المذنبون
الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017 03:45 م
مساء الخميس الماضي، عشية واحدة من معارك البطولة والشرف والكرامة، والمتجددة هذه المرة على طريق الواحات، كنت وسط جمع كبير في بيت السناري الأثري بحي السيدة زينب، نستلهم روح الخال عبد الرحمن الأبنودي، في حضرة الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتبة الإسكندرية، والإعلامية الكبيرة نهال كمال أرملة المبدع الكبير، وكريمته آية الأبنودي، ومعهم جبرتي صاحبة الجلالة، الكاتب الصحفي محمد توفيق، مؤلف كتاب الخال، والذي كان أحد أهم ملامح الأمسية، مع معرض ضم بعض مقتنيات الشاعر الراحل، والعديد من الجوائز الحاصل عليها، ومجموعة صور فوتوغرافية ضمته مع كوكبة من قمم مصر وقاماتها، وبخلاف عدد من روائع دواوينه، وكان صوت الأبنودي القادم من عمق الجنوب يرن بأشعاره، فزاد من سحر المكان المكشوف، المغطى بنسائم طقس مصر الخريفي الممتع.
الأمسية حملت عدة رسائل، متنوعة وهامة ومباشرة، أجمع عليها الضيوف الأربعة، ومعهم الحضور على اختلاف أجيالهم، أولها أن الاحتفاء واجب بسيرة المبدعين الراحلين طوال العام، وفي كل وقت، بعيداً عن ذكرتي الميلاد والوفاة المعتادتين، فاستحضار ذكرى الأبنودي ليلتها، كان ضمن أنشطة مكتبة الإسكندرية، ممثلة في بيت السناري هذه المرة، احتفالاً بذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، والتي أدى الأبنودي بأشعاره وقتها واجبه تجاه وطنه ومواطنيه وجيشه المقاتل المنتصر، وثانيها أن مكتبة الإسكندرية أخذت على عاتقها توثيق إبداع الأبنودي الكبير كماً وكيفاً، وذلك بإجراء مجموعة من الدراسات تتناول عطاءه الشعري المتفرد، تبدأ بها مبادرة تستحق التقدير، تجاه حفظ وإحياء تراث مبدعي مصر الكبار.
أما ثالث هذه الرسائل، فكان مفادها أن جامعة مدريد بدأت بالفعل تدريس أشعار عبد الرحمن الأبنودي لطلابها، بينما نحن لم نعط بعد شعراء العامية المصرية ما يستحقونه من اهتمام وتقدير، ولا نزال رغم تأثير أشعارهم في وجدان الملايين، نخجل من تواجد العامية المصرية وسط مناهج اللغة العربية وآدابها، وفي مختلف مراحل التعليم الأساسي والجامعي سواء بسواء، ولصالح نصوص تخاصم روح العصر، وتكرس للجمود الفكري قبل الوجداني، وهي الرسالة التي تأتي على جروح اللحظة، فلم نزل نترك المؤسسات الأمنية تخوض معركتها وحيدة في مواجهة الإرهابيين، أما الإرهاب فلم نكافحه بعد، والبداية لن تكون إلا بتجديد الشخصية المصرية، وإعادة صياغة العقل المصري.
وهو ما لم نأخذ خطوة واحدة جادة تجاهه حتى الآن، فبقدر ما عقدت الدولة من مؤتمرات في عدة اتجاهات طوال السنوات القليلة الماضية، لم تعقد بعد مؤتمراً واحداً رسالته المباشرة التنوير، ومسئولوها في مختلف المواقع ذات الصلة مغيبون، أو هكذا يبدون، فوزير التربية والتعليم مثلاً لم يمنح تطوير المناهج مثل اهتمامه بملف المدارس اليابانية، ولو كان فعلها، لكنا الآن قد سرنا خطوة إلى الأمام، فوجدنا بعضاً من إبداعات كبار كتاب وأدباء وشعراء مصر ضمن مقررات اللغة العربية في مختلف مراحل التعليم الأساسي هذا العام، تفتح الآفاق الرحبة لعقول استوعبت أعقد تطبيقات الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، فانفتحت على العالم دون سابق إنذار.
ولو كان وزير التعليم العالي مثلاً توقف متأملاً تجربة الموسم الثقافي الفني لجامعة القاهرة في عهد رئيسها السابق، والممتدة في ولاية رئيسها الحالي، لكنا شاهدنا تفعيل مثيلاتها بتوجيه كامل ودعم مباشر منه شخصياً، في كافة الجامعات الحكومية المصرية، بمختلف محافظات الجمهورية، وحين يتذكر وزير الشباب والرياضة مثلاً أن اهتمامه بالشباب يجب ألا يقل عن اهتمامه بالرياضة، وأن اهتمامه بهم لا ينحصر فقط في تهيئة مراكز الشباب لهم على أعلى مستوى في طول البلاد وعرضها، وإنما الأهم هو توفير برامج وأنشطة تستكشف وتستوعب طاقاتهم الخلاقة والمتنوعة دون الاقتصار على الرياضية منها، فطالما رددنا أن الاستثمار في البشر أهم منه في الحجر.
وعندما تعود لوزير الثقافة ذاكرته، فينتبه مثلاً إلى أن واجبه أن يكون في طليعة كتيبة مكافحة الإرهاب بما يحمل من صفات الكاتب والمفكر والباحث، قبل قولبة ونمطية وعقلية الوزير الموظف، لكانت أنشطة هيئاته ومؤسساته وقصور ثقافته، لا تكل ولا تمل عن رفع رايات التنوير في ميادين مصر وربوعها حتى تنكشف الغمة، وإذا أعطى الإعلام المصري أوقات ذروته مثلاً لبرامج تكشف عن قيم الهوية المصرية، وترفع الحجب، وتزيل الشوائب، وتكسر التابوهات، لارتقى بوعي المشاهد، واستطاع أن يقوم بدوره في عصر حروبه نفسية قبل أن تكون عسكرية، وسلاحها الأقوى الإعلام سباقاً على الأسلحة التقليدية، افعلوا كما يفعلون قبل أن تلوموا عليهم أفعالهم.
والمؤسسات الدينية الرسمية، لو أن القائمين عليها حادوا مثلاً عن منهج آذان من طين وأخرى من عجين، لكانوا استشعروا ضرورة مواجهة تحديات الحاضر بتنقية تراث الماضي قبل مصادرة آفاق المستقبل، ولا نربأ بأنفسنا عن هؤلاء جميعاً، فلو احطتنا لوعينا ووعي أبنائنا مثلاً لبعض الوقت، لما فتحنا أبواب اللعب في الدماغ على مصراعيها لكل من هب ودب في الداخل والخارج، حتى صارت النفوس خربة قبل أن تكون المصائر مستباحة، ولكنا فاعلين بقوة، لا مفعول بنا بكل قوة، المذنبون كثر، فلا تبخسوا الأبرياء حقوقهم، فيكفي الأبطال أنهم في أشد اختبارات الحياة، لم يصدقوا إلا ما عاهدوا الله عليه، واجهوا الموت دون تردد.