دولة أحمد الزند

السبت، 02 يناير 2016 03:58 م
دولة أحمد الزند
عبد الحليم قنديل

هل تريد أن تعرف حجم وقوة دولة الفساد فى مصر ؟ ، الجواب ظاهر من عنوانه ، ويكفى أن تتابع الحملة المسعورة الجارية ضد القاضى الجليل هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات ، والتى تضم عشرات من المحامين إياهم ، تكلفهم الجهات إياها ، ويقدمون بلاغات تطالب بعزل جنينة ومحاكمته ، وبدعوى إضراره بمصالح الدولة (!) ، فضلا عن كتائب جرارة من الكتاب والصحفيين والمذيعين ، كلها تفتح النار على رئيس جهاز المحاسبات ، بسبب أنه يؤدى مهام وظيفته ، ويتحدث عن فاتورة وتكلفة الفساد الذى يهد حيل البلد ، وينخر فى بدن الدولة ، والذى وصلت تكلفته ـ كما قال جنينة ـ إلى 600 مليار جنيه فى السنوات الأربع الأخيرة وحدها ، بناء على تقرير رسمى موضوع على مكتب الرئيس ، وبطلب مباشر من الرئاسة عبر وزارة التخطيط .
بدأت خطة اصطياد القاضى بخبر منشور على موقع الكترونى أمنى ، حرف تصريحا لهشام جنينة ، ونسب إليه قولة أن الستمائة مليار جنيه هى فاتورة الفساد فى عام 2015 وحده ، ورفض الموقع ـ إياه ـ نشر بيان تصحيح لاحق ، يؤكد أن الرقم المذكور عن حساب أربع سنوات لا سنة واحدة ، وكان القصد واضحا بلا شبهة التباس ، وهو توريط جنينة فى وقيعة مباشرة مع الرئيس السيسى ، وتصوير السيسى كما لو أنه يرعى الفساد المتفاقم ، وتصوير جنينة ، وهو موظف كبير فى الدولة ، كمتآمر خطير على الدولة ، وداعية للإثارة العامة ، والانقلاب على الرئيس ، وإلى آخر معزوفة اللغط الذى يثيره كهنة "الجهلوت" و"الهبلوت" ، والذين يعملون فى خدمة مصالح مريبة ، وفى فضائيات وصحف ومواقع الكترونية ، تمثل التحالف الأسود بين البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب العام المتحكمين فى الاقتصاد والإعلام ، والذين يحاصرون الرئيس ، ويسيطرون على مفاصل الحكومة ، وعلى قطاع لابأس به من الأجهزة الأمنية ، إضافة لأغلب مقاعد "المينى برلمان" الجديد ، ويخوضون حربا شرسة للدفاع عن مصالح تتصالح ، وتضاعف سطوة وتأثير دولة الفساد التى تحكم وتعظ ، وتدين بالولاء المطلق الظاهر لمؤسسها "أبو الفساد" المدعو حسنى مبارك ، والذى جرى خلعه دون أن يخلع نظامه ، ويحكم مصر إلى الآن من "دفنته" فى سريره الغاطس بمستشفى المعادى (!) .
