لماذا يتمنى التكفيريون أن هذه الآية لم تنزل في القرآن الكريم؟
الإثنين، 26 فبراير 2018 10:50 ص
إن اختلاف الآراء المتعلقة بالدِّين، سواء كانت آراءً فقهية (كاختلاف المذاهب الفقهية)، أم عقدية (كما اختلف مثلاً الأشاعرة مع الماتوريدية)، أم كانت اختلافات في التفسير أو في إثبات صحة هذا أو ذلك الحديث، أقول، إن جميع هذه الاختلافات لطالما أثْرَت ثقافة التعددية في الإسلام خلال تاريخه الممتد إلى يومنا هذا، فتعددت المدارس والمذاهب وإن اختلفت فيما بينها. هذا الاختلاف كان ومازال رحمة للمسلمين. ومقولة الإمام الشافعي المشهورة: "رأيي صوابٌ يحتمل الخطأَ، ورأي غيري خطؤٌ يحتمل الصواب" أصبحت مبدأ يعمل به علماء الدين.
لكن الاختلاف في مسائل الدين قد يتحول من رحمة إلى نقمة وذلك إذا تحول إلى آلية إقصاء. أي إذا اعتقدتُ أنّ صاحب الرأي الآخر ليس مخالفاً لرأيي فحسب، بل هو خارجٌ عن الدين، كافرٌ به، وذلك لمجرد مخالفت رأيه رأيي.
حين يصير رأي هذه أو تلك المدرسة، رأي هذا أو ذلك العالم، رأي هذا أو ذلك المذهب، هذه أو تلك الفتوى، هو الحق المطلق، حينها يتحول الدين من طريق إلى الله إلى آلية انقسام وبغضاء في المجتمع وإفساد في الأرض واستعلاء على العباد، أي إلى فتنة تنخر في جسد االمجتمع أو الوطن الواحد أو حتى الأسرة الواحدة.
كم احترمت موقف شيخ الأزهر الفاضل، الشيخ أحمد الطيب، بارك الله في عمره وجهوده، حين رفض تكفير الدواعش ومن نهج نهجهم مع كل إجرامهم في حق دينهم وأوطانهم ومع أنهم أصبحوا أكبر عبئ على الإسلام اليوم ونقطة سوداء في تاريخه، مع ذلك أصرّ شيخ الأزهر على عدم تكفيرهم، وذلك لأن في مقابلة الإقصاء بإقصاء متبادل تكريسٌ لهذه الثقافة، ثقافة احتكار الحق المطلق، ثقافة التكفير.
وكم أروع هذا المشهد القرآني الذي نقلته آيات تخاطب كل فكر إقصائي تكفيري يوزع صكوك دخول النار وفقاً لهواه، في هذا المشهد يتساؤل أناسٌ في نار جهنم:
"وقالوا ما لنا لا نرى رجالاً كنّا نعدهم من الأشرار، أتخذناهم سخرياً أم زاغت عنهم الأبصار، إن ذلك لحقٌ تخاصم أهل النار" (سورة ص ٦٢-٦٤).
الآيات تتحدث عن أكثر ما سيتناقش فيه أهل النار، وهو استعجابهم أنْ وجدوا أنفسهم في النار بينما لم يجدوا فيها أولئك الذين كان قد سبق حكمهم عليهم أنهم من أهلها. هذه الآيات لا تخاطب من اختلفت آراؤهم، بل أولئك الذين حكموا على من خالفهم بأنه من أهل النار، وهؤلاء هم التكفيريون على مدى العصور. فهذا المشهد القرآني رسالة لكل التكفيريين ودعوة للاعتبار ومراجعة النفس، لأن التكفير يعني الحكم على الآخر بأنه من أهل النار. فهذه الآيات دعوة للتواضع في نظرة الإنسان للرأي الآخر قبل أن يندم غداً، فيجد نفسه هو في النار بينما لن يجد أولئك الذين كفرهم وحكم عليهم بدخولها.
قد أختلف معك في رأيي وقد تختلف معي في رأيك، لكن لن أكفرك مهما كان ولن أدعُ عليك بدخول النار، بل ولن أتمنى لك ذلك، وسأفتش نفسي، فإن وجدت فيها مثقال ذرة من تشفي أو تمني لك بدخول النار، فسوف أحزن على نفسي هذه الأمّارة بالسوء والتي مازالت بعيدة عن درجات الكمال. فكمالها لن يتحقق إلا إذا دعوت لك بكل الخير كما أدعو لنفسي، وكمالها لن يتحقق إلا إذا تمنيت لك ما أتمناه لنفسي بصدق وإخلاص، سأجاهد نفسي حتى لا يبقى فيها مثقال ذرة من كراهية أو حقد أو ظن مني أني أفضل منك مهما اختلفتَ معي أو اختلفت معك.
سأجاهد نفسي كي أكون صادقاً معها ومعك حين أتمنى لك كل الخير، فلن أخادعك في سريرتي بأن أبتسم لك في وجهك أو بين أسطري ثم أقول في نفسي: "حسابنا عند الله"، أو "غداً سيحاسبك الله وَيَا ويلك حينئذ"، لا، بل لن أتوقف عن الدعاء لنا أن يسعدنا الله جميعاً وأن يرحمنا برحمته التي وسعت كل شيء مهما اختلفت آراؤنا، بل مهما اختلفت مذاهبنا، بل حتى ومهما اختلفت عقائدنا واختلف ديننا.
فالذي أفهمه من آيات القرآن أعلاه ومن غيرها أننا مازلنا على خير طالما لم نشرك بالله بأن نُنَصِّب أنفسنا آلهة مع الله بإعطاء أنفسنا صلاحية إدخال الجنة والنار، فالمُحاسِب هو الله وحده، ولا تقل لي، أنا لا أُكفِّر إلا من كفَّره الله، لأننا لا نعلم على ماذا سيموت هو ولا على ماذا سنموت نحن. فكما جاء في حديث الرسول عليه السلام: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النارفيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها" (رواه البخاري ومسلم).
دعنا من التكفير ومن الانشغال بالغير. هذا لن يقربنا إلى الله.
دعنا نجاهد أنفسنا حتى نتعلم حب عدونا وإن كرهنا فعلته أو جريمته، أما ذلك الإنسان فيه، فيبقى أخاً لنا في الإنسانية نحبه وندعو له بكل الخير، وما أجمل مقولة نبي الله عيسى عليه السلام: "سمعت أنه قيل (للقدماء): تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم". دعوة السيد المسيح هذه تحاكي كلام الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌ حميم."، أي لا ترد على الإساءة بمثلها، بل اجعل ردّك دائماً راقياً معبراً عن سموّ روحك، فحينها ستسمو بروح عدوك أيضاً.
لكن القرآن واقعي، فالوصول لهذه الدرجة من الكمال الإنساني طريق طويل وشاق، لذلك قال القرآن تعليقاً على هذه الآية: "وما يُلقاها إلا الذين صبروا وما يُلقاها إلا ذو حظ عظيم". وكأن القرآن يقول لنا: إذا أردت أن تعرف أين وصل حظك من كمال إنسانيتك وزكاة نفسك، فالمَحَكُّ هي تلك المواقف الصعبة في حياتنا والتي سرعان ما تجعلنا نقف أمام تحدي الكلمة الطيبة مقابل الكلمة الجارحة، الفكرة الراقية أمام تلك الهابطة، الدعوة الرحيمة الحنونة للآخر المخالف مقابل تلك الفظّة القاسية وهكذا. هنا محك الرقي الروحي وكمال النفس وزكاتها. ولنا في رسولنا الكريم عليه السلام أفضل قدوة، حيث رفض كل عرض من جِبْرِيل عليه السلام أن يخسف بأعدائه واختار بدل ذلك أن يدعو لهم لا عليهم وذلك في أصعب المواقف. فليتنا تقتضي بسنة رسولنا وندعو لهداية من خالفنا وحتى من عادانا بقلب محب مخلص بدل الدعاء عليه.
أما من انشغل بالتكفير وتوزيع علامات النجاح والرسوب في الآخرة فقد نبهه القرآن الكريم أن هؤلاء هم أكثر المعرَّضين للندم غداً يوم القيامة، لأن انشغالهم بتكفير الناس قد أعمى قلوبهم عن فهم أن هذا هو مظهر من مظاهر الشرك بالله وعلامة على صدى القلب الذي بدل أن يحمل الحب لأخيه الإنسان حمل له الكراهية.
ولكن كي يتمكن التكفيريون، أياً كانوا، الوقوف مع هذه الآية من سورة ص للتأمل في دعوتها لرفض الإقصاء، لا بد لهم أولاً من خلع ثوب الألوهية الذي لبسوه ثم التواضع أمام الآخر وإن اختلفوا معه، فنَعَم للوحدة التي تسَعُ التعددية ولا لادعاء ملكية الحق المطلق. نعم لحرية الاختلاف، ولكن حريتك تنتهي هناك حين تعتدي على حريتي أو حرية أي إنسان.