العدل أساس الملك.. هل يعد تفسير القاعدة الجنائية خروجا على مبدأ الشرعية؟

الخميس، 12 يوليو 2018 12:00 م
العدل أساس الملك.. هل يعد تفسير القاعدة الجنائية خروجا على مبدأ الشرعية؟
محكمة -أرشيفية
علاء رضوان

الشرعية الجنائية تتمثل في مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، حيث يقصد بهذا المبدأ أن يحاط المخاطب بأطر وقواعد التجريم علماً بأنماط السلوك المحظورة، وأن تحدد العقوبات المترتبة على خرق هذه المحضورات بشكل مسبق، بمعنى إن عدم مشروعية الأفعال التي يراها المشرع ضارة بمصالح المجتمع والعقوبات المفروضة عليها أن تحدد من قبل إتيانها من قبل المكلفين بإتباع القاعدة الجنائية، وهذا معناه أن التطبيق المباشر لقواعد التجريم لا يُخضِع المكلف للعقوبة إذا وقع هذا الفعل قبل نفاذ النص الجنائي أو سكت المشرع عن وضعه ضمن نصوص التجريم.

«صوت الأمة» رصدت فى التقرير التالى تفسير القاعدة الجنائية، وهل هذا التفسير يعد خروجاً على مبدأ الشرعية-بحسب المستشار سامح عبد الله رئيس جنايات دمنهور-  

مضمون الركن الشرعى:

يقصد بالركن الشرعى أن تتوافر للفعل صفة عدم الشرعية، لأنه لا جريمة بالبداهة إذا كان الفعل المشكل لها مشروعاً، ومن ثم فلا تتوافر صفة عدم الشرعية في الفعل إلا إذا خلع عليه المشرع هذا الوصف.

المقصود إذاً بالركن الشرعى للجريمة : «نص التجريم الواجب التطبيق على الفعل».

والواقع أن هذا الركن القانوني يعتبر شرط بدء في البحث عن الجريمة وليس ركناً بالمعنى الدقيق إذا ليس من المتصور وكما يقول بعض الفقه اعتبار نص التجريم ركناً في الجريمة في حين أنه خالقها ومصدر وجودها إذ كيف يتصور اعتبار الخالق مجرد عنصر فيما خلق وهو رأى له وجاهته وحجته بكل تأكيد.

وبناء على هذا فإذا انتفى هذا الركن فلا يكون هناك داع لبحث أركان الجريمة الأخرى. 

اقرأ أيضا: خاص بالمستندات.. حكم «محامين مطاي»: محكمة النقض تقرر مسئولية سامح عاشور التأديبية

ويعنى هذا المبدأ أنه لا عقوبة ولا جريمة إلا بنص في القانون وهو مبدأ عرفته كل الدساتير المصرية وقد فصلته المادة الخامسة من قانون العقوبات بقولها : «يعاقب على الجرائم بمقتضى القانون المعمول بها وقت ارتكابها».

وهذا معناه أن القاضي لا يملك خلق جريمة جديدة أو عقوبة جديدة لجريمة قائمة، وإنما يلزم لخلق شىء من ذلك تدخل المشرع نفسه، فشريعة القانون الجنائي إنما تتأسس على فكرة التشريع الذي يعتبر وحده مصدر القانون الجنائي.

فالقاضي لا يملك اكمال تشريع ناقص أو غير كاف لا أن يستبدل الجزاء المقرر في القانون بآخر مهما كان ذلك عادلاً لأن مهمة القاضي الجنائي هى تطبيق القانون كما هو بصرف النظر عن قيمته الموضوعية ومدى تجاوبه مع مصالح المجتمع الأساسية.

مفهوم التفسير:

ووفقا لـ«عبدالله» فإن التفسير عملية ذهنية تستهدف إدراك مضمون ونطاق القاعدة القانونية.

وقد جرى أغلب الفقه الجنائي إلى القول بأن القواعد القانونية الموضوعية للقانون الجنائي يجب أن تفسر تفسيراً ضيقاً فلا يجوز القياس عليها ولا التوسع في تفسيرها إلا إذا كان في صالح المتهم «أسباب الإباحة، وموانع المسئولية، وموانع العقاب والأعذار القانونية المخففة»، فهذه يجوز القياس عليها والتوسع في تأويلها، أما قواعد القانون الجنائي الإجرائية فيجوز القياس عليها ويجوز تفسيرها تفسيراً واسعاً فيما عدا الأحكام الواردة في قاعدة استثنائية فهذه لا يجوز القياس عليها ولا التوسع في تفسيرها.

 

لكن هذا التوجيه يرى جانب من الفقه أنه يحتاج قدر من التأمل إذ أن التفسير باعتباره عملية ذهنية تستهدف إدراك مضمون قاعدة قانونية قائمة ليس قابلاً لأن يكون ضيقاً أو واسعاً حتى يقال أن قانون العقوبات يجرى عليها التفسير الضيق بينما يجوز التفسير الواسع على قواعد الإجراءات الجنائية. 

اقرأ أيضا: لا فائدة من الحكم بغير تنفيذ.. هل مصر تحتاج إلى تشريع الغرامة التهديدية لتنفيذ الأحكام؟

لأن تفسير القاعدة القانونية «موضوعية كانت أم إجرائية» ينبغي احتراماً للشرعية الجنائية «بمفهومها الواسع» أن يكون دقيقاً ومنضبطاً أى معبراً عن المضمون والنطاق الدقيق للقاعدة الجنائية. صحيح أن الأمر يلزم أحياناً إعطاء العبارات التي صيغت بها القاعدة معنى أشمل وأكمل من معناها الحرفي تحقيقاً لأهدافها إلا أن هذا لا يبيح لنا الخروج على التحرز في تفسير القوانين الجنائية والتزام جانب الدقة في ذلك-طبقا لـ«عبدالله».

وهذا ما قررته محكمة النقض بقولها " أن الأصل أنه يجب التحرز في تفسير القوانين الجنائية والتزام جانب الدقة في ذلك وعدم تحميل عباراتها فوق ما تحتمل

(نقض جلسة ١٩٧٩/١٢/٣ س ٣٠ ق)

وهذا معناه أن التفسير مهما اتسع -- إن صح التعبير-- ينبغي أن يظل دائراً في فلك الألفاظ والعبارات دلالة مضنوناً.

وأياً كان الأمر فإن إعطاء القاضي سلطة تفسير القانون ضرورة لم يعد هناك مجال للمناقشة فيها فطالما كان القانون عاماً فإن هذه الضرورة نفسها تفرض أن يُصاغ في عبارات يستحيل أن تضم كافة الحالات الخاصة.

وفى فرنسا في مرحلة الثورة كان المبدأ هو خضوع القاعدة الجزائية لمبدأ التفسير الحرفي الذى أدى إلى تقليص دور القضاء في التفسير بل انعدامها، لكن هذا النظر لم يستمر طويلاً بعد أن نادى كثير من الفقهاء بضرورة العدول عنه وإتاحة الفرصة إلى القاضي في أن يقوم بتفسير القاعدة الجزائية كلما دعت الحاجة إليه، وكانت حجتهم في ذلك أن القانون وإن كان صحيحاً يمثل المصدر الوحيد للتجريم إلا أن عباراته أحياناً تأتى بعبارات لا بد أن نعمل بشأنها قواعد التفسير مثل قوله «كل تصرف من شأنه».

«بأى طريقة كانت»

«تعريض مصالح الدولة للخطر» وغيرها من العبارات التى تحتاج من القاضي أن يقوم بدور هام في تفسير النصوص الجزائية.

مثال للتفسير:

(الطعن رقم ٢٢٢٤ لسنة ٤٩ قضائية

جلسة ١٧ من نوفمبر ١٩٨٠)

اتهمت النيابة العامة الطاعن بأنه سرق المكالمات التليفونية المملوكة للمجنى عليه، وذلك بتحويل الخط الخاص به رقم ( ...) إلى منزله وقام باستعماله دون أن يكون له حق في ذلك على النحو المبين بالأوراق وطلبت عقابه بالمادة ٣١٨ من قانون العقوبات ومحكمة جنح قسم شبرا الخيمة قضت حضورياً عملا بمادة الإتهام بمعاقبة المتهم بالحبس شهرين مع الشغل والنفاذ ومحكمة بنها الابتدائية ( بهيئة استئنافية) قضت حضوريا بقبول الاستئناف شكلا وفي الموضوع بتعديل الحكم المستأنف والاكتفاء بحبس المتهم شهراً مع الشغل والنفاذ فطعن المحكوم عليه في هذا الحكم بطريق النقض. 

اقرأ أيضا: لو صاحب البيت اشتغللك وماركبش الأسانسير.. المحكمة بتقولك: ما تدفعش باقي ثمن الشقة

استند طعنه على أن الحكم المطعون فيه إذ دان الطاعن بجريمة سرقة مكالمات تليفونية فقد أخطأ في تطبيق القانون وشابه الفساد في الإستدلال والقصور في التسبيب والبطلان ذلك بأن الحكم اعتبر الخط التليفونى مالا مقوما بينما لا تقوم الجريمة على تقويم افتراضى كما لم يقم الدليل على عدد المكالمات التليفونية وقد عول الحكم على ما قرره رجال هيئة التليفونات أنه ممكن للشخص العادى تحويل الخط التليفونى.