ولا شبهة فى هوية هؤلاء ، فهم يريدون الإيقاع بهشام جنينة ، ويريدون بإزاحة جنينة "ذبح القطة" للرئيس السيسى ، ويسعون إلى توريط الرئيس فى ذبح نفسه بنفسه سياسيا ، وهكذا جرى تشكيل لجنة غاية فى العجب ، يمثل فيها الجهاز المركزى للمحاسبات بنائب رئيسه ، وليس برئيسه هشام جنينة ، وتضم رئيس جهاز "الرقابة الإدارية" رئيسا للجنة ، وإلى هنا يبدو الأمر مفهوما ، فالمهمة المعلنة هى تقصى حقائق الفساد ، وبيان حقيقة المنسوب للقاضى جنينة ، لكن غير المفهوم هو وجود ممثلين لوزاراء فى اللجنة العتيدة ، بينما الحكومة هى نفسها المتهمة برعاية وارتكاب الفساد ، وكأننا نعطى القط "مفتاح الكرار" ، وقد أعطى قرار تشكيل اللجنة مدة شهر كمهلة عمل تنتهى بنهاية يناير 2016 ، وبما يوحى أن الهدف شئ آخر ، هو الإيحاء بأنها لجنة تحقيق مع هشام جنينة ، وليس التحقق من حجم الفساد فى البلد ، وبما أعطى الضوء الأخضر لحيتان الفساد ، وروابط محبيه ومناصريه فى وسائل الإعلام ، والذين بدأوا حملة عاتية ضد جنينة بما يشبه التفويض الرسمى ، لم يلتفت فيها أحد إلى حقيقة تصريح الرجل ، والذى دافع بجرأة وشجاعة وشرف عما قاله ، وأكد أن جهاز المحاسبات يراقب التصرفات المالية فى كل مكان ، حتى فى مؤسسة الرئاسة ، وفى الهيئات الاقتصادية التابعة للجيش نفسه ، وأن الرئيس السيسى يعلم ويوافق ويسمح ويرحب ، بينما يمتنع "نادى القضاة" على رقابة جهاز المحاسبات ، برغم أنه مجرد نادى اجتماعى وتشكيل شبه نقابى ، لا هيئة قضائية محصنة ، وأمواله فى حكم الأموال العامة ، ولم تراقب التصرفات المالية فيه منذ أن تولاه أحمد الزند ، وظلت أحواله المالية مغلقة مبهمة حتى بعد أن تركه الزند ، وصدر القرار القاتل بتوليه وزارة العدل ، وهو القرار الذى وصفناه وقتها بأنه حكم إعدام للعدالة .
ولم يعد أحمد الزند قاضيا ، ولا له حصانة القضاء بعد توليه وزارة العدل ، فقد صار الرجل عضوا فى السلطة التنفيذية ، لا يخفى ميوله وصلاته الشخصية ، فهو واحد من كبار "الفلول" بالمعنى السياسى ، وهؤلاء ليسوا مجرد فلول لنظام المخلوع مبارك الذى لم يتغير إلى الآن ، بل هم "أصول" فى لعبة حصار وتعطيل وتفشيل عمل الرئيس السيسى ، وقد اعترف السيسى نفسه بأن الناس لا يحسون بأى تغيير ، وربط نجاح حملة مكافحة الإرهاب بالتغيير فى حياة الناس ، وبالقضاء على الفساد الذى يشكو من تضخمه فى كل مناسبة ، وكان توجيهه الأول فى اجتماعه الأخير مع المحافظين مما لا يحتمل الجدل ، فقد طلب إعطاء الأولوية لمحاربة الفساد ، ودون ثقة عظيمة فى إمكان تحقق الهدف ، فقد ذهب الرجل بعدها إلى معاينة الانتاج الأول لشركة محاجر ورخام فى سيناء ، وقال ـ بحسب تصريحات منشورة ـ أن شيئا لم يتغير ، وعبر عن مرارته بقوله "أنتم تقولون لى الآن ما سمعته منكم قبل سنة" (!) ، فالرجل لا يفتأ يعبر عن ضيقه وتبرمه من فساد وبؤس الجهاز الإدارى للدولة ، وقد سبق له أن قال "منه لله مبارك . خرب البلد" ، وأضاف فى مناسبة لاحقة "ما عدش فيه حاجة فى البلد تتسرق" ، كان التعبير عفويا ، وعكس صدمته من الحجم المهول للنهب والسرقات العامة ، وسعى الرجل إلى تنشيط دور جهاز الرقابة الإدارية ، ولم يخضع لضغوط ألحت عليه بإقالة القاضى هشام جنينة ، وتدجين دور الجهاز المركزى للمحاسبات ، وهى الضغوط ذاتها التى تتدافع الآن ، وتريد الاجهاز على هشام جنينة ، وبتشكيل لجنة عجيبة ، لا تبدو فيها من مصلحة منظورة للرئيس السيسى ، بل لا تبدو فيها سوى المصلحة الشخصية المباشرة للوزير أحمد الزند ، والذى يطارد خصومه الشخصيين باسم الدولة هذه المرة ، فزكريا عبد العزيز ـ الرئيس الأسبق لنادى القضاة ـ يحاكم الآن بتهمة التحريض على اقتحام مبنى أمن الدولة ، ويراد عزله من القضاء بالتهمة المصطنعة المثيرة للسخرية والأسى ، بينما التهمة الحقيقية لزكريا عبد العزيز يعرفها القاصى والدانى ، وهى تهمة تشرف صاحبها ، فقد كان خصما عنيدا لحكم مبارك ، وكان خصما بطبائع الأمور لأحمد الزند وجماعته فى نادى القضاة ، وهى ذات التهمة التى تلاحق هشام جنينة ، فقد كان هو الآخر خصما عنيدا لعدوان سلطة المخلوع على استقلال القضاء ، وترشح على رئاسة نادى القضاة ضد الزند بعد نهاية فترة زكريا عبد العزيز ، وقد روجت جماعة الزند لإقصاء جنينة من جهاز المحاسبات ، ونشروا توقعات عن إقالة جنينة مع أول يوم للزند فى وزارة العدل ، وبدعاوى كاذبة ركيكة ، روجت لها تقارير أمنية ملفقة ، قصدت إلى إزاحة جنينة من طريق دولة الفساد المسيطر، وهو ما نشهد ذروته الآن ، مع تشكيل اللجنة التى تمثل فيها وزارة الزند ، وهو ما قد يوحى عند الناس بما يتخوفون منه ، وهو أن تصبح اللجنة أداة انتقام من جنينة ، كأن تنتهى أعمالها مثلا إلى حديث عن حجم أقل للفساد مما ذكره ، أو أن فاتورة الفساد لا تصل إلى رقم الستمائة مليار جنيه ، وكأن خفض الرقم إلى نصفه أو حتى ربعه يعد خبرا طيبا ، لا مبرر معه للانزعاج أو شن حرب تطهير ، وأنه لا بديل عن التصالح مع الفساد ، وعلى نحو ما جرى فى القانون رقم 4 لسنة 2012 زمن برلمان الإخوان ، وفى تعديلات قانون جهاز الكسب غير المشروع ، التى تحمس لها أحمد الزند ، وقضت بالتصالح مع الفاسدين من كبار رجال جماعة مبارك ، وروج لها أحمد الزند بعد أن صار وزيرا للعدل ، وبشر المصريين بعشرات ، وربما مئات المليارات التى ستعود إليهم بعد التصالح ، ومرت الأسابيع والشهور، ودون أن يعود مليم واحد مما وعد به الزند ، ودون أن يسائله أحد عن تصالحات جهاز الكسب غير المشروع التابع لوزارته ، فقد صمت الكل ، ولم يشكل الرئيس لجنة تحقيق فى تصالحات أحمد الزند ، ولا فى تصريحاته التى وعدت المصريين باللبن والعسل يجرى أنهارا ، ثم لم نجن من ملياراته الموعودة سوى الحصرم ، ولم يهرش فاسد واحد جيبه ، بل فركوا جميعا أياديهم فرحا بفرصة الهروب من المحاكمات إلى المصالحات ، بينما لا محاكمة أعادت مليما ، ولا أعادت المصالحة ، واكتفى الكل بالنصر المحقق ، و"كفى الماجور" على خبر الفساد وسنينه .
وقد لا تكون من صعوبة فى توقع نتائج العبث الذى يجرى الآن ، وسواء ظل هشام جنينة محاصرا فى موقعه إلى نهاية مدته بعد شهور ، إو جرت إقالته بحسب الخطة الموضوعة ، والتى تدرجت من حصاره بتعيين نائبين له بدون علمه ، وحتى الإعداد لإقالته بتشكيل لجنة الانتقام بعضوية ممثل عن الزند ، وهو أمر وارد الحدوث للأسف ، ويشكل لو جرى انتصارا عظيما لدولة الفساد ، وخصما عظيما من رصيد الرئيس السيسى ، يجعل الفساد جيشا لا يهزم ، اللهم إلا إذا أخلف الله الظنون ، وظهرت الحقيقة التى نعرفها ويعرفها الرئيس ، وهى أن القاضى جنينة أعد تقرير فساد الأربع سنوات بتكليف شخصى مباشر من السيسى ، وأن فاتورة الستمائة مليار جنيه هى التكلفة المباشرة لفساد إدارى فى الهيئات والوزارات والمحليات ، ولا تشمل فساد رجال الأعمال المقدر بالتريليونات لا بالمليارات ، وأن الرقم الحقيقى للفساد الإدارى وحده أكبر بكثير من الرقم الذى ذكره جنينة علنا ، ويصل إلى 900 مليار جنيه بحسب مصادر موثوقة ، ولك الله يا مصر .
[email protected]

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة