كانت تركيا وأصبحت أردوغان
الأربعاء، 27 يونيو 2018 12:00 م
«مساجدنا ثكناتنا/ قبابنا خوذاتنا/ مآذننا حرابنا/ والمصلون جنودنا/ هذا الجيش المقدس يحرس ديننا» بهذا المقطع الشعري افتتح رجب طيب أردوغان أحد المؤتمرات الجماهيرية في العام 1998، إبان توليه رئاسة بلدية اسطنبول، وبسببه عُزل من منصبه وقضى عدة شهور في السجن، ومن هذه المحطة بدأت رحلة المناورة.
فتى فقير وُلد في اسطنبول شتاء العام 1954، يحكي لاحقا عن نفسه أنه اضطر لبيع البطيخ والسميد لمساعدة والده، لا أحد يعرف مدى صدقه، لكن مهنة أبيه كجندي في خفر السواحل، وحياته بين محافظتي ريزة واسطنبول بمستواهما الاقتصادي المرتفع، ولعبه كرة القدم بشكل شبه احترافي لصالح نادي قاسم باشا، وتخرجه في جامعة مرمرة، ثم انخراطه في العمل السياسي بشكل مبكر، كلها أمور قد تدحض رواية المعاناة المبكرة، وربما لا تختلف عن مسار الدراما المرتبكة لدى أردوغان، والمتراوحة دائما بين الشيء ونقيضه.
منذ اللحظة الأولى لدخوله عالم السياسية أفصح الشاب أردوغان عن ميل إسلامي واضح، في بلد يعتمد العلمانية قيمة فوق دستورية حاكمة للمجال العام، منذ أسس مصطفى كمال أتاتورك تركيا الحديثة وغسل وجهها من أوحال الدولة العثمانية، وما جنته على نفسها وعلى العالم بالشعارات الدينية، لهذا كان طبيعيا أن يرتمي السياسي الناشئ في أحضان أربكان.
مسار طويل قطعه الإسلاميون منذ عشرينيات القرن الماضي، لاختراق جدران الأتاتوركية المخلصة للعلمانية، لكن نجم الدين أربكان أول من نجح في هذا الاختراق، أسس حزب الخلاص الوطني وانضم له أردوغان، سرعان ما استعاد الجيش التركي دفة الأمر بانقلاب كنعان إيفرين وتجميد الحياة السياسية في 1980. ثلاث سنوات وعادت الحياة للأحزاب، فعاد أربكان بحزب الرفاه الإسلامي، ومن خلاله وصل أردوغان لمنصب عمدة اسطنبول في 1994، قبل أن يُعزل منه بعد أربع سنوات بتهمة التحريض على الكراهية الدينية.
مأزق أردوغان المبكر كان درسا قاسيا، وربما كان حافزا لتنشيط طاقات المناورة لدى السياسي البراجماتي، الذي أخفى هذه البراجماتية خلف وجه إسلامي محافظ، سيتضح لاحقا أنه لم يكن أكثر من خطوة على طريق المناورة الشخصية لتأسيس قاعدة سياسية، يمكن توظيفها لاحقا كرافعة لطموحات الرجل وتطلعاته.
كعادة تجارب أربكان المصطدمة بالدولة العلمانية، تعرض حزب الرفاه للتجميد، فانتقل برجاله وتابعيه إلى حزب الفضيلة، الذي تعرض بدوره للتجميد لاحقا، فانشق أردوغان ومعه عبد الله جول، وخرجا ساحبين خلفهما مئات من تلاميذ أربكان وكوادره، أسس المنشقون حزب «العدالة والتنمية» في العام 2001، وأسس أربكان بمن تبقوا من الكوادر المخلصة له، أو المتشككة في أردوغان وصديقه، حزب السعادة، الإسلامي أيضا.
في أول ظهور للوجه البراجماتي، قال أردوغان إن حزبه الوليد سيحافظ على أسس النظام الجمهوري، ولن يدخل في مماحكات مع الجيش التركي، وحاول أن يكون أكثر طمأنة لحراس العلمانية الأتاتوركية، فقال وقتها: «سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه كمال أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر».. ترشح العدالة والتنمية وفاز بـ363 مقعدا في انتخابات 2003، وكان صعبا على أردوغان تشكيل الحكومة بسبب تبعات الحكم القضائي ضده، فترك المنصب لصديقه المقرب عبد الله جول عدة شهور، ومع سقوط الحكم في 2003 تولى رئاسة الحكومة وبقي فيها 11 سنة وخمسة شهور، قبل أن يلعب لعبة التبديل مع جول مرة ثانية، ويقفز مكانه على كرسي الرئاسة.
