فن المرافعة.. علاقة القاضي بالمحامي والاحترام الواجب بينهما
الأحد، 15 يوليو 2018 04:00 ص
«المرافعة».. تعتبر عمل المحامي بل تُعد بمثابة العلم الذى يكتسبه ويطوره، فهو إذ يهدف منها إلى تحقيق العدالة، فإنه يضيف بمضامينها إلى الفكر القانوني والإنساني -من حيث يدري أو لا يدري- فتجده يضمنها فكره ويعبر بها عن آرائه، وعواطفه ويسجل من منبرها مواقفه من النصوص التشريعية والآراء الفقهية والحياة الاجتماعية، مضيفا إلى العلوم الإنسانية - وحتى الطبيعية -بالنقد البناء والتنوير الموضوعي.
والمحاكم المصرية تشهد فى أروقتها أروع المرافعات داخل القاعات حيث تعد المدرسة التى يستقى منها المحامين الجدد العلم الفكر القانونى والأنسانى، وذلك من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل.
أروع مرافعة فى أشهر محاكمة تأديبية
فى التقرير التالى نستعرض بإيجاز اروع مرافعة فى أشهر محاكمة تأديبية انعقد لواؤها بين أكبر عبقريتين قانونيتين انجبتهما مصر، هما المستشار «عبد العزيز فهمى»، رئيس محكمة النقض منعقدة بهيئة مجلس تأديب، و«مرقص فهمى» المحامى بمناسبة الحكم بالغرامة على عدد من المحامين فى عصرهم وتقديمهم للمحاكمة التأديبية بتهمة اهانة محكمة الجنايات لانسحابهم من المرافعات أمامها.
فى بداية المرافعة، مهد المحامى مرقص فهمى، لمرافعته فى هدوء ليزيل التوتر المعلق ويشيع وينشر الألفة فى جو المحكمة، ويصور الواقعة على أنها «مجرد لبس» يعرضه الأبناء على الأباء لاستجلاء رأيهم فيه؛ فردد قائلاَ: «أن الموضوع المطروح ليس خصومة نترافع فيها أمام محكمة لتفصل فى النزاع بل هو مجلس عائلة، وذلك بحكم سرية المحاكمات التى فرضها القانون للتفاهم حول الحادث الذى عكر صفو التضامن وليقول الأباء الأجلاء كلمتهم».
مضى «فهمى» على هذا النحو فى مرافعته، بغرض القضاء على اية شبهة للاستقطاب أو التحزب، فيدلل على أن القضاء والمحاماة أعضاء أسرة واحدة هي الأسرة القضائية: «وقد غلب وضع الإسم لعمل القضاء، لأن كلمته هى الفاصلة لكنها لا توجد ولا يفهم وجودها ولا تؤدى مأموريتها الا بعنصريها ــ القضاء والمحاماة».
اقرأ أيضا: «فن المرافعة».. أزمة المحامى وموظف
«فهمى» أخذ فى مرافعته، ويظهر على ملامحه علامات التعجب وهو يتساءل: «أن الخلاف قد قام بين الفريقين عن أصل واحد هو صون الكرامة، فكيف يتفق الطرفان على المبدأ ثم يختلفان عند التنفيذ ؟ أوبمعنى أخر ما هو معنى الكرامة عند الطرفين؟ وتظهر عبقرية «مرقص فهمى»، واقتداره حين يصل بالتحليل الدقيق إلى أن طبيعة عمل المحامى وخبراته المكتسبة من ممارسة المهنة لا يمكن أن تحمله على الإعتداء على القاضى.
محامى يترافع وقاضى يحكم
بينما طبيعة القاضى-بحسب المرافعة - الذى يؤدى وظيفته بين احترام الجمهور ووسط الابتسامات المتملقة، والخضوع المغرى من كل جانب تجعله يعتبر أن أى طلب أو مناقشة بينه وبين المحامى فى عملهما المشترك خروجا على كرامة القضاء، ثم يدلل على صحة تعليله بالمقارنة بين طبيعة الاثنين: «فهذا يرجوا ويرجوا وقد يقبل طلبه يوما، ويرفض أياما فتتكون عنده غريزة الصبر، بينما الآخر يحكم ويأمر ويحسم فتتكون عنده غريزة الأمر واقتضاء الطاعة».
وبحسب «فهمى» فى مرافعته، هذا يترافع علنا ويكتب مذكرات ليؤكد فيها على ثقته بعدالة قاضيه، بينما طبيعة عمل القاضى السكوت علاوة على أنه لا يتكلم عن أداب المأمورية المشتركة بينهما بل لعله لا يراها كذلك اصلا، بينما يعمل المحامى جاهدا الى استمالة القاضى تمهيدا لاقناعه بحق موكله والقاضى لا يبغى شيئا من المحامى، ومن ثم لا تهمه حالته النفسية وقد يرى أن تكرار الخضوع حقا له».
ثم ينتهى «فهمى» من المرافعة في هذا الجزء بنتيجة هى أن الطبيعة تحدثنا بأن المحامى بحكم موقعه، ولمصلحته الذاتية ومن غرائزه المكتسبة «لا يعتدى»، إلا أن «فهمى» لا ينسى وهو في هذا المقام أن يذكر بالاحترام والتقديس الواجبين لمهنة المحاماة، حيث تناول بالرد على العبارة التى وجهتها محكمة الجنايات بحكم الغرامة إلى المحامين المنسحبين وكانت: «أن واجب المحامى أن يطيع المحكمة وأن يعلم الناس طاعتها».
اقرأ أيضا: فن المرافعات.. الأفعى والثعبان
وفى تلك الأثناء، تهتز لزئيره جنبات محكمة «النقض» حين يختم هذه الجزئية بقوله: «لا يا سيدى ليس القاضى ذلك الذى يأمر ويقتضى عمله الطاعة ــ وليس من واجبنا أن نطيع أحد ولا أن نخضع لأحد ولا أن نعلم الناس الطاعة فلسنا معلمين للطاعة و الخضوع وإنما نحن رسل الحق والهداية الى العدل»، وردد قائلاَ: «أن القاضى لا يأمر ولا يحب طاعة ولا خضوعا ولا يجب ذلك على أحد منا، لكنه يعلن كلمة الحق وفى هذا جلاله وعظمته، أما الطاعة والخضوع فلها جنود ولها منفذون».
«إن المحامى أمام القاضى لا يطيع ولا يخضع بل يبذل وقته، ويرشد ويبين طريق العدالة ويهيئ للقاضى أن يؤكد بأحكامه في اذهان الناس، وفي قلوبهم مكانته من الاجلال والاحترام، وما أبعد شرف الإرشاد وتمكين الجلال من منزلة الطاعة والخضوع وتعليم هذه المنزلة للناس، فإذا قلنا بالمساواة والإخلاص بين الاثنين، فإنما نرجو تلك المساواة الداخلية في التقدير والاحترام لا المساواة الخارجية المستمد من خوف الجماهير وتحيات الجنود، فذلك مما لا مطمع ولا حاجة لنا به»-وفقا لمرافعة «فهمى».
دروس مستفادة
وفجأة تراه يستدير في تؤده ناحية ممثل النيابة الذى كتب فى مذكراته أن المحامى يترافع واقفا ليصل بذلك تلميحا إلى أن «المحامى» فى مرتبة أدنى من مرتبة «القاضى» فيقول له بدوره: «انما يقف المحامى أمام القاضى وأمام جمهور الناس ليشهدهم، ويشهد الله قبلهم على انه رسول العدل، وأنه من طرق العبادة ما تقوم به واقفا، وما تقوم به جالسا، وكلا الموقفين يستويان، فلا تقل أن المصلى جالسا يجوز أن يأمر المصلي واقفا فهما واحد لا يتجزءان.
كما يتكلم المحامى واقفا جمعا لقوته ليثور على الباطل فان فى الجلوس فتور وأن الفتور جمود، والوقوف عند الكلام ليس موقف طاعة بل هو موقف تتفق فيه النيابة مع المحامى اذا تكلما، بل يقف المحامى فى مكان منخفض مرتديا السواد حزنا، ليكون قريبا مع من قهرتهم شهوة الانسان ليسمع آهاتهم فيرسل إلى قلب القاضى صرخات المظلومين»، ثم يردد داخل قاعة المحكمة فى ختام مرافعته بصوت جهور قائلاَ: «أنها المحاماة ايها السادة، أقسم اننى اعشقها حد العشق، وتسرى فى عروقى كما يسرى الدم».