وجاء في معرض أسباب حكم النقض أنه لما كان من المقرر أن السرقة هى اختلاس منقول مملوك للغير والمنقول في هذا المقام هو كل ماله قيمة مالية ممكن تملكه وحيازته ونقله بصرف النظر عن ضآلة قيمته مادام أنه ليس مجردا من كل قيمة كما أنه لا يقتصر وصف المال المنقول على ما كان جسما متميزا قابلا للوزن طبقا لنظريات الطبيعة بل هو يتناول كل شىء مقوم للتملك والحيازة والنقل من مكان إلى آخر وكان من المقرر أيضا أن قيمة المسروق ليست عنصرا من عناصر جريمة السرقة فعدم بيانها في الحكم لا يعيبه ..

وانتهى قضاء النقض إلى رفض الطعن.

 

والبين هنا أن محكمة النقض قد أعطت تفسيرا موسعا لمفهوم المنقول إذ قالت نصا " كما أنه لا يقتصر وصف المال المنقول على ما كان جسما متميزا قابلا للوزن طبقا لنظريات الطبيعة "

ومن ثم فقد اعتبرت المكالمات الهاتفية مما ينطبق عليها وصف المنقول وهو وصف يمثل ركنا في جريمة السرقة لا تقوم بدونه وهو ما يمكن أن ينطبق على غيره مما يقدمه لنا العلم كل يوم..

سرقة الWi-Fi مثلا وغيرها من الاشياء المماثلة .

وهذا يعنى أيضا أن التفسير ليس قاصراً فقط على ما يمكن أن نعتبره سبب إباحة أو مانع من موانع العقاب أو الظروف المخففة وليس قاصرا على القانون الإجرائي إذ أن التفسير (الموسع ) هنا قد انصب من جهة على قاعدة موضوعية ثم كان سبباً للعقاب وليس لمنع العقاب.

الأمر الذى يمكن أن يشكل في ظاهره خروجاً على مبدأ الشرعية لكنه في جوهره لا يمثل خروجاً على هذا المبدأ فلم يتضمن خلقاً لجريمة جديدة أو إضافة عقوبة جديدة لجريمة قائمة إنما هو كما قلنا عملية ذهنية تستهدف إدراك مضمون ونطاق القاعدة القانونية

ورغم ذلك ولأن التفسير بهذا المعنى مشكلة عامة فيجب وكما قالت محكمة النقض "التحرز في تفسير القوانين الجنائية والتزام جانب الدقة في ذلك وعدم تحميل عباراتها فوق ما تحتمل"

 

ومثال آخر لعملية التفسير ما قررته محكمة النقض في إعطاء مفهوم (موسع) لجريمة الإخفاء التى وردت في المادة ٤٤ مكرر من قانون العقوبات والتى تنص على أن " كل من أخفى أشياء مسروقة أو متحصلة من جناية أو جنحة مع علمه بذلك يعاقب بالحبس مع الشغل مدة لا تزيد عن سنتين.

وإذا كان الجانى يعلم أن الأشياء التى يخفيها متحصلة من جريمة عقوبتها أشد حكم عليه بالعقوبة المقررة لهذه والجريمة

اللفظ هنا يتحدث عن «الإخفاء»

فماذا عن الإستعمال فى العلن؟

إنه يناقض ظاهر النص وحرفيته

لكن محكمة النقض عُرض عليها واقعة لم يتكون ركنها المادى في الإخفاء وإنما الإستعمال وكان على المحكمة إما أن تتمسك بحرفية النص لأنه لم يتحقق الإخفاء بالمعنى الحرفي وإما أن تعطى الإخفاء تفسيراً (موسعا) ليشمل الإستعمال والحيازة في العلن وهو ما انتهت إليه المحكمة ولم يقل أحد أنها خرجت على الشرعية.

أيضاً أعطت محكمة النقض تفسيراً موسعا في الجرائم التى لا يجوز للنيابة العامة أن تحرك الدعوى الجنائية فيها إلا بعد تقديم شكوى ومن بين هذه جرائم السرقة بين الأصول والفروع .

إذ عرضت على محكمة النقض جريمة نصب بين الأصول والفروع لم تقدم فيها شكوى من المجنى

فأخذت محكمة النقض هنا بالقياس وتطلبت الشكوى رغم أن النص يتحدث عن جرائم السرقة وبررت ذلك بحرصها على الأواصر العائلية التى هى غاية النص في السرقة وأن العلة التى بنى عليها واحدة.

وهذا ما اصطلح الفقه على تسميته بالتفسير العقلانى.

والحقيقة أن التفسير يجب أيضا أن يأتى ملائما لأهداف القاعدة القانونية وغاياتها مما قد يتطلب إعطاء العبارات التى صيغيت بها القاعدة معنى أشمل أو أكمل من معناها الحرفي ولعل هذا يمثل أعظم مببرات وجود.  

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق