قصة منتصف الليل.. الأب الضائع

الإثنين، 12 مارس 2018 11:00 م
قصة منتصف الليل.. الأب الضائع
قصة منتصف الليل
إسراء الشرباصى

 
هذه القصة واقعية وحدثت فى أروقة محكمة الاسرة واى تشابه بينها وبين الواقع ليس من قبيل الصدفة.
فى حضانة مكتظة بالأطفال لم تتعدى أعمارهم 4 سنوات يلعبون تحت أعين المشرفات، وكانت تجلس "أمل" تشاهد زملاءها وتستمع إلى رواياتهم ولعل كان ما يلفت إنتباهها الروايات المذكور فيها كلمة "بابا" فدائما ما تسمع زملاءها يتجملون برواية "بابا جابلى"، لتقف أمام هذه الكلمة التى أثارت بداخلها الكثير من التساؤلات ولم تجد إجابة بداخلها.
 
حاولت أن تبحث عن الإجابة لدى والدتها التى التزمت الصمت فلم يكن لديها إجابة عن كلمة "بابا" التى تسمعها ابنتها دائما، ولم تستطيع إخبارها عن العنصر المفقود فى العائلة وسبب فقدانه، ومع الوقت تفهمت "أمل" أن كلمة بابا تطلق على الرجل الذى يتولى أمر الأسرة، كما حاولت أن تعرف من صاحب لقب "بابا" فى أسرتها الصغيرة التى لا ترى منها سوى أمها وشقيقها الأكبر والخال والجدة، وفى ذات يوم قررت بداخلها أن تنادى على خالها وتلقبه "بابا" لتشعر بالتساوى بينها وبين زملاءها.
 
ودخلت على خالها الغرفة وقالت بصوت متقطع "بابا انت هاتتنزل امتى؟"، فلم يدرك الخال فى الوهلة الأولى أنها تناديه فهو ليس متزوج ولكنه الرجل الوحيد الذى تشاهده "أمل" يعتنى بها، فوقف صامتا أمام سؤالها، فأعادت عليه السؤال مكررة لقب "بابا"، فلم يجد الخال ردا عليها فالكلمة وقعت على مسامعه كالصاعقة، ولم ترى منه سوى دموع مكبوتة، لمعت عيناه بدموعه التى رفضت الظهور أمام ابنة أخته التى لا تعرف والدها، إلا أن صمته جعل السؤال الذى يدو فى عقل الطفلة يكبر أكثر وتهتم بمعرفة إجابته وهو "مين بابا؟ كل الناس عندهم بابا فين أبويا أنا؟"، فتوجهت لسؤال والدتها للمرة الثانية ولم تجد منها رد سوى "بابا مش موجود" ولم تيد الإفصاح عن مكانه.
 
قررت "أمل" ألا تختلط بزملاءها خوفا من أن يسألوها هذا السؤال وحاولت أن تنسى الأمر ولو لحين، إلا أن جاء اليوم الذى نادت على إسمها المشرفة بالحضانة وتقول لها "باباكى برا عايزك"، انبهرت الفتاة بالكلمة واتجهت إلى الباب بخطوات متفرقة فتارة تسرع وأخرى تبطئ فهى لا تستوعب أن الرجل الذى تبث عنه حضر ليراها.
 
وفور خروجها وجدت رجل يفتح ذاعيها منتظرا أن يضمها إلى صدره، ولكن الصدمة جعلتها تسرع باكية فى إتجاه المشرفة ورفضت أن تنظر له، ففى وقتها لا تعلم كيف تصرفت بهذا الشكل ولماذا هربت من رؤية الشخص الذى تبحث عنه، وأخذتها المشرفة وعادت بها إلى المنزل دون أن تنتظر موعد إنتهاء اليوم فى الحضانة لتذهب إلى والدتها وتخبرها عما حدث.
 
وهو الأمر الذى وقع على والدتها كالبركان، أخذت تصرخ ولم تعلم "أمل" سبب الصراخ، وفى نهاية اليوم اجتمع أفراد الأسرة ليناقشوا ما حدث مع الطفلة، وحاولت "أمل" أن تسمع ما يقولون ولكنها فشلت.
 
استمرت فى طرح سؤالها المعتاد، والذى لم تستطيع فى التفكير سوى به، إلا أن جاء اليوم الذى يقرر فيه الخال إبلاغ الفتاة بالحقيقة وهو أن والدها ترك أمها وهى فى الشهور الأولى من حملها، وأنه حاليا متزوج بأخرى ولديه أطفال، وهى الجلسة التى أفصحت فيها "أمل" بكل الأسئلة التى تراود ذهنها، لتعلم من الإجابات أن والدتها وأخيها عاشا سنوات قاسية مع أب لا يرى سوى نفسه، استطاع أن يتركهم فى بلد لا يعلموا بها أحد دون أموال لتضطر الأم العمل "خياطة" لجيرانها لتستطيع الإنفاق على طفلها وجمع نفقات رجوعها إلى مصر.
 
