أحمد منسى.. تأملات فى شجاعة الترحيب بالموت

الأحد، 15 أكتوبر 2017 01:00 م
أحمد منسى.. تأملات فى شجاعة الترحيب بالموت
محمد حسن الألفى يكتب:

كنت أتابع الكلمات التى ألقاها الكبار جدا، من السيد الرئيس إلى السيد أبوالغيط والسيدة جيهان السادات حرم بطل الفرحة الكبيرة التى نحتفل بها طيلة الأربعة والأربعين عاما الماضية، وسنظل نحتفل بها إلى الأبد بإذن الله.. لكن، لمس قلبى، وفجر دمعى، كما لا بد حدث مع ملايين غيرى من المصريين والعرب، الكلمة التى ارتجلتها عفو الخاطر ومن نبع القلب، ومن حبر الحزن ومن حر الجمر، ومن بئر الشجن، ومن بحر القوة، السيدة منار حرم الشهيد عقيد أركان حرب أحمد منسى الذى فاضت روحه إلى خالقها فرحانة راضية مرضية متعجلة مقصدها النهائى فى الفردوس الأعلى.
 
لم تتحدث عن زوجها أحمد منسى كبطل حرب، بل تحدثت عنه كإنسان مصرى طيب، خير، محب للناس، حاسس أنه مخلوق فى مهمة ولمدة محددة. المهمة هى الفناء فى حب الوطن، والمدة هى حياته القصيرة التى انتهت على رمال سيناء.
 
 أفاضت منار فى سرد كرمه وحبه للفقراء، وأفاضت منار فى وصف حبه وتعلقه بأمه، وأفاضت فى وصف ملاحقته بإلحاح لقيادات الصاعقة لإلحاقه بالقوات فى سيناء ليحل محل شهيد سبقه إلى الشهادة، حتى أجيب إلى طلبه، وأبكتنا منار حين قال لها إنه ذاهب للشهادة وأن الله سيربى طفليه، ثم فاجأتنا كما فاجأها هو برسالة منه، فتحتها بعد استشهاده، فإذا به يكتب رسالة شكر لعدوه قال فيها «شكرا يا عدوى، فإنك أتحت لى فرصة الاستشهاد لألقى ربى»، وأقسم فى رسالته أن الإرهابيين لن يكون لهم مكان فى الوطن «طول ما احنا عايشين».
 
من كلمات منار التى وقفت بشموخ فخورة بالرجل الذى ترك لها طفلين، سنرى كم أن الموت، وطلب الموت، كان هدفا لشاب فى عز القوة والقدرة والعطاء والفتوة، والأبوة، والرجولة.
 
تلك هى النقطة الفاصلة التى توقفت عندها كثيرا وعميقا. هذا رجل عاش للموت، ولم يكن يسعى بالقطع إلى انتحار، بل هو موت مطلوب فى سبيل قضية، هى منح الأمان والحياة لوطن، هذا الوطن احتل فى ترتيب درجات ومنظومة العقيدة والقيم الدرجة العالية الرفيعة بعد الله. كان الله فوق، وتحت الله مصر، وبينهما روحه التى سيقدمها فداء للوطن لأن المكافأة هى رضا الله، وحرية وكرامة الوطن. بهذا القدر من الوضوح، وضوح راق لأقصى درجات الشفافية كان الشهيد البطل منسى، ولن ننساه أبدا، بل محفور فى الوجدان القومى، يرى أن فى استشهاده إحياء للوطن، وحماية لعرضه ومستقبلا لأبنائه. 
 
يمرض الواحد منا مرضا فتسود الدنيا فى عينيه، ويهرول إلى الأطباء ومعامل التحاليل، وإذا داهمه تحليل بمرض السكر أو لا قدر الله ورم، دارت به الأرض ويئس، وبدأ يرى النهاية. ويمضى فى رحلة علاج طويلة ويدعو الله ليلا ونهارا أن يشفيه. أحمد منسى كان يدعو الله أن يجعله شهيدا، أى أن يقبضه إليه، فداء لمصر وشرفها.
 
 فى هذا السياق يمكن إذن فهم إصراره على أن يسبق جنوده إلى مكان الألغام والعبوات الناسفة عوضا عنهم وخوفا عليهم. لم يفكر أنه القائد، ولم يفكر أنه أب أو زوج لزوجة شابة. فكر فقط فى أن باب الجنة على بعد لغم رابض تحت الرمل!
 
ما هذه النفس الإنسانية الروحية الرائعة! كيف يسمو الإنسان فى حبه لوطنه إلى هذه المرتبة الأفلاطونية السامية!
أى تربية تلقاها هذا الرجل الرائع؟ 
 
البيت المصرى التقليدى. الأم والأب، ثم مصنع الرجال، الجيش المصرى العظيم، الذى يربى أبناءه على أنهم حماة الأعراض والكرامة والسيادة والشرف.
 
ثم إن المدهش حقا أن ترى جيشا هؤلاء أبناؤه فى زمن انتشرت فيه الفتنة، وبات الأخ يقتل أخاه، والابن يشنق أباه، والأم تتآمر مع العشيق على زوجها، بل هو زمن انتقلت فيه النزعة إلى الانتحار من أشخاص يأسوا من حياتهم وأسرفوا على أنفسهم حزنا وقنوطا، إلى المجتمعات نفسها!
 
تنتحر المجتمعات كما ينتحر الفرد، بعد أن تكون قد استنفدت كل أسباب اقتراف المعاصى السياسية والاجتماعية والأخلاقية والدينية، ثم يسقط الله عليها لحظة كاشفة هى بمثابة المرآة الضخمة جدا، وهذه اللحظة، بعمر المجتمعات هى عقد من الزمان على الأقل، أى عشرة أعوام، تقرر فيها مجتمعات أن موتها الجماعى تطهير وثمن حتمى لجبال من التمرد على الأخلاق وعلى نعمة الوطن وخيراته التى كانت فيها!
 
يحدث هذا حولنا وكنا فى الطريق إليه، لولا رجال من طين وروح وعفة وشجاعة وفدائية وأثيرية البطل أحمد منسى. 
 
لا يكفى أبدا إطلاق اسمه على مدرسة أو على شارع أو ميدان، وهذا أقل واجب لمن مات طوعا لتوهب لنا الحياة كسالى مشبوحين أمام شاشات التليفزيون وتحت أجهزة التكييف، وفى وسط أولادنا وأهالينا، وقد حرم هو من كل هذا وحرم منه أولاده وأهله، إذ أطالب وزارة التربية والتعليم بتقديم قصة حياة هذا البطل وعشرات غيره من أبطال مصر الذين رخصت حياتهم فى سبيلها بينما كرمهم الله فى جنات نعيمه السابغ.
 
تحية للبطل فى عليائه ولزوجته الشجاعة البليغة الصابرة، وللجيش الذى يربى ويعلم ويلقن عقيدة الفداء والتضحية.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق