثمانية للمذهب الحنفى السنى مع تشجيعها لتعليم المذاهب السُّنية الأخرى والاحتكام إليها.
لكن الصحيح أيضًا أنّ ارتكان السعودية فى عهد مليكها الراحل على هذه المعلومة التاريخية، نقلها من الغُلو والإفراط فى التهويل من التمدُد الإيراني، إلى التهوين من شأنه. وبالمقابل فإنّ التركيز الحالى على إيران فيه تغافل عن التفاهمات الإيرانية التركية الراهنة، التى قد تُسفر عن تقاسم نفوذهما بين الشام واليمن.
للجغرافيا دروسها.. كما أنّ للتاريخ عبره وعِظاته.. لكنها أصبحت دروسًا مستهلكة وغير مواكبة فى عصر المعلومات الذى نعيشه.. وتكنولوجيا التواصل التى صارت فى متناول جميع سُكَّان الكرة.
ووحدهم، عديمو الموهبة والخيال، من سيلجأون لإعادة التاريخ وتكرار أحداثه.. لأنّ المطامع تتلاقح وتتجدد.. وقد تتحول-مثل"الإيدز"-الى فيروس مُبتكر وقاتل.