عبدالحليم حافظ
جناية العندليب على الحب العربى
الأحد، 25 مارس 2018 07:00 صحمدى عبدالرحيم
أغنية مثل«فوق الشوك» تكاد تكون البيان الرسمى لعاطفية عبدالحليم فما هى رسالتها ؟
عبدالحليم حافظ (21 يونيو 1929 - 30 مارس 1977) لم يكن مجرد مطرب صاحب صوت غاية فى الحساسية، تلك الحساسية التى مكنته من التجاوب مع أدق النغمات وأشدها رهافة، الأصوات الحساسة كانت كثيرة وكذا الأصوات القادرة الجبارة، ولكن عبدالحليم ارتقى فوق الجميع ليحفر اسمه فى سجلات هؤلاء الذين يقامون كل عوامل التعرية فلا يلحق بهم الصدأ ولا ينالهم شيء من غبار الغياب.
الآن وبعد مرور واحد وأربعين عامًا على رحيل عبدالحليم يجوز لنا تأمل نواقص تلك الظاهرة العصية على النسيان والتى لا تزال لها سطوتها وهيمنتها.
عندما قرر عبدالحليم الاحتراف فى مطلع الخمسينيات كانت الأغنية العربية المنطلقة من مصر قد شهدت ميلادها الحديث على يد رائدها ومهندسها الشيخ سيد درويش، مدرسة درويش قدمت تنوعات مختلفة ضمت أسماء مثل الشيخ زكريا أحمد والقصبجى ومحمود الشريف وعبدالوهاب وأم كلثوم، وأحمد رامى وبيرم التونسى وبديع خيرى وهؤلاء جميعًا قدموا كل فى مجاله ما أثرى الأغنية العربية المنطلقة من مصر وجعلوا لها خصائص تميزها عن غيرها من الأغنيات.
عندما جاء عبدالحليم كان أمامه حاجزان هائلان، كان لا بد له من تجاوزهما إن أراد لنفسه مكانة متميزة.
عبدالوهاب وأم كلثوم، إنهما اختبار الحديد والنار.
عبدالوهاب ولد مغنيًا ثم منعه شوقى بك خوفًا على صوته من السهر، ثم قبل ميلاد عبدالحليم بخمس سنوات عاد أمير الشعراء شوقى بك ليعلن تبنيه لعبدالوهاب.
يقول العارفون بسيرة عبدالوهاب : إنه فى عام 1924 أُقيم حفل بأحد كازينوهات الإسكندرية أحياه عبدالوهاب وحضره رجال الدولة والعديد من المشاهير منهم أحمد شوقى الذى طلب لقاء عبدالوهاب بعد انتهاء الحفل، ولم ينس عبدالوهاب ما فعله به شوقى بمنعه من الغناء وهو صغير وذكّر شوقى بذلك الذى أكد له أنه فعل ذلك خوفًا على صحته وهو طفل، ومنذ تلك المقابلة تبناه أحمد شوقى، وتعتبر السبع سنوات التى قضاها عبدالوهاب مع أحمد شوقى من أهم مراحل حياته حيث اعتبر شوقى مثله الأعلى والأب الروحى له الذى علمه الكثير من الأشياء فكان أحمد شوقى يتدخل فى تفاصيل حياة عبدالوهاب وعلمه طريقة الكلام وكيفية الأكل والشراب وأحضر له مدرسا لتعليمه اللغة الفرنسية، وبدأ نجم محمد عبدالوهاب يبزغ حيث قدمه أحمد شوقى فى كل الحفلات التى كان يذهب إليها وقدمه إلى رجال الصحافة مثل طه حسين وعباس محمود العقاد والمازنى وكذلك رجال السياسة مثل أحمد ماهر باشا وسعد زغلول ومحمود فهمى النقراشى.
نحن أمام حالة تبنى من الوزن الثقيل، شاعر كبير ثرى شهير صاحب ذائقة يهندس مستقبل صوت قادم من حوارى القاهرة القديمة، ذلك التبنى وإن كان أفاد عبدالوهاب فائدة كبرى إلا أنها قلم أظافر جنوحه الغنائى، تبنى شوقى لعبدالوهاب قطع الحبل السرى الذى ربطه برائد المدرسة سيد درويش فأصبحت هناك فوارق واضحة جدًا بين موسيقار الصنايعية ومقاومة الاحتلال بين مطرب الملوك والأمراء.
درويش صنع ما يجرح ويجعل الدماء تسيل، لقد ترك على القلوب ما له أثر الوشم، أما عبدالوهاب فقد صنع مهرجانًا من الورد والزهور.
مع عبدالوهاب كانت هناك أم كلثوم التى يقول موقع ويكيبيديا عن بداياتها : لقد أصبحت مطربة قاهرية بداية من العام 1921 (أى قبل ميلاد عبدالحليم بثمانى سنوات كاملة) وكانت تغنى فى مسرح البوسفور فى ميدان رمسيس بدون فرقة موسيقية، وغنت على مسرح حديقة الأزبكية واشتهرت بقصيدة وحقك أنت المنى والطلب، وتعد هذه أول أسطوانة لها صدرت فى منتصف العشرينيات وبيع منها ثماني عشرة ألف أسطوانة وتعلمت أم كلثوم لاحقًا من أمين المهدى أصول الموسيقى، وكذلك تعلمت عزف العود على يدى أمين المهدى ومحمود رحمى ومحمد القصبحي
فى عام 1923 غنت فى حفلات كبار القوم، كما غنت فى حفل حضره كبار مطربات عصرها وعلى رأسهم منيرة المهدية شخصيًا والتى كانت تلقب بسلطانة الطرب، والتقت فى نفس العام بالموسيقار محمد عبدالوهاب لأول مرة.
فى عام 1924 تعرفت على أحمد رامى عن طريق أبو العلا محمد، فى إحدى الحفلات التى أدت أم كلثوم فيها أغنية الصب تفضحه عيونه كان أحمد رامى حاضرًا بعد أن عاد من أوروبا، فأدرك أنه قد وجد هدفه.
ما سبق يؤكد أن عبدالحليم عندما ظهر كانت الطرق معبدة وممهدة أمامه لينطلق، لقد جاء بعد اكتمال تجربة سيد درويش وبعد رسوخ ظاهرتى عبدالوهاب وأم كلثوم.
عبء البدايات والتأسيس تكفل به غيره، كان أمامه هو عبء التطوير والتحديث والذهاب إلى أرض لم تطأها قدما العملاقين أم كلثوم وبعد الوهاب، فهل فعل ؟
إن مشكلة الغناء العربى كله، المصرى منه بصفة خاصة، هى الحب !
الحب أعنى به حب المرأة للرجل أو حب الرجل للمرأة يمثل القوام الرئيسى للغناء المصرى ومحور ارتكازه، وكأن كل الكون ليس به إلا تلك القضية.
الحب الوهابى والكلثومى عجيب جدًا، وهنا أذهب إلى قريحة الأستاذة صافى ناز كاظم التى كتبت : «تأملوا معى المعانى التى تغنى بها كبار مطربينا، وعلى رأسهم أم كلثوم وعبدالوهاب، تأملوا معى أغنية تدور مدلولاتها حول : «لى لذة فى ذلتى وخضوعي/ وأحب بين يديك سفك دموعى»، وكانت من أشهر أغنيات أم كلثوم فى مطلع القرن العشرين، وتابعوا القائمة الطويلة والتراث المتراكم من أغنيات وأشعار الحب المتسول الخانع الذى يرفع شعار غناه عبدالوهاب : «أحبه مهما أشوف منه ومهما الناس قالت عنه.. بيظلم فىّ وبحبه وده قاسى علىّ وبحبه.. آه.. آه.. آه.. أنا أحبه». وحين يخطر ببال مشمئز من هذا الانسحاق أن يقول: «حبك برص»، يطلع من يعود بعبدالوهاب يرد مؤكدا : «مولاى وروحى فى يده/ قد ضيعها سلمت يده.. »، وتزاحمه من تقول : «يا لايمين فى الهوى حوشوا الملام عنى».
ولأن أم كلثوم هى قمة الغناء والطرب، فقد يجوز لنا أن نحملها مسئولية إشاعة مرض حب الطغاة، فلقد أبدعت، من بدايتها إلى نهايتها هى ومؤلفوها وملحنوها فى تزكية ذلك الاتجاه المؤدى إلى الابتلاء بحب الظالم، المفترى، الوغد، الذى يمسح بالمغرمين البلاط ويعصرهم ويرميهم فى الجردل، ثم يسعف بهم السقف – بصفتهم رأس عبد– ويملأهم بالعناكب ومع ذلك يغنون خلفها بتناحة : «صعبان على أقول لك كان والحب زى ما كان وأكتر/ وأفكرك بليالى زمان وأوصف فى جنتها وأصور.. أيام ما كنا احنا الاتنين : إنت ظالمنى وأنا رااااااااضي! وحين يحاول أحدهم أن يستعين بعبدالوهاب : «أوعى يا قلبى تكون حنيت للى شكيت منه وبكيت.. »، تأتى أم كلثوم بالحجة :».. إنت العذاب والضنى والعمر إيه غير دول؟»، ويستسلم القطيع لمصاص الدماء النموذج فى أغنية : «يا للى كان يشجيك أنينى.. كل ما اشكى لك أسايا»، ومع هذه الاستكانة المروعة، لهذا الذى يشجيه الأنين، تصهلل أم كلثوم : «عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك.. »، ومعها جماهير السرادقات الذين وقعوا فى براثن حب القتلة والسفاحين يواصلون التلذذ بجعير غليظ تبثه الفضائيات : «كان منايا يطول حنينى.. للبكا وإنت معاى».
