إسلام ما بعد الوهابية؟
الأربعاء، 25 أبريل 2018 09:13 م
ترددت كثيراً في الكتابة عن هذا الموضوع الحساس، ولكن الذي شجعني على ذلك هو أن أصحاب الشأن أنفسهم والذين تبنوا في يوم من الأيام الفكر الوهابي في بلادهم قد تبين لهم اليوم خطر ذلك الجانب التكفيري الإقصائي لهذا الفكر الذي عاد على البلاد والعباد، بل وعلى الأمة الإسلامية جمعاء، بالفتن المريرة التي مزقت وحدة المسلمين كما لم تمزفها فتنة غيرها.
بداية، لا بد أن أؤكد أنه لا يعنيني شخص هذا أو ذلك العالم أو الشيخ، بل الذي يعنيني هو الفكر الذي حمله ودعى إليه، وهذا ينطبق هنا عند حديثي عن الوهابية، فما يعنيني هو فكر محمد بن عبد الوهاب وليس شخصه. والذي أنتقده هنا من فكره هو منهجه التكفيري الذي عُرف واشتهر به في زمانه فورّث هذا الفكر التكفيري لأجيال من أبناء المسلمين حذوا حذوه فأصبحوا لا يتورعون عن تكفير المسلمين. ولعل أكثر من استاء من تكفير محمد بن عبد الوهاب للمسلمين كان والده الذي نهاه عن ذلك ومن بعده شقيقه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب والذي كان في طليعة الرادين عليه في كتابين: "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية" و "فصل الخطاب في الرد على محمد بن عبد الوهاب". وسأكتفي هنا بإيراد بعض ما كتبه الشيخ سليمان بن عبد الوهاب لأخيه محمد مستنكراً عليه تكفير المسلمين واستحلال دمائهم، لم يكن الشيخ سليمان متحاملاً على أخيه بل ناصحاً له، ففي كتابه "الصواعق الإلهية" كتب له ناصحاً: "فإنكم الآن تكفرون من شهد أن لا إله إلا الله وحده، وأن محمداً عبده ورسوله، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت مؤمناً بالله، وملائكته، وكتبه،ورسله، ملتزماً لجميع شعائر الإسلام، وتجعلونهم كفاراً، وبلادهم بلاد حرب، فنحن نسألكم من إمامكم في ذلك؟؟! وَمِمَّن أخذتم هذا المذهب عنه؟؟!! … فإن قلتم: فهمنا ذلك من الكتاب والسنة..!! قلنا: لا عبرة بمفهومكم، ولا يجوز لكم، ولا لمسلم الأخذ بمفهومكم، فإن الأمة مجمعة كما تقدم أن الاستنباط مرتبة أهل الاجتهاد المطلق، ومع هذا لو اجتمعت شروط الاجتهاد في رجل لم يجب على أحد الأخذ بقوله دون نظر … وإن قلتم: أخذنا ذلك من كلام بعض أهل العلم كابن تيمية، وابن القيم، لأنهم سموا ذلك شركاً..!! قلنا: هذا حق ونوافقكم على تقليد الشيخين أن هذا شرك، ولكن هم لم يقولوا كما قلتم أن هذا شرك أكبر يُخرج من الإسلام، وتجري على كل بلد هذا فيها أحكام أهل الردة، بل من لم يُكفِّرهم عندكم فهو كافر تجري عليه أحكام أهل الردة، ولكنهم (رحمهم الله) ذكروا أن هذا شرك وشددوا فيه، ونهوا عنه، ولكن ما قالوا كما قلتم، ولا عشر معشاره".
فأخذ الشيخ سليمان على أخيه أنه أعمل رأيه في تأويل النصوص فأخرجها عن مقصودها مستحلاً دماء المسلمين حتى في مكة والمدينة فعتب عليه أشد العتب: "حيث أجريتم الكفر والرِّدة على أمصار المسلمين وغيرها من بلاد المسلمين، وجعلتم بلادهم بلاد حرب حتى الحرمين الشريفين اللذين أخبر النبي (صلى الله عليه وسلم) في الأحاديث الصحيحة الصريحة أنهما لا يزالا بلاد إسلام… فكل هذه البلاد عندكم بلاد حرب، كفار أهلها..".
هذا الفكر التكفيري المستبيح لدماء المسلمين تم توظيفه سياسياً حيث لزم الأمر. لذا لا يمكننا اليوم فهم التركيبة الأيدولوجية لداعش وأمثالها من الفرق التكفيرية إذا لم نفهم الجذور الفكرية لها في الوهابية أو في ما يُعرف بالسلفية الحديثة. لقد عرف تاريخ الإسلام وللأسف تكفير المسلمين لغيرهم من المسلمين، كتكفير بعض الأشاعرة للمعتزلة مثلاً، ففكر التكفير ليس بالدخيل على الإسلام (وهذا من الأمور التي يتوجب مراجعتها)، ولكن تميز الفكر الوهابي بمبالغته في تكفير المسلمين ولم يتوقف عند هذا، بل استحل دم المخالف له مستنداً على أيدولوجية الولاء والبراء، فالمسلم لا يكون وفق هذه الأيدولوجية مسلماً حتى يُكفّر من خالفه بل ويعلن عليه الحرب. كتب مفتي الحنابلة في مكة المكرمة الشيخ محمد بن عبد الله النجدي الحنبلي في كتابه "السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة" عن محمد بن عبد الوهاب: "إنه كان إذا باينه أحد ولم يقدر على قتله مجاهرة يرسل إليه من يغتاله في فراشه أو في السوق ليلاً لقوله بتكفير من خالفه واستحلاله قتله".
لكن كما ذكرت، القضية ليست شخص محمد بن عبد الوهاب، فلعل الرجل يكون قد تاب قبل وفاته ولعل هناك من بالغ فيما نقل عنه من تكفيرٍ واستباحةٍ لدماء المسلمين، لكن القضية تبقى في الفكر التكفيري الإقصائي الذي مازال منتشراً هنا وهناك بين بعض أبناء المسلمين سواء في الشرق أم في الغرب.
لم نعان كمسلمين في أوروبا من التطرّف الديني كما نعاني من هذا الفكر التكفيري الذي يحمل الحقد والكراهية للمسلم ولغير المسلم على سواء، والعجيب في أصحاب هذا الفكر أنهم يتبرأون من غير المسلمين طالما لم تتأثر مصالحهم الشخصية وإلا فهم يضربون حتى بعقائدهم عرض الحائط حفاظاً على هذه المصالح، فتجدهم لا يجدون حرجاً من أخذ المساعدات الاجتماعية من بلادٍ هي في نظرهم بلاد كفر، أو أن يتجنسوا بجنسياتها ويعيشوا في ربوعها.
مشكلة الوهابية الكبرى هي ذلك الخطاب التكفيري الاستعلائي الذي أسست له فانتشر حتى بين أولئك الذين لا يَعُدّون أنفسهم من أتباع الوهابية. فتجد البعض يكفر أخاه المسلم لأبسط الأسباب أو لمجرد اختلافه معه في فهمه لهذه أو لتلك القضية في الإسلام أو بسبب اختلاف وجهات النظر السياسية.
انتشار الوهابية ووصولها حتى إلى أوروبا لم يكن ليكون لولا ذلك الدعم المادي والمعنوي الكبير الذي حصلت عليه خلال السنوات الماضية. أما اليوم، وقد خسرت الوهابية ذلك الدعم فهي تحتضر وربما يحتضر معها ذلك الفكر التكفيري المتطرف. لا يزال الوقت مبكراً لصياغة رؤية مستقبلية واضحة عن الخطاب الإسلامي القادم. فهناك مؤشرات لبداية خطاب ديني جديد يتميز بالاعتدال والوسطية تدعمه اليوم المملكة العربية السعودية وتتبناه دول ومؤسسات إسلامية مهمة كالأزهر الشريف وغيره. فهل نحن اليوم على أبواب عهد جديد يبشر بإسلام وسطي معتدل يذكرنا برحلة الآباء والأجداد في الأندلس وغيرها حين أثرى الإسلام البشرية بروحه وعقلانيته متجاوزاً كل فكر سطحي أو أيدولوجي؟ الأيام والسنوات القادمة سوف تأتي بالمزيد من الإجابات على هذا السؤال، لكن يمكننا أن نقول، أن الفرصة أمام الإسلام الوسطي المعتدل لم تكن مهيأة خلال السنوات الأخيرة كما هي الحال اليوم. خاصة وأنه أضحى مدعوماً من قبل دول لها ثقلها الديني.
