حادث مسجد الروضة زلزل كيان الإنسانية.. نص كلمة شيخ الأزهر في الاحتفال بالمولد النبوي
الأربعاء، 29 نوفمبر 2017 04:02 ممنال القاضي
أكد الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر فى كلمه ألقاها اليوم فى الاحتفال بالمولد النبوى، أن احتفالنا اليوم بذكرى المولِد النبوي الشريف هو في الحقيقة احتفال بظهور النبوة الخاتمة، والرسالة الإلهية الأخيرة، التي وضعت الإنسانية بأسرها على الطريق الصحيح، وأخرجتها من ظلمات الجهل والضَّلال، بعد ما أطلقت العقل البشري مِمَّا كان يرسف فيـه من قيـود العصبيَّة، وسلطان العائلة ونظام القبيلة، وبعد ما حــرَّرتْ ضَمـيرَ الإنسان من أغـلال الظُّلم، ومن طبائع الاستِبداد والاستِعباد.. ولم يكد يمضي على انتقال صاحب الرسالة الخالدة إلى الرفيق الأعلى عشر سنوات فقط حتى بدأت عروش الطغاة والجبابِرة والمتألِّهين، تتهاوى وتسقط عَرشا إثْرَ آخر، وبدأت الإنسانية ولأول مرة في تاريخها- تتنسم عبق الحرية، وتتذوق طعم العدالة، وتعرف معنى المساواة بين الناس وواجب تحرير الإنسان من ظلم أخيه الإنسان.
واستشهد الطيب: يذكر الإمام الطبري في تاريخه أنَ ربعي بن عامر أحد قادَة الفتح الإسلامي لما دخل على «رستم» قائد جيش الفرس ليتفاوض معه قبل بدء الحرب في معركة القادسية، قال له رستُم: ما جاء بكم؟ قَال ربعي: «الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها» كلمات قليلة، تعكس افتقاد هذا الصحابي الجليل لقيمة الحرية وقيمة العدل، وتعطشه لأن يعيش الناس في ظلالهما، قبل أن يجيء بهما هذا الدين الجديد.
وتابع شيخ الأزهر: "لنا أن نتأمل عبارته رضي الله عنه: «من ضيق الدينا إلى سعتها» لندرك كيف أن حياة الناس قَبل هذا الدين كانت تئن تحت وطأة الضيق الذي فرضته عليهم أنظمتهم السياسية، وأنماطهم الاجتماعية والاقتصادية، وأن هذه الرسالة الخاتمة جاءت لتحرر العقل والفكر والوجدان.. وأن سبيلها في تحرير الإنسان هو مبدأ الحرية المنضبط بمبدأ العدل، والذي يضمن إعطاء كل ذي حق حقه، إذ بدون «العدل المطلق» تفسد الحرية، وتنقلب إلى فوضى تطيح بكل المبادئ الإنسانية الأخرى.
الحفـل الكَريم!
وإذا كانت نبوة صاحب هذه الذكرى العطرة -صلوات الله وسلامه عليه- ضرورة لهداية البشر، فإن تنكبَ طريقها من أخطر ما تمنى به الحضارات والمجتمعات.
ويثبت التاريخ أن سقوط الحضارات كان بأسباب وعوامل ذكر بها القرآن الكريم وحذر منها، وهي المسماة بسنن الله في الكون والإنسان، وأهم هذه الأسباب هو الانحراف عن منهج النبوة في سياسة الناس والمجتمعات، وأخذهم بمكارم الأخلاق التي هي الغاية من بعثة الأنبياء، وبرحمة الخلق كل الخلق، لقد قال ﷺ: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ»، وقال ﷺ: «أيُّهَا النَّاس! إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» بعد أن قال عنه الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء:
107].
وأضح "الطيب": كما يكون الانحراف عن منهج الأنبياء بإنكار الدين ومحاربته، والدعوة إلى الإلحادِ والكفر بالله وملائكتِه وكتبه ورسله واليوم الآخِر، يكون الانحراف أيضًا – بصورة أشد خطرا وفَتكا وتخريبا- بانحراف جماعة شاذَّة، شاء لها خيالهم المريض أن يتصوروا أنفسهم أوصياء على الناس، وأنهم وكلاء الله في الأرض، وهم وحدهم القائمون على فهم الدين وتفسير أحكامه.
