ابن خلدون ينقد أغنية «بص أمك»
الأحد، 21 يناير 2018 01:39 م
لا شك عندى فى صدق قراءة ابن خلدون التى تنص على أن الحضارة لا تكتمل إلا ببزوغ نجم الغناء
وقَعتُ فى أسبوعى الماضى فى قبضة أمرين جعلنى تناقضهما فريسة سهلة لضحكٍ من هذا الذى ينتهى بالدموع، ونحن نعلم أن شر البلية ما يضحك، وشر الضحكات ما جلب الدموع.
الأمر الأول هو أننى كنت أعيد قراءة كتاب «أنا والعذاب وأم كلثوم» للناقد الأستاذ طارق الشناوى، والكتاب- كما هو معروف- تسجيل لحياة الموسيقار الكبير المظلوم محمود الشريف.
فى الكتاب كان «الشريف» كما هى عادته يقول رأيه الذى يؤمن به، ولا يخشى فى ما يظنه حقًا لومة لائم.
يسأل «الشريف» متعجبًا: كيف يجتمع الأستاذ عبدالوهاب بالأستاذ عبدالحليم ثم ينتجان معًا أغنية تافهة هى «نبتدى منين الحكاية»؟!
ويضيف «الشريف»: إن كل لحن هذه الأغنية لا يعادل جملة موسيقية واحدة من لحن قصائد مثل الجندول أو كيلوباترا.
وعندما يسأله محاوره الأستاذ طارق الشناوى عن رأيه فى الأصوات الشهيرة، يطلق الشريف أحكامًا تنبع من ذائقته هو، فهو مثلًا يقول عن الفنانة وردة: «سيئة الغناء العربى، صاحبة الأداء الذى يحتاج إلى رداء»،
فالشريف يرى وردة مطربة جنسية!
وعندما يسأله الشناوى عن المطربة شهرزاد يرد: «إنها تحفة فى متحف، صوتها خارج الزمان».
أغلقت الكتاب متعجبًا من سقف ذائقة «الشريف» شاهق العلو، ونظرت نظرة بائسة لكتب مكتبتى فرأيت وجه ابن خلدون وقد علته علامات السخرية الممتزجة بالفخر، وسمعته يقول: لقد كتبت أشد من هذا الكلام منذ قرون بعيدة.
فأنا الذى قلت: هذه الصناعة (أعنى صناعة الغناء) هى آخر ما يحصل فى العمران من الصنائع، يعنى بعد اكتمال البنيان العمرانى لأى أمة من الأمم، ثم هى أول من ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.
ثم لم يترفق بى قدرى فألقى بى بين مخالب الأمر الثانى، إنه أغنية «بُص أمك» والتى تعمدتُ «رؤيتها» لا سماعها، لأعرف كيف كنا فى البدء؟ ثم كيف هوت بنا كلمة الختام إلى قيعان موحلة؟
أغنية «بص أمك» تغنيها سيدة تدعى ليلى عامر، كان يجب عليها وفق حركتها ومجمل تكوينها عدم مغادرة بيتها مكتفية برعاية زوجها وأطفالها، ولكنها- وقد عمنا زمن الهرج- رأت أن تغنى من كلمات وألحان رجل يدعى سيد الشاعر، أغنية فى الكيد لحماتها، معتمدة على كلمة «بص» التى لها من الإيحاءات ما لها.
معروف أن كل المشاركين فى ظهور الأغنية قد ذهبوا إلى تحقيق أجرته النيابة العامة، التى أرسلت السيدة سالفة الذكر إلى الحبس تمهيدًا لصدور حكم قضائى ضدها.
أليس مضحكًا ألى حد البكاء أن أجد محمود الشريف لا تروقه وردة ويراها مطربة جنسية؟!
ماذا لو استمع الشريف إلى مطربة «عندى ظروف» و«بص أمك» ثم تعمق فى التعاطى مع هذه الظاهرة وتابع نفايات الكليبات؟!
لا شك عندى فى صدق قراءة ابن خلدون التى تنص على أن الحضارة لا تكتمل إلا ببزوغ نجم الغناء، وانهيار الغناء يكون مقدمة لانهيار الحضارة ذاتها، فكلام ابن خلدون نعيشه ونحسه جميعًا، ولكن ما قاله الشريف هو الذى يستحق التوقف.
أظن الآن- وبعد رحيل «الشريف» بسنوات- أن الأمر لم يكن أمر ذائقة ولا علو سقف، هو بالحق كان أمر رفض للمتاح، سعيًا نحو تمام المعنى واكتماله.
«الشريف» كان يرفض الأصوات التى نبحث نحن الآن عن ربعها ونصرخ من نشوة السعادة عندما يلطف بنا القدر ويهبنا صوتًا نعرف مخارج حروفه.
«الشريف» لم يكن هجامًا شرسًا لا يعجبه العجب، لقد كان مفكرًا أداته الموسيقى وفكره النغم الحلو الرائق، الرجل كان مدركًا أن المتاح هو مقبرة الأمم، لأن المتاح يعنى أنصاف الحلول أو أرباعها، والأمم التى تعتزم النهضة وتنوى بصدق التحليق فى سموات التقدم لا تعتمد إلا على الأمل، حيث الأحلام التى تنشد ما يبدو مستحيلًا ولكنه فى الحقيقة سهل ميسور لأولى العزم الساعين إلى العمل الجاد المنظم.
كأن الشاعر الأستاذ أمل دنقل كان ينظر إلينا محذرًا من الاستسلام للمتاح وهو ينشد قصيدته الطيور التى يقول فيها:
«الطيورُ التى أقعدتْها مخالَطةُ الناس
مرتْ طمأنينةُ العَيشِ فَوقَ مناسِرِها..
فانتخَتْ
وبأعينِها.. فارتخَتْ
وارتضتْ أن تُقأقَىَء حولَ الطَّعامِ المتاحْ
ما الذى يَتَبقى لهَا.. غيرُ سَكينةِ الذَّبح
غيرُ انتظارِ النهاية
إن اليدَ الآدميةَ.. واهبةَ القمح
تعرفُ كيفَ تَسنُّ السِّلاح!».