بين اعتلاء أردوغان كرسي الرئاسة في أغسطس 2014، وخوضه الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت الأحد الماضي، أقل من أربع سنوات في فترة رئاسية كان يُفترض أن تمتد 5 سنوات، استبقها الرئيس التركي مدمن المناورات بالدعوة لانتخابات مبكرة حقق من خلالها هدفين مهمين: الأول مفاجأة الأحزاب والقوى السياسية بدرجة خصمت من قدرتها على الاستعداد للمعركة الانتخابية، وهو ما قلل من آثار التراجع الكبير الذي يضرب شعبية حزب العدالة والتنمية، والثاني التمتع المبكر بصلاحيات تنفيذية واسعة للغاية، فصّلها أردوغان على مقاسه تفصيلا، ومررها في استفتاء جرى منتصف العام الماضي.
شملت قائمة التعديلات 18 مادة بالدستور التركي، كلها تزيد من حضور الرئيس - الذي كان منصبا شرفيا - في واجهة المشهد السياسي، فمع الانتقال من الجمهورية البرلمانية إلى الرئاسية، ومنح الرئيس اختصاصات الرئاسة والحكومة، وسلطة إعلان الطوارئ، وإصدار المراسيم، والدعوة لانتخابات مبكرة، والترشح لولاية ثالثة حال الدعوة للانتخابات قبل انقضاء الولاية الثانية، وتعيين حصة كبيرة من القضاة وعزلهم، وتعيين مجلس الدولة الذي يشرف على الجيش، ونسبة كبيرة من قضاة المحكمة الدستورية التي تفصل في نزاعات الرئيس والبرلمان، والجهات الرقابية والوزراء ونوابهم، وتحصينه من السؤال أمام المؤسسة التشريعية، وغيرها من الصلاحيات، أصبح أردوغان المتصرف الوحيد في شؤون تركيا، أو بمعنى أدق أصبح تركيا.
المسافة بين أردوغان المتمسح في كتف أستاذه نجم الدين أربكان، وأردوغان الذي يقبض على رقبة تركيا اليوم، يمكن اختزالها في مشهد فرعي من الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فبين خمسة مرشحين حاولوا منافسة الرجل الممسك بمصير البلاد، حضر تيميل كرم الله أوغلو زعيم حزب السعادة، وصديق أردوغان القديم في مدرسة المعلم أربكان، ووقوفهما اليوم على طرفي نقيض بمثابة الضوء الكاشف لحجم الإزاحة والتحولات التي أحدثتها المناورات المتتابعة في مسيرة أردوغان. يقول أوغلو عن هذه المنافسة: «سياسات أردوغان وحزبه تضعف تركيا في جميع الجوانب، فنهجه وخطابه يسببان استقطابا، إضافة إلى أنه لا يحترم القانون» ويواصل زعيم حزب السعادة انتقاداته متحدثا عن «فشل حكومة أردوغان، بمعدل بطالة مرتفع، وعجز تجاري متزايد، وسياسة خارجية فوضوية، وتعثر في الانضمام للاتحاد الأوروبي، وحالة طوارئ منذ الانقلاب الفاشل في 2016، وكل هذا ألحق ضررا بجميع الحقوق والحريات».
مواقف بقية منافسي أردوغان لم تختلف عن موقف أصدقائه القدامى، المعنى نفسه قالته ميرال أكيشنار زعيمة حزب الخير، ودوجو برينتشيك عن حزب الوطن، وصلاح الدين ديميرتاش عن حزب الشعوب الديمقراطي، وزاد عليه أبرز المنافسين محرم إنجيه، المرشح عن حزب الشعب الجمهوري (حزب أتاتورك) والحائز على أكثر من 30% من مجموع الأصوات في الانتخابات، قائلا: «عشنا انتخابات ستؤثر في حياتنا وديمقراطيتنا مستقبلا، هذه الانتخابات منذ الإعلان عنها، ونتائجها، وإدارتها، انتخابات غير منصفة. لقد دخلنا فترة خطيرة من حكم الرجل الواحد».. وهو ما زاد عليه زعيم الحزب كمال كيليشدار أوغلو بوصف أردوغان بالديكتاتور، قائلا: «لا يمكنك أن تهنئ شخصا يضع الأجهزة التنفيذية والقضائية والتشريعية في يده. إذا قال رجل إنه سيترشح بنظام الرجل الواحد حتى النهاية، فلماذا أهنئ ديكتاتورا؟!»
