ما هي مشكلتنا مع الترحم على أموات غير المسلمين؟

غادرنا قبل أيام قليلة أحد عباقرة العلم وهو عالم الفيزياء المعروف ستيفن هوكنغ. ربما لم تكن صدفة أن ستيفن هوكنغ ولد في الذكرى ال300  لرحيل الفلكي الإيطالي المعروف جاليليو جاليلي و توفى يوم الرابع عشر من شهر مارس وهو تاريخ ولادة العبقري الآخر ألبرت آينشتاين. 

 

لم يتميز هوكنغ بأبحاثه في مجال علوم الفيزياء والفلك فحسب، حيث نستطيع اليوم فهم عالمنا وفهم الزمان والمكان والانفجار الكبير والثقوب السوداء وغيرها بشكل لم نكن لنفهمها عليه لولا جهود هوكنغ المبدعة، بل تميز هوكنغ أيضاً بمواقفه الإنسانية العظيمة، حيث اعتبر مثلاً غزو العراق عام ٢٠٠٣ جريمة حرب ودعم مقاطعة الأكاديميين لإسرائيل، كما ناصر الحملات المطالبة بنزع الأسلحة النووية ودعم تطبيق نظام رعاية صحية شاملة يكفل الحماية الاجتماعية لجميع المواطنين الخ. كثيراً ما حذّر هوكنغ من التلوث البيئي وأبدى في أكثر من مناسبة قلقه الشديد على مستقبل الكرة الأرضية. هناك أمثلة كثيرة لإنسانية هوكنغ لا يتسع المجال لذكرها جميعها.     

 

لفت نظري في الأيام الماضية كثير من النقاشات في منتديات التواصل الاجتماعي الإلكترونية حين ترحم بعض المسلمين على روح ستيفن هوكنغ، فاعترض آخرون على الترحم عليه بدعوى أنه لم يكن مسلماً ولا حتى مؤمناً بوجود الله. 

لا أريد أن أدخل هنا في نقاش فقهي في جواز الترحم على غير المسلم من عدمه، فكما أشرت أكثر من مرة فإن مدخلي لفهم دين الإسلام هو ليس المدخل الفقهي الذي يسأل عن حلّ أو حرمة تصرفٍ ما بالمعنى الفقهي، بل مدخلي لفهم الإسلام هو مدخل إنساني يسأل عن تحقيق إنسانية الإنسان كطريق للوصول إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا هو جوهر الدين كما قال رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". والقرآن الكريم صور لنا صورة الله على أنه إله كامل في ذاته لم يفرض علينا عبادته لحاجته لها، لذلك أكّدَت الآيات التي ذكرت فرض العبادة لله على أن الله ليس بحاجة لهذه العبادة بل هو الانسان الذي يحتاجها كي يرتقي على سلّم الكمال، فحين قال سبحانه وتعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، أكّد في الآية التالية: "ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين". والصلاة كعبادة فُرضت كي تنهى عن الفحشاء والمنكر وهكذا سائر العبادات، فُرضت لكمال الإنسان الروحي والأخلاقي ولتعميق علاقته بربه. فالدين جاء لتكميل وتجميل إنسانية الإنسان. 

 

أعود إلى موضوع الترحم على من مات وهو غير مسلم كستيفن هوكنغ وأتساءل من ناحية إنسانية: أليس من كمال الأخلاق، بل من أساسياتها أن نشكر لمن أسدى لنا معروفاً؟ أليس تمني الخير لمن مد لنا أيادي الخير خلقٌ إنساني؟ أليس في تمنينا الرحمة لمن رحمنا وقدم لعالمنا أوجهاً كثيرة من الإنسانية شهادة على رحمة قلوبنا؟ أليس في تجلّي الرحمة في قلوبنا شهادة على إيماننا بربٍ رحيم؟

كيف يُمكنني أن أقنع زميلي غير المسلم بأن ديني هو دين مكارم الأخلاق ودين الرحمة، حين ترتفع الأيادي للسماء سائلة الله الرحمة لأمثال آينشتاين وهوكنغ لما لهم على الإنسانية من فضل، أما أيادي المسلمين فتبقى بخيلة وترفض الاعتراف بالجميل ورده بالترحم على هؤلاء، فكأن قلوبنا تلعنهم ولا تتمنى لهم السعادة في الآخرة؟

لكن لماذا كل هذه القسوة باسم الإسلام؟ سيَرُدُّ من يرُد مستعيناً بهذه أو تلك الآية من القرآن أو بقول هذا أو ذلك المُفتي ليقول لنا أن الإسلام يُحرم علينا طلب الرحمة لغير المسلمين. لكن هذه الآيات فيها نظر وفيها أقوال عديدة للمفسرين قديماً وحديثاً، ليس هنا مكان مناقشة هذه الحجج جميعها، بل يؤسفني أن يصر البعض على الانتصار لحجج تُظهر المسلم على أنه نفعي لا يعرف للاعتراف بالجميل طريقاً، يستغل ما يقدمه الآخر من أبحاث واكتشافات وتكنولوجيا وعلوم وطب وتقنيات ثم لا يجد مشكلة مع ضميره في أن يبخل على هذا الآخر بالدعاء له بالرحمة. يتوافد علينا مثلاً هنا في ألمانيا عشرات الآلاف من المسلمين سنوياً من سياسيين ورجال دين ورجال أعمال وغيرهم طلباً للعلاج وذلك لتفوق الطب في ألمانيا. فكيف يطاوعني ضميري كمسلم أن أبخل على هذا الطبيب الذي تعب من أجلي وعافاني الله على يديه، بأن أدعو له بالخير والرحمة في الدنيا وفي الآخرة دون الالتفات إلى دينه أو معتقده؟ أليس شكر الله يتحقق بشكر عباده؟ يستحيل أن يكون ديننا معارضاً لأبسط قيم الإنسانية، كما لا يجوز في حق المولى عز وجل أن نصوره على أنه إله غير عادل.  

