حسن فؤاد نهر الفن والحياة
السبت، 27 يناير 2018 01:00 صمنى فوزي تكتب
بفضل نصائحه ورعايته.. أصبح حجازى أشهر رسام كاريكاتير فى الوطن العربى
اكتشف موهبة على الشريف التمثيلية عندما تزاملا فى معتقل الواحات
حياة حسن فؤاد تحمل فى طياتها فلسفة نهر الفن والحياة كما أسماه الفنان محيى الدين اللباد فى الكتاب الذى أصدره عنه، كتب اللباد هذا الكتاب بدأب وحب وامتنان، تلميذ لأستاذه فأخذ منه وقتا طويلا، وقد شرفنى أن عملت معه فى هذه التجربة، فقد كنت أمده باللوحات والإسكتشات والرسومات التحضيرية للوحة.
لم يهتم نهر الفن والحياة حسن فؤاد بنفسه يوما، كان مهتما بالآخرين أو بالأدق بصناعة الآخرين وإفساح المجال لهم ليكبروا، والأسماء كثيرة جدا فعلى مستوى الرسامين سنبدأ مع «حجازى» فنان الكاريكاتير الكبير حتى نصل إلى الفنان «تاد» آخر حبة فى عنقود اكتشافات حسن فؤاد.
ويحكى حجازى عن بداياته فيقول: «كنت أتصور فى بادئ الأمر أننى سأصبح رساما تعبيرا أرسم البروتريهات، ولكن وبعد لقائى بحسن فؤاد وبعد أن رأى أعمالى الضئيلة والتى كانت تحمل أسماء كئيبة مثل (نظرة حزن) أو (فتاة الليل)، قادنى أستاذى إلى أن أفضل شىء لى هو الكاريكاتير»، وبالفعل أصبح حجازى بفضل نصيحة ورعاية حسن فؤاد أشهر فنان كاريكاتير فى مصر والوطن العربى.
«الغد» اسم مجله أصدرها حسن فؤاد وكان عمره 25 عاما وأغلقتها الدولة، ثم أصدرها وعمره 35 عاما وأغلقتها الدولة كذلك، ثم أصدرها عام 1985 قبل أن يرحل عن عالمنا بشهور.
يقول صلاح حافظ: «لم يكن إصرار حسن فؤاد على إصدار (الغد) صدفة، فقد كانت هذه المجلة هى النسخة المكتوبة منه هو شخصيا».
كانت ملامح الغد هى ملامحه، وفلسفته هى فلسفتها وموقفها من الفن والحياة موقفه لم يكن يميز بينها سوى محل الميلاد هو ولد فى البيت وهى ولدت فى المطبعة.
كان واقعيا فى حياته، فجاء فنه واقعيا مثله تماما ودون أن يقصده مثل لوحات «عرائس المولد».
كان يبهره الفلاح بين جموع البشر فما أن انتهى الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى من كتابة رواية «الأرض» كان هو قد انتهى من رسم أبطالها، أبو سويلم، عبدالهادى، محمد أفندى والشيخ حسونة، ما زلت أحتفظ بهذه المجموعة النادرة.
كان ينتمى بوضوح إلى الثقافة الاشتراكية لأنها كانت شديدة الاهتمام والاحترام للثقافات المغايرة، إنما كان يشغله ما هو أصعب، استيعاب الثقافات الرأسمالية وبالطبع الاشتراكية.
أما السياسة فقد كان كل ما يكتبه أو يرسمه له صله ما بالسياسة كان ثائرا فقد جرى اعتقاله فى العام 1957 وقضى بالمعتقل خمسة أعوام، فولدت أنا وهو فى المعتقل فلم أره إلا بعد خروجه، وكانوا عندما أسأل عنه يقولون لى إنه فى بعثه دراسية، وكانت زوجته ترسل له صورى الفوتوغرافية، ويحكى هو أن صورتى قد فازت بالجائزة الأولى فى المسابقة فقد أحبنى قبل أن يرانى.
