صداقة عسكرية وعداوة اقتصادية.. أوروبا المطيعة تحاول التمرد على الغول الأمريكي
الخميس، 26 يوليو 2018 09:33 م
لم يكن دونالد ترامب بالتأكيد يضع في حساباته وهو يطلق الرصاصة الأولى في حربه التجارية، أن تحرّكاته قد تسفر عن آثار عكسية، وتقوّض جهوده في ملفات أخرى، وتُربك علاقاته بكثيرين من حلفائه المهمين.
بعقلية التاجر ورجل الأعمال سعى الرئيس الأمريكي لتحقيق أكبر مكاسب اقتصادية متاحة، بينما كان يحتاج للتوقف بُرهة والتفكير على طريقة السياسيين، ليعرف أن العلاقات السياسية والاقتصادية تحكمها توازنات مُعقدة، وأن الجميع أيًّا كانت أحجامهم ومهما تفاوتت أوزانهم النسبية يملكون أوراق ضغط.. في الحقيقة يبدو أنه فوجئ بهذا الأمر، ليس مع التنين الصيني فقط، ولكن أيضا مع الحلفاء الأوروبيين.
خصومة تجارية وتحالف عسكري
بدأ الرئيس الأمريكي معركته بفرض رسوم حمائية على واردات الصلب والألومنيوم من بعض دول أوروبا، ثمّ اتجه شرقا بتطوير الأمر ليطال سلة واردات صينية بقيمة 34 مليار دولار، ورغم الموقف الصيني الذي اتجه لتطبيق مبدأ المعاملة بالمثل، لم يتوقف ترامب لمراجعة ما يُمكن أن تُسفر عنه هذه المعركة من احتمالات، سواء مع الصين أو غيرها.
الموازين السياسية والاقتصادية الحالية تُرجح كفّة واشنطن في مواجهة بكين، خاصة أن الأخيرة لا تستند لسوق داخلية قوية، وأي توتر في حركة التجارة العالمية يجعلها عُرضة لاهتزازات قاسية وذات آثار سيئة، عكس الولايات المتحدة التي تقترب طبيعتها للسوق المغلقة بشكل نسبي، مع امتلاكها قاعدة صناعية ضخمة ومتطورة، وسوقا داخلية قادرة على امتصاص الحصة الأكبر من هذا الإنتاج، لكن حتى هذا التوازن الحرج القائم مع الصين لا يبدو متوفرا على جبهات أخرى قد تكون أضعف من التنين الآسيوي.
حينما أعلن "ترامب" عن نيّته اتخاذ خطوات أوسع تجاه أوروبا، وفرض رسوم حمائية مرتفعة على واردات الولايات المتحدة من السيارات الأوروبية، بدا الأمر أكثر إزعاجا للقارة العجوز، بشكل دفعها لخوض الصراع على الطريقة الصينية، والتهديد باتخاذ مواقف شبيهة والردّ بالمثل. وهنا لا تتوفر التركيبة المُريحة التي تستشعرها واشنطن في صراعها مع بكين، بشكل يُعزّز موقفها ويشجعها على استكمال المعركة، إذ ربما كانت المخاطر على الصعيد الأوروبي أكبر واحتمالات الخسارة أقوى.
قبل أسابيع كان ترامب يمارس ضغوطا قوية على عدد من الدول الأوروبية الكبرى، خلال اجتماع حلف شمال الأطلنطي "ناتو" في العاصمة البلجيكية بروكسل، لزيادة نسبة إنفاقهم العسكري وتحمل جانب أكبر من فاتورة الحلف. وقتها وجّه انتقادات حادة للمواقف الأوروبية المتراخية حسبما يراها، وشنّ هجوما كاسحا على ألمانيا التي تتوسع في العلاقات التجارية مع روسيا، وتمدّ خط "نورستورم" المباشر للغاز بين البلدين، وبالفعل حصل على وعود والتزامات بزيادة الإنفاق العسكري، لكن الضغوط الاقتصادية وما ستنتجه من آثار قد تُقوّض هذه الالتزامات، أو تستخدمها دول القارة نفسها كورقة للمناورة.
تلاسن أمريكي أوروبي
منذ اللحظة الأولى لم تكن أوروبا راضية عن الموقف الأمريكي الرامي لإقرار حزمة رسوم حمائية على كثير من الواردات، ولا على أن تنال هذه الحزمة من صادرات القارة من الصلب والألومنيوم، لكنها حافظت على هدوئها وتابعت المشهد عن كثب، فيما يبدو ترقّبًا للتصاعد المتنامي بين واشنطن وبكين، وانتظارا لما سيُسفر عنه صراعهما. لم تشتبك أوروبا مع الأمر فعليا إلا عندما شعرت أن الخطر أصبح قريبا جدا، ويُهدد واحدة من أهم عناصر قوتها.
كان التلويح الأكثر إزعاجا للقارة العجوز بإعلان الإدارة الأمريكية اعتزامها فرض رسوم حمائية على وارداتها من السيارات الأوروبية، وهو ما ردت عليه الأخيرة من خلال مفوضة التجارة بالاتحاد الأوروبي، سيسيليا مالمستروم، مؤكدة أن الاتحاد يستعد لإقرار رسوم جمركية على سلّة سلع أمريكية قيمتها 20 مليار دولار، حال تنفيذ واشنطن تهديداتها بشأن السيارات الأوروبية.
في تصريحات لصحيفة "داجنز نياهتر" قبل لقاء ترامب ويونكر الأربعاء، عبرت مالمستروم عن رغبتها في ألا يصل الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة لهذه المرحلة، لكنها أكدت أنه حال إصرار الأخيرة على موقفها فإن حزمة الرسوم الأوروبية ستشمل واردات أمريكية من المواد الزراعية والصناعية والتكنولوجيا المتطورة.
الصداقة تحت تهديد القوة
النظرة الأمريكية لدول أوروبا تبدو مركّبة ومُربكة، فبينما تتأسس في ملفات عدّة على الشراكة وتساوي الأعباء والمصالح بصورة تقترب من الندّيّة الكاملة، تبدو في ساحات أخرى علاقة أقرب إلى التبعية المباشرة، أو الطاعة العمياء من القارة العجوز للغول الأمريكي.
هذه النظرة تؤكدها تصريحات ترامب نفسه، فبعدما هدّد في وقت سابق بفرض رسوم حمائية على السيارات وقطع الغيار الأوروبية، قال إن موقفه المُتشدّد تجاه دول أوروبا هو ما دفع قادة الاتحاد ومسؤوليه للتراجع والجلوس إلى طاولة التفاوض. وتطور الأمر بإعلان قناة "سي. إن. بي. سي" في تقرير بثته عقب لقاء ترامب ويونكر، أن الرئيس الأمريكي حصل على تنازلات مهمة من أوروبا حتى تتفادى الأخيرة مخاطر الحرب التجارية.
التنازلات التي عرضها التقرير أشارت إلى قبول مسؤولي الاتحاد بإملاءات أمريكية سابقة تقضي باستيراد أوروبا كميات أكبر من فول الصويا، بجانب تخفيض الرسوم الجمركية المفروضة من جانبها على المُنتجات المُصنّعة في الولايات المتحدة، والعمل بشكل أكبر على تطوير صادرات الغاز الطبيعي المُسال. ربما لا تتمكن أوروبا من الوفاء بكل هذه الالتزامات، أو تحاول لاحقا التهرب منها، لكن الاتفاق في حدّ ذاته تأكيد مباشر للتبعية أو دخول بيت الطاعة الأمريكي، وفي أفضل التعبيرات لُطفًا "الصداقة تحت تهديد القوة".
في المشهد نفسه وقف "يونكر" متحدثا عن الأجواء الإيجابية التي شهدها اللقاء مؤكدا أن "الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ليسا أعداء"، بينما رحبت ألمانيا من جانبها بقرارات الرئيس الأمريكي ورئيس المفوضية الأوروبية، ورأت أنها تُمثّل خطوة إيجابية وانفراجة كبرى، وكتب وزير الاقتصاد الألماني بيتر ألتماير عبر تويتر: "تهانينا ليونكر وترامب، تحققت انفراجة يمكن أن تُجنّب الحرب التجارية وتُنقذ ملايين الوظائف. هذا جيد جدا للاقتصاد العالمي".
ما قاله ترامب وأكده يونكر ورحّبت به ألمانيا لا يبدو كافيا لإزالة المخاوف القائمة من احتمال نشوب حرب تجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا، أو تورط الأخيرة في الحرب المتصاعدة بين واشنطن وبكين، في ضوء الآثار التي يُمكن أن يُشكلها هذا الضغط على حجم التبادل التجاري العالمي وعلى أسواق المال الكبرى، بينما لا يبدو أن أوروبا قد توافق على الرؤية الأمريكية التي عبر عنها ترامب في السابق، وبالتأكيد تُمثل قناعة لديه سيسعى لتحقيقها، وهي تحرير التجارة وإزالة القيود الأوروبية على البضائع الأمريكية، ما يُؤكد أن الأجواء الإيجابية قد لا تتطور إلى ما هو أبعد من الارتياح والترحيب.
هدنة إجبارية أم سلام اختياري؟
يبدو المشهد تهدئة ناعمة من جانب أوروبا، فرضتها الظروف الحالية وما مارسته الولايات المتحدة الأمريكية من ضغوط، خاصة أن الاتحاد يشهد ضغوطا قاسية على محاور عدّة، وليس في وسعه أن يحتمل مزيدا من الضغط والخسائر.
يرتبط التراجع الأوروبي في مواجهة الولايات المتحدة بملف بريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد) دون شكّ، إذ تبدو بروكسل في موقف حرج مع عدم التوصل لاتفاقات مُقنعة مع لندن، واقتراب الخروج دون ضمان علاقات فوق طبيعية مع المملكة بشكل لا يضغط على الاتحاد اقتصاديا، بينما سيسمح الخروج دون اتفاق لأن تعقد لندن شراكات اقتصادية مع قوى أخرى، في طليعتها الولايات المتحدة نفسها، بشكل يضمن تدفق البضائع الأمريكية على القارة دون كُلفة زائدة، وربما دون الكُلفة القائمة حاليا من الأساس.
التصعيد الأمريكي في الحرب المتنامية مع الصين يدفع للقلق أيضًا، وإذا قرر الاتحاد الأوروبي النظر في الأمر بشكل عاقل فسيعرف بالتأكيد أن ميزان القوة الاقتصادية يميل في صالح واشنطن، مع تلقي اقتصادها دفعات إيجابية عديدة بفعل انتعاش الدولار وتحسن سوق الوظائف ومُعدل التضخم وأداء السندات وأذون الخزانة، وهذا الأداء المدعوم بسوق داخلية قوية وتحالفات عالمية واسعة وسيطرة سياسية وعسكرية على كثير من الملفات، لا يجعل الاصطدام بواشنطن أمرا محفوفا بالمخاطر فقط، ولكن يجعل المقامرة بخسارتها، أو عدم التمتع بعلاقة إيجابية معها، أمرا سيئا أيضا، خاصة أن أوروبا ستجد نفسها مجبرة في ملفات أخرى على أن تدفع الفاتورة التي تقررها الولايات المتحدة.
هكذا يُمكن توقع أن التهدئة الأوروبية ليست سلاما اختياريا، وربما كانت هُدنة إجبارية، فرضتها حسابات العقل والجدوى على ميزان الاتحاد الأوروبي، ولكن في الوقت نفسه فرضتها قوة الغول الأمريكي ومخالبه، الذي لا يبدو أنه قد يسمح لأوروبا المطيعة بأن تتمرد، أو حتى تفكر في الأمر.