قصة منتصف الليل: عندما أصبحت الأم «يا طنط»
الثلاثاء، 20 مارس 2018 10:05 مإسراء الشرباصي
جلست "أميرة" تحاول أن تفتح عيناها المنتفختان من كثرة البكاء لتفتحهما نصف فتحة فتجد نفسها وحيدة، ويبدأ فى التلفاز الصغير الذى عفى عليه الزمن فيلم نحن لا نزرع الشوك، لتتساقط دموعها دون أن تدرى، وتمد بيدها اليسرى تمسح خديها لتفكر كيف تتصرف فيما حدث بها من زوجها وأطفالها الثلاثة، لتتذكر سنوات كفاحها من أجل أطفالها والتى اضطرت فيها أن تعمل ليلا نهارا بعد أن تركهم زوجها ونسى أمرهم.
بالتطريز تارة وبالخدمة فى المنازل تارة أخرى، كانت تجمع من الأموال ما يكفى لسد إحتياجات أولادها، ولم تستمع لآراء المحيطين الذين طالبوها بتقاضى زوجها لتجبره على الإنفاق على الأطفال، ولكنها رفضت اللجوء إلى المحكمة بأى صورة، فلم تطلب الطلاق أو الخلع ولا النفقة فكلما تفكر فيه هو ألا يراها أولادها تقف أمام القضاة لتشكو أبيهم رغم إهماله لهم لعدة سنوات.
ولكن الزوج لم يكتف بإهمال زوجته وأطفاله ليظهر بعد عدة سنوات يتواصل مع أطفاله بواسطة أحد أقاربهم، وبدأ يروى لهم قصص خيالية عن سبب إبتعاده عنهم طوال هذه السنوات مستغلا براءتهم فى إقناعهم، بل وأقنعهم أن والدتهم هى من طلبت الإبتعاد، واستطاع بكلمات معسولة وحواديت مزيفة أن يلوث صورة الأم المكافحة فى عيون أولادها، وطلب منهم أن يتركوها ليعيشوا معه وينعموا بأمواله فى منزله مع الزوجة الثانية التى تزوجها بعد فراقه لـ "أميرة".
وقف الأطفال أمام حديث والدهم حائرين ليتوجهوا إلى أمهم متسائلين عما رواه لهم أبيهم وعن الصورة التى وصفها لها، فعجزت الأم عن الرد واكتفت بسيل من الدموع لم تستطع إيقافه، فرفضت أن توضح الصورة الحقيقية لوالدهم وأنانيته وتركه لهم لسنوات خوفا من التأثير النفسي عليهم والتزمت الصمت ببكاء مكتوم، لتوحبست الحقيقة فى صدرها الذى كاد ينفجر من شدة الألم.
وفى صباح اليوم التالى توجهت إلى عملها ساعية خلف رزق أولادها، وبعد يوم عمل شاق دخلت المنزل وبدأت تنادى على الاولاد ولم يجيب عليها أحد فأسرعت إلى الهاتف لتسأل عنهم هنا وهناك، ليخبرها الجيران بأن والدهم جاء ظهر اليوم وأخذ الأولاد وذهب دون أن يخبر أحد إلى أين هم ذاهبون.
لجأت إلى أقاربها الذين كانوا الوسيط بين الأب وأولادها، لتحصل على رقم هاتفه، وعندما حدثته أكد لها أن الأولاد سيعيشون معه وينعمون بأموال زوجته الثانية التى عانت من أجل الإنجاب وفشلت كل محاولاتها، لتربيهم فى منزلها، وطمأنها بأن زوجته ستكون أم ثانية لهم، وفى الوقت الذى تريد فيه رؤيتهم ما عليها إلا أن تتصل به هاتفيا ليرسب لها سيارته الخاصة وتجلس مع أولادها وسط ترحيب الزوجة الثانية لها.
وهى الكلمات التى عجزت "أميرة" عن الرد عليها، فكل ما تريده هو أن يتربى أولادها ويعيشا فى أحسن حال، ولكنها لم تتوقع أنها كتب عليها أن الحياة التى حلمت بها لأولادها تأخذهم بعيدا عن حضنها وتعيش بمفردها، ولم ترد سوى بدموع آلامها ولسانها يعجز عن التعبير بما فى قلبها من حسرة مكبوتة.
وبعد عدة أيام هاتفت زوجها وطلبت أن ترى أولادها لتطمئن عليهم فأرسل لها سيارته بسائقه الخاص وذهبت إلى منزلهم الأشبه بالقصر المليئ بالخدم ليستقبلها زوجها بعد كل هذه السنوات ممسكا سيجارته فى يده اليمنى والتى منعته عن السلام عليها باليد واكتفى بهز الرأس "أهلا".
لتسمع صوت خطوات أرجل صغيرة تقترب فالتفتت لتجد أبناءها بصحبة ضرتها فأسرعت إليهم بشغف وجذبتهم إلى حضنها ولم تستطيع السيطرة على دموعها التى بللت ملابسهم، إلى أن شدها طفلها الأصغر لتصعد معه إلى غرفته لترى ألعابه التى اشتراها له والده وأثناء ذلك رن فى أذناها نداؤه لها "يلا يا طنط أميرة بسرعة تعالى أوريكى اللعب".
انتفض قلبها من المفاجأة ورفعت رأسها إلى أعلى لتنظر فى أعين زوجها فلم تجد فيهما تفسيرا لما سمعته، وأخذت تهمهم مستنكرة "طنط!!!"، فكرر طفلها طلبه لها بالذهاب معه إلى الغرفة إلا أن أعضاءها عجزت عن الحركة، فتوجه الطفل إلى زوجة أبيه قائلا لها "ماما هى ليه طنط مش بترد عليا؟!".
"أنا طنط وهى ماما..إزاى.. حد يرد عليا" بهذه الكلمات بدأت "أميرة" تخرج ما بداخلها من غضب، وهى الكلمات التى جعلت الزوجة الثانية تأمر الأطفال بالذهاب إلى غرفهم فيلبوا طلبها قائلين "حاضر ياماما"، أخذت "أميرة" تلتفت يمينا ويسارا فلم تجد من يرد على استفسارها لتصفع نفسها على وجهها متمنية من الله أن يوقظها من هذا الكابوس إلا أنها لم توقظ فهى حقيقة لم يستطيع عقلها أن يصدقها.
خرجت "أميرة" من القصر بخطوات بطيئة وهى تتحدث مع نفسها بصوت مسموع مرددة "طنط !! أنا طنط وهى ماما"، ولم يسارع الزوج للحديث معها بل تركها تذهب دون حوار فعادت إلى منزلها وهى لا تكف عن البكاء.
استرجعت "أميرة" قصتها مع زوجها وأولادها وكأنها فيلم هندى مرت أحداثه أمام أعينها لتقرر فى النهاية أن تكف عن العجز وتتوجه للمطالبة بحقها فى أولادها ونفقتهم وتطلب الخلع أيضا لتكون محكمة الأسرة ملجأها الوحيد.