أذكر كذلك أنه يوم أفرج عنه اكتظ المنزل بالمهنئين من كل الأطياف لقد حضر صحفيون وممثلون وشعراء ثم قررت الأسرة أن تقولى لى الحقيقة لأنه ببساطة لم يجلب الهدايا التى ينتظرها الأطفال فأصر فى اليوم التالى أن يصطحبنى ويشترى لى العرائس واللعب التى لا أنساها.
وعندما كبرت تعجبت من حنان هذا الرجل وزوجته التى هى خالتى لأنهما أخفيا عنى سر غيابه طوال هذه السنوات.
ما زلت أذكر السيارة التى أوصلته المنزل بعد خروجه من المعتقل كانت سيارة الأستاذ فهمى حسين، كانت فيات صغيره جدا لونها رمادى.
فى بداية الخمسينيات كانت المجلات تطبع بطريقة الفوتوغراف وكانت أغلفتها ومادتها المصورة صورا فوتوغرافية مطبوعة باللون الأخضر الزيتونى أو البنى أو بالألوان ممثلات وحسناوات أجنبيات ولبعض الأحداث الرسمية أو الجرائم والاحتفالات الباذخة للطبقات الراقية والحاكمة وبعض الصور المنقولة عن المجلات الأجنبية ونفس الحال كان فى الكتب تصدر بلا تصميم أو تصور.
لم تكن الصحف اليومية فى حال أفضل كان الحرفيون الأرمن فى ورش الزنكوغراف قد احتلوا ولزمن طويل مكانة هامة فى تحديد شكل المطبوعة، فى ذلك الوقت هم وزملاؤهم الأجانب من الجنسيات الأوروبية المختلفة.
فى هذا المناخ وذلك الوقت طرق الذوق البصرى المصرى والعالمى وافد جديد اسمه حسن فؤاد الذى اكتشف أن العمل لإنجاز البصرى المناسب ليس مجرد صنعة ولا زينة بل هو تعبير عن موقف فكرى وسياسى وثقافى وعاطفى.
لم يختر أن يحسن من المطبوعات التى تحمل صور الأجانب، بل اكتشف أن وطنه وواقعه اليومى ووجدانه الشخصى هو الذى يجب أن يسود فجعل من كل ذلك مرجعه الأساسى.
فى 17 سبتمبر 1952 وبعد ثورة يوليو بأسابيع قليلة، اشترك حسن فؤاد مع أحمد حمروش، عبدالمنعم الصاوى، مصطفى بهجت بدوى فى إصدار مجله التحرير، التى ظهرت معبرة عن العهد الجديد الذى أسقط الملك والباشوات وضرب الإقطاع وكانت المفاجأة بجمهرة من شباب عمال التراحيل، حفاه الأقدام بملابس باهته بالية يحملون فئوسهم ويهرولون من عمق اللقطة إلى اتجاه بصر للقارئ، كان ذلك يحدث للمرة الأولى فى تاريخ الصحافة المصرية، وصورة العدد الأول مرفقة مع الموضوع وقد كتب عليها: «التحرير يستجوب المعتقلين».
رأينا للمرة الأولى كتبا ومجلات قد طبع بعض أقسامها على الورق الملون الرخيص الذى طبعت عليه تذاكر السينما والأوتوبيس والإيصالات التجارية استخدم فيها ألوان الطلاء الجيرى التى بهتت بتأثر الشمس، ألوان حلوى الفقراء زهرة الغسيل، الكون، الطوب الأحمر، أصباغ عربات الكارو.
كان حسن فؤاد يطرح أن الفكر والوعى والمفهوم والعاطفة تستطيع أن تقدم فناً مطبوعاً بديلاً، جميلًا مبهجاً رفيع المستوى فى مقابل الأشكال الأخرى التى تعمد أساسا على فخامة المظهر والبهرجة وعلى المواد الأغلى ثمنا.
كان ذوقا مخالفا للذوق البرجوازى السائد، ذوق يدعو إلى احترام، ذوق الشعب وثقافته وإبداعات غير المتخصصين وغير المثقفين وإلى اكتشاف جمالها الخاص.
كان حسن فؤاد كذلك يحث الناس على الثقة بأنفسهم وبتراثهم وثقافتهم الأصلية، وإلى التخلص من دونيه الخجل من الفقر وقلة الشئ ومن محاوله الهروب منها بتقليد الأجنبى فعلمنا من رسومه أن نرى واقعنا اليومى نرى فيه الجمال والتفاؤل والصراع والبهجة والأزمة كذلك فقدمنا بأن هذا الشاب منذ أكثر من ثلاثين عاما برسوم غير عادية للروايات والقصص والقصائد، ارسم أطفالا بوجوه شاحبة يملؤها الشجن وعيون واسعة، يشردون ساهمين فى جلابيب وبيجامات مخططة، وشغيلة ممرورين وفلاحين مسح الشقاء نن أعينهم وصعاليك ضائعين ومهمشين ونساء وحيدات فى غرف عارية، مصدورين على أسرة المصحات، مساجين، يتامى، أرامل وعاهرات، وبائعات يانصيب منكسرات.
ومع ذلك لم يكن عالم ميلو دراما، فعبر تراكم الرسوم الذى تركه لنا، هناك لوحات عن التفاؤل والبهجة، ففى اللحظات النموذجيه التى صور فيها متع الناس البسطاء ومباهجهم التى لا يدفعون مقابلها ثمنا. لقد رسم حسن فؤاد البنات بسيطات الحال يكسوهن الكستور المطبوع بزهور فجة مبهجه ونساء يشبهن الأمهات والخالات ويتطلعن فى أمل مشرق من الشرفة القاهرية الجميلة وصبايا ريفيات يتدللن أمام منازلهن وزوجات رقيقات الحال يبدو عليهن الرضا والشبع وهن ينشرن الغسيل المبلل فى الصباح على سطح البيت الفقير، موظفين بطرابيش قانعين فى دواوين الحكومة هذا الرصد على لسان محيى الدين اللباد. كانت ضرباته على الورق قوية وحنونًا وخجلة وغير قاطعة من فرط الرقة وتتعجل الإمساك باللحظات، كانت رسومه مثل التخطيطات التى يقع بها عاشق طيب حالم وقت انتظار معشوقته.
كان حسن فؤاد الإنسان مثله مثل رسوماته رقيقا، حنونا يصادق الفقير جدا والثرى جدا، كذلك كان يحب أن يعلم البشر ،فكان بيتنا دائما يعج بالضيوف من الشباب الفنانين الذين جاءوا ينهلون من موهبة وعلم الفنان ولم يقتصر هذا على الصحفيين الشبان أو الشعراء ودائمًا كان يكتشف المواهب فى التمثيل، فقد اكتشف الفنان على الشريف الذى لازمه فى المعتقل، وجدير بالذكر أن فترة المعتقل بالنسبة لحسن فؤاد كانت ثرية، فبالداخل صادق ناسا كثيرين ظلت علاقتهم به متينة حتى بعد الإفراج، وبالدخل كونوا فريق تمثيل، أقاموا المسابقات، رسم حسن فؤاد على جدران السجن وعلى بابه وله رسم شهير لفلاحتين رسمهما على باب الزنزانة التى أقام فيها.
وتأتى مرحلة إصدار مجله صباح الغد وقد بلغ حسن فؤاد قمة صدقه الفنى، كما أنه كان قد استطاع أن يفتح خبراته المتعددة على بعضها بعضا، فامتزجت بداية من تصميمه لمجله التحرير، الغد، والمصرى، وإخراجه لكتب الموجة الجديدة من الكتاب وخبراته كمحرر وكاتب وسكرتير تحرير، وتجاربه التقنية فى الطباعة توج هذا برسومات رواية الأرض وذلك بعد محطات كثيرة جدا.
وبهذا المناخ والتكوين وفى عام 1956 كان مؤهلا لإصدار مشروع عمره كله «صباح الخير» كمجلة تسعى لخلق الشخصية المصرية وخلق البيت المصرى واتفق مع إحسان عبدالقدوس وأحمد بهاء الدين على أن يكون شعار المجلة الوليدة هو «للقلوب الشابة والعقول المتحررة».
قدم فنانا فى قطع عادى نفس قطع شقيقتها روز اليوسف فى صفحات لم تتعد فى البداية الستين صفحة، اختار لها غلافا بسيطا مطبوعا على ورق أبيض أكثر بساطة، فلم يكن لامعا فلم يستخدم حسن فؤاد حتى السبعينيات الورق اللامع المصقول فى أعماله.
أما لوحات الغلاف فكانت مشاهد طريفة اختيرت من داخل البيت المصرى القاهرى الشعبى ومن أجواء الريف.
فقد تولى حسن فؤاد مهمة تصميم المجلة ووضع سياستها الفنية البصرية ورأس تحريرها أحمد بهاء الدين ومن خلال المجلة الشابة عرف القراء أسماء وأعمال ممدوح عمار، حسن محمد حسن، سميحة حسنين، ناجى شاكر، وذلك بعد أن عرفوا الرسام الكبير جمال كامل، عبدالغنى أبو العينين، هبه عنايت ويوسف فرنسيس وفى نهاية المجلة نرى بابا ثابتا قبل أن يطوى القارئ الغلاف الأخير، كانت تطالعه صفحة نادى الرسامين التى أشرف عليها حسن فؤاد بنفسه لا لشىء إلا أنه كان شديد الحماس للشباب، فقدم بشاير الأجيال التى ستأتى من بعده فى مصر البلاد العربية، وعلى باقى صفحات المجلة، طالعنا تبويب ذكى رشيق وإخراج جديد مؤثر لأبواب مبتكرة من رسوم الكاريكاتير ظلت فى ذاكرة كثيرين تذكرنا بفترة رائعة من صفحه تاريخ ومن هذه الأبواب: «بوسطجى صباح الخير»، «درس فى المبادئ»، «أيام بلا تاريخ»، «اعترفولى»، «العيادة النفسية من مفكرتى»، «حكايات المخبر المجهول»، «مساء الخير»، «عصير الكتب» الذى لا نزال نذكر محرره أو أستاذه علاء الديب، ثم باب «حواديت» لحسن فؤاد، ثم باب «نصف حياتك فى المنزل».
ولا يزال الناس يتذكرون هذه الأبواب وتلك الأيام وخاصة سلسة صلاح جاهين من دواوين الحكومة. . والغريب فى «صباح الخير» نوعيه قراظها التى ورثوها لأولادهم الذين أصبحوا رجالاً الآن، وذلك لأن حسن فؤاد كان يؤمن أن شكل المطبوعة رسالة لها قيمتها الهامة وتأثيرها الخاص الذى يبدأ فعله منذ الانطباع الأول للعين قبل أن يقرأ النص المكتوب، لقد نحت هذا فى الصفحات المصرية لغة جديدة هى لغة البصر وهى مثلها مثل لغة الأنغام المسموعة، متقابلا مع النصوص والكلمات المكتوبة لذلك ثبتت فى الذاكرة وفى وجدان القارئ لتظل الرسوم والإشكال والتصميمات ومفاتيح هامة للذاكرة.
لم يتوقف عطاء حسن فؤاد عند الرسم والتصميم بل كذلك عشق النحت الذى أرسل صوراً من أعماله فى النحت من داخل المعتقل لأنه كان ينحت التصميم على أى شىء علبة سجاير، صابونة ويهربها للخارج لينقذها فقد عاش حسن فؤاد حياته يحقق حلمه وخياله بكل الوسائل الفنية وبسلوكها الشخصى ذاته، ومن أشهر قطع النحت التى قدمها من المعتقل لطفل يبكى على فراق والده الذى هو فى سجن الواحات.
ظل حسن فؤاد يعمل ويبتكر ويكتشف المواهب حتى آخر لحظة فى حياته لذلك كانت جنازته والتى خرجت من جامع عمر مكرم، غريبة وعجيبة لأنها أولا مكتظة بالبشر الذين صاروا يبكون طوال الوقت فكانت شيئًا ملفتا للنظر.
حسن فؤاد.. أو نهر الفن والحياة، ما زال يلقى بظلاله الدافئة الحنون.. نتذكره كلما كانت هناك دموع أو ضحكات، لأنه كان يؤمن بمقولة شهيرة للفيلسوف نيتشة: «كل صدمة تصدمنى ولا تقتلنى تزيد فى قوتى».