كما قلت لا أريد أن أناقش هذه القضية من وجهة نظر فقهية، لكن أريد أن أشير إشارة عاجلة إلى ضرورة التأني قبل تحميل القرآن تهمة اللاإنسانية كما يتهمه بذلك نقّاد الإسلام. 

أحد المعادين للإسلام نشر على صفحات التواصل الاجتماعي آيات من القرآن يحتج بها كما يدعي على أن الإسلام دين كراهية وأن إله الإنسان يدعو المسلمين لكراهية غيرهم ويُحَرِّم عليهم الدعاء لهم بالرحمة وحجته الرئيسية هي الآية ١١٣ من سورة التوبة: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم من أصحاب الجحيم". من المعروف أن القرآن يستخدم لفظ المشركين لا ليصف به اليهود والنصارى بل غالباً كوصفٍ لمشركي مكة الذين عادوا رسول الله وحاربوه، أما إسقاط لفظة المشرك والشرك كما استخدمها القرآن في سياق معين على كل من هو غير مسلم اليوم فهذا قول جُزاف وغير مُبَرَّر، وهذا ينطبق على آيات أخرى ورد فيها الحديث عن الشرك والمشركين، فيجب وضعها وفهمها في سياقاتها كي لا نُقوِّل القرآن ما لم يقل. كما أن الآية تنهى عن الاستغفار للمشركين إن تبين للنبي وللمؤمنين أنهم من أصحاب الجحيم. قد يكون تبين لهم ذلك والرسول بينهم يُوحَى إليه، أما نحن اليوم، فمن منا قد تبين له أن ستيفن هوكنغ مثلاً من أصحاب الجحيم؟ لا أظن أن فينا من يتجرؤ على الله ويدَّعي أنه قد تبين له من هو من أصحاب الجحيم، والله عز وجل يقول في كتابه العزيز: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد". وإن قلت لي أن هوكنغ نفسه اعترف بعدم إيمانه بوجود الله، فسأسألك هل نعرف أنا وأنت ما هي صورة الله التي انطلق منها ستيفن هوكنغ وآخرون كثيرون لا يؤمنون بالله حين رفضوها؟ هل نعرف أنا وأنت إن كانت صورة الله التي يرفضها هذا أو ذلك غير المؤمن هي فعلاً صورة الله الحق أم أنها صورة مشوهة عن الله رفضها من رفضها عن حق؟ من أين لنا أن نعرف ذلك؟ ثم قل لي بصراحة: من أين لي ولَك، نحن الذين ندعي الإيمان بالله، أن نعرف أننا نؤمن بالله الواحد الحق؟ هل لمجرد نطقنا بهذه العبارات الجميلة؟ وهل كل من قال لزوجته "أحبك" قد أحبها حقاً؟ ولله المثل الأعلى. مهما حاولنا ومهما بلغنا فلن نستطيع أن نحكم إلا على ما يظهر لنا من إنسانية من أمامنا، أما الحَكَم الحق فهو الله سبحانه وتعالى. 

 

وإذا كان مدى كمال إنسانية الفرد منا معيارًا لإيمانه، فكيف تدّعي الإنسانية يا من يصر على الاستحواذ على رحمة الله ومنعها عن أولئك الذين تسببوا في إسعادك وفي فهمنا لعالمنا الذي ما كنّا لنفهمه لولا جهود عباقرة من أمثال آينشتاين وهوكنغ وغيرهم؟ لقد صدق الله حين قال: "قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً"، "أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب". 

 

المسألة ليست مسألة فتوى أو قول فقهي أو تفسير لآية من القرآن، بل المسألة تتعلق بالضمير الإسلامي. أقف تكريماً لكل من نبض فيه ضمير الإنسان وترحم على كل ميت صالح قدم للإنسانية ولو مجرد ابتسامة أسعدت قلوبنا مهما كان دينه أو مذهبه. أقف لهؤلاء تكريماً لأنهم كرموا الإنسان لما هو إنسان. وأنحني تكريماً لأولئك الذين غلب ضميرهم الإنساني فتاوى تقود لنزع الإنسانية عنا، فهنيئاً لكل شجاع عمل بقول خير البشر عليه السلام:"استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك". 

الإسلام دين الإنسانية ودين الألفة والمحبة والتراحم بين بني البشر. الإسلام دين الضمائر الحية والتي لن نقبل بإخمادها باسم التعصب والكراهية. 

فرحم الله كل من مات إنساناً محباً للإنسانية، ورحم الله كل من أثرى الإنسانية بعلمه أو بخلقه أو بابتسامته أو بوجوده، ورحم الله كل من تمنى الرحمة لأخيه الإنسان، ورحم الله كل من أحسن بالله ظناً سبحانه الذي وسعت رحمته كل شيء.