سوف يعترض خاصة أولئك المزايدون: "هل تسمي السماح بالعروض الغنائية والسينما في بلاد الحرمين إسلاماً وسطياً ومبشراً بعهد إسلامي جديد؟ بل هذا انحلال أخلاقي!". فأقول: "اجعل نظرتك للأمور أعمق وضع الأمور في سياقاتها، وانظر إلى المستقبل البعيد ولا تجعل سقف تفكيرك ينتهي عند عرض غنائي أو دور السينما ولا تحلل الأمور بمثل هذه السطحية الساذجة. هناك أجيال قد حُرِمت مظاهر الرفاهية في بلادها وذلك باسم الصحوة الدينية والفكر الديني، وهذه الأجيال ذاتها والتي هي نتاج هذه الصحوة المزعومة هي التي تنادي اليوم بمظاهر الرفاهية وتتقبلها بصدر رحب، إذن لا تعتب على هذه الشعوب وتتهمها بالانحلال، بل راجع صحوتك المدّعاة وفكرك الديني الذي أرهق الناس وجعلهم لا يصدقون متى يأتي من يحررهم من أغلال التشدد".
ثم سوف يأتي من سيحتج معللاً أن هذا التغيير في اتجاه إسلامٍ وسطيٍ هو بدافع سياسي غربي، فأقول: "لست محللاً سياسياً ولا أخوض في النوايا والدوافع ومع ذلك وإن افترضنا تنزلاً أن الغرب وراء هذا التغيير، فليكن! فأنا حين أذهب مثلاً إلى الطبيب، لا يهمني دافعه وراء معالجتي طالما وصف لي العلاج المناسب. وله الحق أن يكون دافعه مادي بحت للحصول على المال أو معنوي للحصول على الشهرة أو نفسي للوصول إلى تحقيق ذاته، الذي يهمني هو دافعي أنا. الغرب ليس طبيبنا، بل هو يبحث عن مصالحه، وهذه قد تتماشى في بعض الأحيان ومصالحنا وقد تتعارض معها في أحيان أخرى، فليس كل ما أراده الغرب لنا شراً، كما أن ليس كل ما أردناه لأنفسنا خيراً".
وأخيراً هناك من سيحتج بأن سياسة هذه أو تلك الدولة اتجاه هذه أو تلك القضية ليست بالصحيحة، فأقول: "من فضلك لا تخلط الأمور، فحديثنا هنا هو ليس عن التوجهات السياسية لهذه أو لتلك الدولة، بل حديثنا هو عن ظهور إسلام وسطي بعيد عن العنف والتطرف".
لقد شاء القدر وأنا أكتب هذا الأسطر أني قلبت قنوات التلفاز فإذا في اللحظة التي وصلت فيها إلى قناة الجزيرة أسمع فيصل القاسم يتهم الوهابية بأنها صناعة بريطانية استعمارية مستشهداً بكتاب يحمل عنوان "مذكرات مستر همفر". وهنا لا بد وللأمانة العلمية أن أقول الآتي: هذا الجاسوس البريطاني والمدعو همفر والذي أسلم وعاش في شبه الجزيرة العربية أوائل القرن الثامن عشر هو مجرد شخصية مخترعة، كما أن مذكراته المزعومة مكذوبة. كاتب هذه المذكرات هو على الأغلب أيوب صبري باشا وهو كاتب عثماني توفي سنة ١٨٩٠م. تحتوي المذكرات على مغالطات تاريخية كثيرة، منها لقاء همفر بمحمد بن عبد الوهاب في البصرة سنة ١٧١٢م، لكن هذا الأخير ولد سنة ١٧٠٤ م فكيف لهمفر أن يكون قد التقى به وتحدث معه في أمور العقيدة؟! كما أن عبارة "الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" والتي وردت في المذكرات لم تظهر إلا لاحقاً بعد قرن كامل. وأنا على يقين أن مثل فيصل القاسم يعرف أن هذه المذكرات مزورة، فهذا ليس بذلك السر العظيم، بل يعرفه كل مطلع. النقد مطلوب، ولكن بالإنصاف والأمانة وإلا فلم نتعلم من أخطاء الوهابية.