هيكل.. بين الفكر والتسويق السياسي
الإثنين، 23 أبريل 2018 05:46 م
لا أدعي معرفة الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل أكثر من القارئ فيما قال أو كتب، فهو أحد أهم الصحفيين العرب في النصف الثاني من القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين؛ تحلل من سطوة المحيط بنمط فكري مختلف زادت به المسافة بين وعيه والوعي الجمعي، فأصبح له مدرسة فكرية سياسية متفردة مستقلة في تفسير الواقع السياسي والحكم عليه، لم يكن هيكل عقلية اعتذارية تتبنى أعذارا للواقع؛ برز ذلك في قوله «التاريخ ليس مؤامرة بل توجد مؤامرة في التاريخ»، وصفه الدكتور مصطفى الفقي بأنه عرّاب التجربة الناصرية- وكان على حق في ذلك- فهو أكبر منظّري مشروعها الفكري والسياسي، حيث كتب فلسفة الثورة واؤتمن على فكر عبد الناصر، أيد فكرة الدولة القومية، وارتاب من مفهوم الدولة الدينية، اعتبر وصول الإخوان للحكم كارثة رغم عدم اعتراضه على حقهم في المشاركة السياسة، تجسد ذلك في معارضته للسياسة الأمريكية بتكوين حلف إسلامي يضم مصر وتركيا وباكستان ليكون حائط صد ضد الامتداد السوفيتي «الشيوعية»، نظر إليه التيار اليساري الراديكالي بأنه رجل إصلاحي تحالف مع البرجوازية الناصرية، ومن منظور بعض الليبراليين هو أحد أعداء الديمقراطية حين دعم حل الأحزاب السياسية.
أكثر ما يلفت النظر ما قاله عنه «أنتوني نتنج» وزير الدولة للشئون الخارجية البريطانية الموقع على اتفاقية جلاء القوات البريطانية عام 1954 حين قال إن علاقة عبد الناصر وهيكل هي علاقة بين صحافي يعرف شيئًا ومشروع رجل دولة مقبل على شيء، ويبدو أن اللقاء بينهما قبل ثورة 23 يوليو أحدث أثرًا.
وفي حوار «نتنج» مع هيئة الإذاعة البريطانية قال أيضا عندما كان هيكل قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه، وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه.. والملاحظ في عبارتي نتنج أن ما يميز هيكل هو المعرفة والفكر وهذا ما شكّل إدراكه العميق الذي مكّنه من النفاذ إلى قلب الحوادث وليس سطحها فكان دائما لديه ما يقدمه بإلمامه بما يجري وبمعرفته بالإطار الحاكم للصورة السياسية ككل، والأهم أنه لم يتنازل عن رؤيته فيما كان يجري وهنا تتجلى قيمة الفارق بين المفكر الصحفي ومسوّق السياسات وبرغم العلاقة التي ربطت عبد الناصر بهيكل لما يزيد عن 17 سنة إلا أن هيكل فيما يبدو كان يضع دائما الحدود الفاصلة بين كونه صحافيا وكونه شيئا آخر.. ولما طلب منه عبد الناصر أن يعد تقريرا سريا أثناء وجوده في أمريكا لتغطية الانتخابات الأمريكية عام 1952 (أيزنهاور – ستيفنسون) رفض هيكل رغم أنه فيما بعد كان كاتبا لخطب عبد الناصر ومعظم مراسلاته الخارجية إلى رؤساء العالم لكنه كان يعرف الفرق بين قيام الصحفي بخدمة عامة وبين ما لا يستطيع القيام به.
كلّفه الرئيس السادات برئاسة لجنة تخليد عبد الناصر عارضه وكتب مقاله المشهور «عبد الناصر ليس أسطورة»، فأحيل للتحقيق أمام اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وكان رأيه أن عبد الناصر تجربة إنسانية مهمة ويجب أن تظل هكذا، وتساءل «كيف نتحاور مع التجربة وقد حولناها إلى تمثال؟» فكل رجل ينبغي أن يترك ودوره وأن يكون الحكم للتاريخ والظروف وللأجيال القادمة حتى تستطيع أن تحكم بنوع من التجرد وبنوع من البعد عن الهوى.
يختلف الكثير من المفكرين السياسيين مع الأستاذ- هيكلـ كما كان يحب أن يوصف لكنه تفرد بأسلوبه الخاص في تفسير الواقع السياسي بالبحث عن الأسباب والغوص وراء الجذور والربط بين الظواهر في واقع معقد متشابك التفاصيل كوّن به صورة سياسية شاملة، كان له طموحات وتصورات وأحلام وإشارات واضحة وأخرى غامضة يلقيها بين ثنايا السطور في كتاباته تشير في غير لبس إلي أنه كان صحافي صاحب رأي ورؤية وموقف لا مسوّق سياسات وهي قاعدة مهنية من طراز فريد.