الانتخابات التي كان أردوغان حريصا على إجرائها في مناخ مشدود، وتحت ضغوط قاسية على كل المنافسين، ونجح بفضل هذا في الفوز من الجولة الأولى بنسبة 53% تقريبا، لم تترك انطباعا جيدا لدى المتابعين على كل المستويات. المؤسسات الحقوقية الدولية تحدثت عن توقيف واعتقالات ومنع لحركة كثيرين من المراقبين الدوليين، منها توقيف 10 من بعثة الاتحاد الأوروبي بادعاء تدخلهم في مسار الانتخابات، وعناوين الصحف الغربية كانت واضحة في رصد المخالفات وتقييم العملية، فحملت تغطياتها أحكاما تخصم من نزاهة السباق بكامله، منها: إكسبرت أونلاين «لو كنت سلطانا»، وول ستريت جورنال «خيار تركيا الاستبدادي»، بلومبرج «انتصار أردوغان يقود تركيا إلى الحكم الفردي»، لو بوينت «الديكتاتور»، لو فيجارو «أردوغان يدّعي الفوز بالانتخابات»، دير شبيجل «دولة أردوغان»، إكسبريس «التركي الخطير»، إيكونوميست «الديمقراطية أم السلطان؟»، بينما قالت جارديان البريطانية في تقرير موسع عن الانتخابات وملابساتها، إن ولاء أردوغان لشخصه أكبر من ولائه لتركيا، وإنه بعدما اختزل الدولة في حزب العدالة والتنمية، يتجه الآن لأن يكون هو الدولة.
قد يكون من التبسيط اعتبار الموقف العالمي الناقد لأردوغان مرتبطا بالانتخابات الأخيرة وحدها، صحيح أن السباق شهد ممارسات فجة، بدءا من مفاجأة الساحة السياسية بالدعوة لانتخابات مبكرة في غضون أسابيع، وتقويض تحركات الأحزاب والسياسيين إلى حد أن أحد المنافسين خاض السباق من داخل السجن، والتضييق السياسي والإعلامي وحصار المراقبين المحليين والدوليين، وصولا إلى التخويف والرشاوى والتجييش والحشد للقواعد والفقراء على أرضية طائفية وبشعارات دينية واضحة، إلا أن الموقف من أردوغان أبعد من هذا، زمنيا على الأقل.
الرجل الآتي من خلفية دينية، حاول إيهام الجميع بالتخلي النهائي عنها، ودعم هذا الوهم بتحالف مبكر في انتخابات 2002 مع حزب قومي متطرف، استمر على النهج نفسه في الانتخابات الأخيرة بتحالفه مع حزبي الحركة القومية والاتحاد الكبير، القوميين المعاديين لحقوق الأقليات والتنوعات العرقية والثقافية، لكنه في الوقت نفسه يواصل مناوراته ومساعيه البطيئة لتديين الفضاء العام، والارتداد بتركيا إلى مرحلة ما قبل أتاتورك، ليس فقط بالغرق في وحل الشعارات الدينية، واتخاذ قرارات عدائية ضد الطبيعة العلمانية للدولة، ولكن أيضا بالإغراق في القومية المعجونة بطموحات الخلافة والإمبراطورية، وقد تحدث الرجل في أكثر من موقف وتجمع عمّا يعتبره «مجد تركيا القديم»، وهو بالضرورة يقصد ما يراه مجدا في سيرة آل عثمان الملوثة بدماء ملايين الضحايا في أرمينيا ومصر والشام والعراق وفلسطين، وحتى في الأناضول نفسها.