وأشار شيخ الأزهر إلى أن هذه الجماعة أو الجماعات الإرهابية -على اختلاف مشاربها وتسمياتها- تنطلق من اعتقادٍ خاطئ يبرأ منه الله ورسوله والمؤمنون، هذا الاعتقاد هو أن من لا يعتقد معتقدهم من المسلمين فهـو كافر، وأن الكافر مستباح الدم والمال والعِرض.. وأمثال هذه الفئة الضالة ليست بدعا في تاريخ المسلمين، بل وجدت في سائر الأديان والعقائد والمذاهب، وما يروج الآن من أن الإرهاب صناعة إسلامية خالصة، وأنه يمارس قتل غير المسلمين حديث خرافة، يكذبه الواقع الذي يزيف هذه الأراجيف، ويفضح نوايا مروجيها، فكتب التاريخ وكتب السياسة، ملأي بالحديث عن الإرهاب المنسوب إلى الأديان، وإلى المذاهب السياسية والاجتماعية.
مؤكدا لا نريد أن نسترسل في الحديث بعيدا عن المصيبة التي زلزلت قلوب المصريين يوم الجمعة الماضية، بل زلزلت كيان الإنسانية جمعاء في الغرب والشرق، فقد كان حادث مسجد الروضة بشعا شنيعا، وكان تنفيذه من الوضاعة والخسة والدناءة غير متصور، ولا متوقع صدوره لا من إنسان ولا من وحش في الغابات.. وهذا الرصاص الذي حصد أرواح المصلين في المسجد هو في المقام الأول، حرب على الله ورسوله، وتحد له -سبحانه- في عقر بيت من بيوته.
وكما وصف الإرهابيين قائلا: هؤلاء المجرمون ليسوا بأول مَن نفَذ مثل هذه الجرائم في بيوت الله، فقد قتل الخليفة الثاني لرسول الله ﷺ: عمر بن الخطاب رضي الله عنه- وهو قائم يصلي في محراب مسجد رسول الله ﷺ، وقتل الخليفة الثالث: عثمان -رضي الله عنه- وهو يقرأ القرآن، وتناثَر دمه على صفحات المصحف الذي كان يقرأ منه. وقَتل الخوارج، أسلاف هؤلاء وأجدادهم، عليا كرم الله وجهه، وهو خارج لصلاة الفجر ينادي في الناس: الصلاة الصلاة.
وفي قتلة خلَفَاء رسول الله ﷺ واستشهادهم بسلاحِ الغدر والخيانة عـزاء -وأي عزاء!- لنا ولأهلينا ممَن فقدوا وفقَدن فلذات الأكباد والعائلَ والسَّند.. وإن كنتم –أهلنا في بئر العبد- قد روعتم وفزعتم فاذكروا أن تاريخ هؤلاء الخوارج معروف في ترويع أصحابِ رسول الله ﷺ، والإغارة عليهم، وتكفيرهم عليا وقتلِهم إياه بعد ما خذلوه وانشقُّوا عليه.
ونحن سيادة الرئيس!- إذ نعزيكم ونعزى شعبنا الصامد في شهدائنا الأبرار نسأل الله تعالى أن يتقبَّلهم بواسع رحمته ورضوانه ويسكنهم فسيح جناته، ويربط على قلوب أهليهم وذويهم، وأن يمن بالشفاء العاجل على المصابين والجرحى والمكلومين.
واختتم كلمتي: اعتذار كله حياء وخجل واستحياء من مقامك -يا سـيد الأنبياء والمرسلين!- إن تطاول على مقامك الرفيع في ذكراك العطرة طغمة من الجهلة وقساة القلوب وغلاظ الأكباد، والخارجين على نهجك القويم، والذين لم تزدهم جرائمهم إلَا بعدا منك ومن دينك وشريعتك، فعذرا -رسـول الله- عن هذا التطاول، وهذه الإساءة وسوء الأدب والعبث برسالتك السمحة.. وغدا سيعلم هؤلاء المفسدون في الأرض المارقون من الدين حين يحرمون شفاعتك يوم القيامة الكريم أي منقلب ينقلبون.