عبدالحليم بحساسية صوته الخرافية وبنحول عوده وشحوب وجهه وبساطة تكوينه ( وتلك مؤهلات تقليدية للعشاق ) سقط فى الفخ ذاته، الفخ الوهابى الكلثومى، حيث الحب أولًا والحب عاشرًا ثم تأتى باقى أعراض الشعر والغناء.
كان عبدالحليم وقد جنبته ظروف ميلاده مواجهة أعباء التمهيد والبناء مؤهلًا لمواصلة طريقة وطريق الشيخ سيد، الذى غنى لكل شىء وأصاب بكل سهم رماه، ثم بدأ طريق رعاية مشاعر المهمشين والساقطين من قعر قفة المجتمع، هل تغزل أحد فى أم إسماعيل قبل الشيخ سيد ؟
حب عبدالحليم لم يكن حب أيام زمانه، فزمن عبدالحليم كان زمن ثورة العرب الكبرى يوليو 1952 حيث بادت أساطير وسادت أسطوات.
عبدالحليم غنى من منطقة وطبقة ابن الشريحة العليا فى الطبقة المتوسطة، وهو اجتماعيًا لم يكن كذلك، وغنى لبنات تلك الطبقة، واستعان بكلمات مرسى جميل عزيز وإسماعيل الحبروك وحسين السيد، نعم جاء باللحن الجديد الوثاب من خلال الطويل والموجى وبليغ، ولكن ماذا تفعل الألحان مع خيال محمد حمزة ؟
ما كان لعبدالوهاب أن يستعين ببديع خيرى ولو هبطت السماء على الأرض، وهو وأم كلثوم عندما لجآ إلى بيرم التونسى صباه فى قالبيهما إلا فى القليل النادر من مرات تعاونهما معه، هما أراد الحب الذليل الباكى الخاضع الخانع فكان لهما ما أراداه.
عبدالحليم أراد حبًا جديدًا ولكنه خاف من نسف الصورة الذهنية فلم يلجأ إلى فؤاد حداد بل لم يلجأ إلى صلاح جاهين، حيث الحب عندهما كان مغايرا لما كان قبلهما.
عن بداياته الأولى من العام 1951 وإلى العام 1955 يكتب متابعو سيرته: نلاحظ فى هذه الفترة أن عددا كبيرا من أغانيه كانت تحوى نبرة من التفاؤل مثل: «ذلك عيد الندى»، «أقبل الصباح»، «مركب الأحلام»، «فى سكون الليل»، «فرحتنا يا هنانا»، «العيون بتناجيك»، «غنى.. غنى»، «الليل أنوار وسمر»، «نسيم الفجرية»، «ريح دمعك»، «اصحى وقوم»، «الدنيا كلها».
كما تتحدث بعض هذه الأغانى عن الطبيعة الجميلة، مثل: «الأصيل الذهبى»، «هل الربيع»، «الأصيل»، كما تتناول بعض الأغانى العاطفية ذكر الطبيعة الجميلة فى إطار عشق الإنسان لكل ما هو جميل مثل «ربما»، «فى سكون الليل»، «القرنفل»، «حبيبى ف عنيه»، «صحبة الورد»، «ربيع شاعر»، «الجدول»، «أنت إلهام جديد» «هنا روض غرامنا»، «فات الربيع».
لم يواصل عبدالحليم هذا الشوط لمنتهاه إن كان للغناء وللمشاعر منتهى تبلغه، لقد عاد إلى المربع صفر، حيث القالب الكلثومى والوهابى وهو القالب الذى شرّحه وكشف عوراته بيرم التونسى عندما كتب : «يا أهل المغنى دماغنا وجعنا
دقيقه سكوت لله
دا حنا شبعنا كلام ماله معنى
ياليل وياعين ويااّه
طلعت موضة غصون وبلابل
شابط فيها حزين
شاكى وباكى وقال موش عارف
يشكى ويبكى لمين
واللى جابت له الداء والكافيه
طرشه ماهش سامعاه
يا أهل المغنى دماغنا وجعنا
دقيقه سكوت لله
ردى عليه ياطيور بينادى
وارمى له الجناجين
وأنت كمان يا بور الــــوادي
قل له رايح على فين
قل له إياك يرتاح يابابـــــوره
ويريحنــــــــــا معــــــاه
ياأهل المغنى دماغنا وجعنا
دقيقه سكــــــوت لله
كل جدع فرحان بشبابه
يقول فى عنيه دمـــوع
ياللى جلبتى شقاه وعذابه
حلّى لنــــا الموضــــوع
طالع نازل يلقى عـــــوازل
واقفــــــــه بتستنــــــاه
ياأهل المغنى دماغنا وجعنا
دقيقه سكوت لله
حافضين عشره اتناشر كلمة
نقل من الجـــــــــورنال
شوق وحنين وأمل وأمانــــــى
وصد وتيـــــــه ودلال
واللى اتعـــاد ينزاد ياخــــــــــوانا
وليل ونهــــــــار هـــوّاه
يا أهل المغنى دماغنا وجعنـــــــــــا
دقيقه ســكوت لله».
عبدالحليم هو ابن جيل أحمد فؤاد نجم، والحب عند نجم كان عفيًا قادرًا ومحرضًا على مطاولة النجوم لا السقوط فى بحر الدموع ومن فوق جسر التنهدات، لكن عبدالحليم لم يتعاون قط مع نجم ولا مع غيره من الشعراء الذين كان لديهم جديد طازج يقدمونه فى ذلك المجال، لقد صنع عبدالحليم أنثاه، أنثى معبودة لذاتها، ولكنها فى المحصلة النهاية تبدو مثل «غزل البنات» قليلها مثل كثيرها، لا تسمن ولا تغنى من جوع، أنثى تُقعد ولا تلهم.
إن أغنية مثل «فوق الشوك» تكاد تكون البيان الرسمى لعاطفية عبدالحليم فما هى رسالتها ؟.
«فوق الشوك مشانى زمانى قاللى تعال نروح للحب
بعد سنين قاللى ارجع تانى حاتعيش فيه مجروح القلب
اللى مشيته رجعت أمشيه واللى قاسيته رجعت أقاسيه
فوق الشوك قبل ما أشوف الحب وأقابله ياما خيالى
وطيفه تقابلوا واما عيونى لمحوا مكانه ورحت
وراه فاتنى ف نار وعذاب ومرار واحترت معاه
آه م الحب وم اللى رمانى وخدنى إليه
بعد النار والشوق إيه تانى راح أبكى عليه
راجع بعد الشوق ما ضنانى راجع راجع راجع تانى».
تلك كانت المعانى التى تناولتها أغنيات عبدالحليم مع تعديلات لا تمس جوهر الرسالة، رسالة الحب المريض، أو الحب المعقم الذى لا يتألق تحت وهج التجربة الإنسانية الملهمة بما فيها من تراب وغبار ولحظات فارقة.
الحب الذى هو ليس رواية شرقية بختامها يتزوَّجُ الأبطالُ «حسب شعر نزار قبانى»، لن تجده عند عبدالحليم الذى أقعده خوفه من أن يمضى بجواده بين البرارى البكر فيكون أول من يكشف كنوزها، ويهبها لمن يأتى بعده.
قفزة عبدالحليم كانت مع الأنثى الباقية، أعنى البلد، مصر، لقد غناها كما لم يغنها أحد قبله، متكئًا على صدق كلمات جاهين وواقعية كلمات الأبنودى، لم يضع أحد جراح البلد فى حق موضعها فى فترة يونيو 1967 كما فعل عبدالحليم، إن أغنية مثل «موال النهار» هى اختصار فذ لكل مفردات الكارثة، إنه ذلك الاختصار الذى يبشر بالفجر رغم ظلمة الليل ويدفع إلى الأمام وإلى النهوض من تحت الركام.
لو أنصف عبدالحليم لكان قد تخلص من عذاب الحب الوهابى ومذلة الحب الكلثومى، ولكنه فى لحظة القرار تراجع وواصل بناء أسوار حول قلعة ليست لنا، من يدخلها مفقود يا ولدى.
قلعة حب أو لعنة حب لخصها صديقه نزار عندما قال إن الحب
«هو هذه الكف التى تغتالنا
ونُقَبِّلُ الكَفَّ التى تَغْتالُ».
إن لم نكن مرضى بتعذيب الذات فكيف نقبل بتقبيل الكف التى تغتالنا؟
رحم الله عبدالحليم فقد اجتهد ليبقى، وما سطورى وسطور غيرى إلا ترجمة بسيطة لبقائه.