وعندما عادت علمت أنها حامل وظهر الأب بعد فترة ليخبر الجميع أنه كان فى رحلة عمل مفاجئة ولكن يشاء القدر أن تعلم الأم أنه تزوج بأخرى وعندما واجهته بالحقيقة تركها وهى تحمل فى رحمها ابنته وعلى ذراعها إبنه الأكبر وبعد عدة أشهر أرسل لها ورقة طلاقها على يد محضر.
 
فى هذا اليوم استمعت الطفلة من كافة أعضاء الأسرة كل ما حدث وهى الأقاويل التى كانت كفيلة أن تكره والدها إلا أنها لم تصدق هذا الحديث وطالبتهم برؤية والدها لتسمع منه، وهو ما ساعدها فيه خالها وبدأت رحلة البحث عنه لتجد فى النهاية رقم الهاتف الأرضى لمنزل عائلته واتصلت به واعتذرت له عن رد فعلها عندما جاء إليها فى الحضانة وطلبت منه أن تقابله فى أقرب وقت.
 
استمع لها الأب إلا أنه أخبرها بأنه سيغادر البلاد اليوم فى رحلة عمل وفور عودته للقاهرة سيتواصل معها لمقابلتها، وظلت الفتاة تنتظر لسنوات تنفيذ وعد والدها له وخلال هذه الفترة حاولت الأم إقناعها بأنه لم يفكر بها وأن مجيئه لمقابلتها فى الحضانة كان من باب تهديد الأم بأنه يستطيع الحصول على أولاده فى أى وقت إلا أن الفتاة لم تستمع لهذا الحديث.
 
وبعد مرور 4 أعوام، طلبت الفتاة أن تبحث عن والدها ربما أصابه مكروه منعه من تنفيذ وعده لتفاجئ أنه بمصر ولم يغادر البلاد مثلما أخبرها، فطلبت مقابلته ووعدها للمرة الثانية بأن يقابلها وانتظرته ولم يحضر.
 
حاولت الأم أن تعوض ابنتها بما تفتقده من مشاعر الأبوة فتزوجت بزميلها فى العمل والذى اهتم بصغيريها طوال فترة الخطبة واستطاع أن يمارس دور الأب الحنون خاصة لـ "أمل" والتى كانت تفتقد والدها بشدة على عكس شقيقها الذى ظل صامتا أمام التغيرات العائلية دون ان يتحدث بكلمة سواء بخير أو بشر على الأب الحقيقي.
 
وبعد زواج الأم بسنوات معدودة رزقت العائلة بفرد جديد وهى الطفلة التى وهبت للعائلة ولـ "أمل" لون جديد للحياة فاهتم الجميع بها ولم تشعر "أمل" بالغيرة تجاه أختها الصغيرة إلى أن كبرت الطفلة وبدأت تتعلم أن تنطق اسمها كاملا ليظهر الفرق بوضوح.
 
فهى تنطق اسم الأب مختلف عن الاسم الذى تحمله "أمل" وهو الأمر الذى كان يثير تساؤلات من يتعامل معهم فى العالم الخارجى سواء فى المدرسة أو وسط الجيران ليعود إلى "أمل" شعور الفقدان للأب مرة ثانية وتحاول أن تبحث عنه، فلجأت إلى خالها مرة أخرى وهو ما أوصلها به وتحدثت إلى والدها بالهاتف ويقدم عشرات الأعذار عن عدم قدرته لرؤيتها طوال السنوات الماضية ويكرر وعده بلقاءها، وهو ما انتظرته لسنوات أخرى.
 
وظلت "أمل" على أمل لقاء والدها لسنوات وتجنبت التعامل مع باقى أفراد أسرتها تدريجيا لتبقى وحيدة، فكانت تتألم كلما سمعت أختها تنطق اسمها مقترنا باسم الأب وهو ما كان يسيطر عليها شعور أنهما ليس أخوات.
 
ومع مرور السنوات أيقنت "أمل" أن والدها يتهرب من لقاءها فلقد دخلت المرحلة الثانوية من دراستها ومر أعوام كثيرة دون ينفذ وعده المتكرر بلقاءها، فقررت بداخلها ألا تبحث عنه مجددا وتستسلم للأمر الواقع وتتعايش مع زوج أمها وأخواتها كاظمة شعورها بالفرق بداخلها.
 
وبعد انتهاء مرحلة الثانوية العامة قررت "أمل" أن تلتحق بكلية الحقوق وعلى الرغم أنها كلية أدبية وهو عكس ما تعلمته فى مرحلة الثانوية من مواد علمية إلا أنها رفضت الإفصاح عن السبب، وهو أن تدرس القانون لتقاضى والدها يوما ما وتعاقبه عن إهماله لها طوال السنوات الماضية.
 
ولم تنتظر "أمل" أن تنهى دراستها لتخوض تجربة العمل كمحامية فالتحقت بمكتب أحد المحامين للتدريب وفى هذه الفترة تأكدت أن المحاكم ربما تعلق حقها لسنوات طويلة دون فائدة.
 