القول إذن إن الخوف من أردوغان يتأسس على تلاعبه بالانتخابات واغتصابه لحاضر تركيا ومستقبلها القريب بلعبة شمولية تأخذ طابعا ديمقراطيا، قول مغرق في التبسيط. إيقاع التوجس من الرجل أصابه ارتفاع كبير بعد الانتخابات دون شك، لكن المؤكد أن هذا الإيقاع قائم ومنتظم العزف منذ وقت سابق، بدا الأمر جليا في صيف 2016، مع التحرك المحدود لعناصر من الجيش التركي ضد أردوغان وحكومته، رآه الديكتاتور وحزبه انقلابا، ولم يستبعد بعض معارضيه أن يكون لعبة سياسية، وما دعم هذا التصور الذي بدا في مطلع الأمر سطحيا ومتحاملا نوعا ما، أن أردوغان وظّف هذا التحرك في التنكيل بخصومه ومعارضيه، فطرد ما يتجاوز مائتي ألف من المعلمين وأساتذة الجامعات وموظفي الدولة، وطرد آلافا من القضاة، وستة آلاف من الجيش، وبلغت جملة الاعتقالات 77 ألفا من كل التيارات والفئات والمهن، وفرض حالة طوارئ ممتدة حتى الآن، وتتبع حركة الخدمة التي يتزعمها صديقه السابق فتح الله جولن، وصادر مدارسها ومستشفياتها ومؤسساتها الدينية والاجتماعية والخيرية، وأغلق عشرات الصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات التليفزيونية، واعتقل أو أبعد صحفيين محليين ودوليين، وفرض حالة واسعة من الهيمنة على المجال العام، مدعومة بالقبضة الأمنية والمراسيم الاستثنائية وحالة الطوارئ، والميليشيات التي كوّنها من عناصر منخرطة في الحزب أو موالية له، تتمتع بقدر كبير من التدريب والتسليح الجيدين، وتحوز صيغة شبه رسمية بإلحاقها على هيكل وزارة الداخلية ومؤسساتها الأمنية، بصيغة أقرب لميليشيات الباسيج التي تقبض على روح إيران.
وسط هذه الأجواء من الغطرسة، لا يبدو أن الرجل يُخضع نفسه للقانون، على الأقل في حدّه الأدنى وما يخص النزاهة والشرف، فخلال السنوات الأخيرة تتواصل اتهامات الفساد بحق ولديه، خصوصا بلال الذي تداولت الصحافة العالمية فضائحه المالية والتجارية، إضافة لجريمة قتل ارتكبها بسيارته الخاصة، كانت ضحيتها ممثلة معروفة، ووصلت اتهامات الفساد لأردوغان نفسه، سواء على صعيد شبهات تطال أداءه محليا، أو إشارات قوية لتورطه في عمليات غسيل أموال بغرض اختراق الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة على إيران، وهو الاتهام الذي أكده رجل الأعمال وتاجر الذهب التركي الشهير رضا ضراب في أقواله أمام جهات تحقيقات أمريكية في قضية الفساد التي تضم اسم أردوغان وسياسيين آخرين من حزبه بجانب «خلق بنك» التركي وعدد من الإيرانيين.
بين الغطرسة والفساد، أو ادعاء الديمقراطية وإنتاج صيغة شمولية رجعية غاية حلمها الارتداد بتركيا إلى سفالة العثمانيين وإجرامهم، أصبح أردوغان رئيسا، بالطريقة نفسها التي أصبح بها رئيسا للوزراء قبل خمس عشرة سنة. قدر من المناورة والميوعة، إضمار النوايا الحقيقية وإعلان ما يمكن أن ينطلي على الناس، التلاعب بالقانون وتوظيف كوادر الحزب في لعبة كراسٍ موسيقية مؤقتة، الصعود بالدستور ثم إحراقه، وادعاء العلمانية والانفتاح في الوقت الذي يواصل تنفيذ خطته المتغلغلة في مفاصل الدولة ببطء، لتحويل مآذن تركيا إلى حِراب، وقبابها خوذات، والمصلين لجنود، كما قال قبل عشرين سنة. لكن الأخطر في كل هذه الرحلة، أن الرجل يرى نفسه أكبر من تركيا وشعبها، ويوظف كل إمكانات البلد وموارده لتحقيق تطلعاته الشخصية، وهكذا نام الأتراك في بلد برلماني واستيقظوا في بلد رئاسي، وقد ينامون قريبا وهم يهتفون باسم تركيا، ويستيقظون - قريبا أيضا - وهم في بلد اسمه أردوغان.