وحاولت "أمل" للمرة الثانية أن تعيش حياتها دون البحث عنه أو طريقة للانتقام منه، وبعد تخرجها بعدة سنوات تعرفت على شاب استطاع أن يعوضها عن فقدان والدها بعد علمه بما مرت به فى حياتها إلى أن يشاء القدر ويظهر من يحثها على البحث عن والدها.
 
فلم تكف حماتها عن إقناع "أمل" بالبحث عن والدها الذى لم تعرف عنه شئ وحاولت التهرب من هذا الطلب مرارا وتكرارا إلا أن حماتها أقنعتها بصلة الرحم وبعد محاولات مستميتة لإقناعها، فحاولت "أمل" أن تبحث عنه عن طريق مواقع التواصل الإجتماعى داعية بداخلها ألا تجده وأنها بهذه الخطوة تكون فعلت ما يرضى ضميرها ويرضى أيضا طلب حماتها، إلا أنها وجدته بسهولة بالغة لم تكن تتخيلها.
 
فوجدت حساب شخصى على "فيس بوك" يحمل اسم والدها مصطحبا بصورته، ولكنها خافت أن تحدثه ويتضح لها بعد ذلك أنه ليس والدها فعرضت الصورة على والدتها لتسألها "دى صورة بابا؟" فأجابتها الأم بدموعها قبل لسانها وأخذت تتساءل عن سبب بحثها عنه مجددا وحاولت أن تقنعها بأن تنسى الأمر وتبدأ حياتها مع خطيبها دون البحث عن الماضى، إلا أن "أمل" اقتنعت بحديث حماتها عن صلة الرحم وتواصلت مع والدها دون أن تعاتبه على غيابه السنوات الماضية، ووعدها باللقاء مجددا، إلا أنها تزوجت وأنجبت ولم ينفذ الأب وعده، وبعد أن رأت "أمل" إهتمام زوجها بطفلتهما تيقنت بأن الأب ليس مجرد كلمة بل إنه السند الحقيقي ومفتاح الحياة وهو ما افتقدته فى والدها الضائع.
 
فقررت أن تعاتبه على عدم تنفيذ وعده بلقاءها ولكن ردوده أصبحت لم تشبع عقلها الذى نمى دون أن يشعر والدها بذلك فهو ما زال يعاملها وكأنها طفلة لأنه لم يراها تكبر أمام عينيه وفوجئ بأنها تقف بتحاكمه فلقد استطاعت أن تحول هاتفها الصغير إلى ساحة القضاء وتندد بكل أفعاله وتناقشه فى مبرراته الغير منطقية ليعجز الأب عن الوقوف أمام إتهامات إبنته المائلة إلى المنطق ليعترف بأنانيته وهروبه من أولاده الذى أنجبهم من عدة زوجات وليس زوجة واحدة ليعترف بأنه تزوج عدة مرات وأنجب أكثر من 7 أطفال وتركهم ولم يسأل عنهم، ويطلب منها أن تغفر له أخطاءه فى حقها على مدار 28 عام من عمرها إلا أن القسوة التى نمت فى قلبها تجاهه وخوفها من أن تتعلق به على أمل اللقاء كما تعودت جعلتها ترفض مسامحته وتعلن أمامه أنها أصبحت يتيمة الأبز
 
ولم تقبل أن تعيش على أمل لقاء شخص رماها 28 عام لتغلق صفحات الماضى الأليم بيدها وتبدأ صفحة جديدة مع زوجها وإبنتها، وبعد عدة أشهر يشاء القدر أن تتعرف على أخواتها الذين لم تسمع عنهم سوى أسماءهم لتكتشف أنهم مروا بنفس التجربة الأليمة التى مرت بها من فقدان الأب، وتكتشف أيضا أن الأب حاول أن يقوى علاقته بها فى الفترة الأخيرة بعدما علم بمركزها المجتمعى الذى أغراه ليتقرب منها للحصول على أموال، ليؤكد الأخوات أن والدهم يتزوج كل فترة ليجد المرأة التى تنفق عليه وينجب منها أولاد ثم يتركها بعد أن تنتهى أموالها ولا تستطيع إفادته، ويظل الأب رافضا العمل وجشعه جعله يلجأ لأنصار جماعة الإخوان المسلمين خلال فترة حكمهم للحصول على تمويل لمشروعاته، وبعد استبعاد الإخوان من الحكم وفقده للمولين حاول أن يبحث عن أبناءه للإنفاق عليه.
 
ولقد استطاع الأب أن يرسم صورة له فى أعين أولاده تفوق صورة الشيطان واتفقا جميعا أن يعتبروه توفى وأنهم أيتام الأب ليستطيعوا إستكمال حياتهم دون النظر إلى الماضى، ولكن سيظل الغضب الثائر فى نفوسهم يحيى لديهم رغبة الإنتقام.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق