من مذكرات جندى مصرى على الجبهة

السبت، 07 أكتوبر 2017 04:00 م
من مذكرات جندى مصرى على الجبهة
حرب أكتوبر
شريف على

اللحظة التى يعيشها الإنسان بين اللهب وتحت الخطر هى التى تخلقه من جديد
 شن العدو غارة بطيرانه فبترت صواريخ الطائرات ذراع قائد مصرى فثبت قدميه على المدفع وأسقط طائرة
 انتابتنا روح من الجنون.. لم يعد يهمنا شىء.. نسينا الدنيا كلها.. ولم يصبح أمامنا سوى ضرب العدو
 
تكتسب مذاكرات البطل الشهيد الدكتور أحمد حجى فرادة خاصة فى تاريخ أدب المذكرات والسير الذاتية وذلك راجع لعدة عوامل أساسية، أهمها موضوع المذكرات، وهو الاستعداد المصرى الجبار لرد الكرامة بعد نكسة يونيو، ثم تفاصيل حياة حجى المليئة بمفارقات لافتة.
 
ولد أحمد حجى عام 1941 بمحافظة الدقهلية، وتخرَّج فى كلية الطب البيطرى عام 1967، بدأ نشاطه الاجتماعى فى أواخر الخمسينيات، ففتح مدرسة لمحو أمية الفلاحين والعمال والنساء فى قريته بالدلتا، جُند بالقوات المسلحة عام 1968 فى مكان آمن بالقاهرة، لكنه طلب بنفسه الذهاب إلى الجبهة حيث تولى الشئون الطبية فى الكتيبة التى خدم بها على جبهة القناة حتى استشهاده قبل عام من معركة العبور التى شارك فى التجهيز لها وخاض معارك حرب الاستنزاف كاملة.

الأربعاء 5 أغسطس 1970

فى الجبهة يولد الإنسان الجديد، يولد بين اللهب وأمام رصاص البنادق الآلية، وشظايا الدانات والقنابل، وتحت طائرات العدو المغيرة، هنا يجب على الإنسان أن يتخذ موقفًا واضحًا محددًا، إما أن يخاف ويجبن، وإما أن يقف فى شموخ، دون أن تهتز منه شعرة واحدة، وفى الجبهة شاهدت ميلاده مع الاشتباكات اليومية بيننا وبين العدو، هذا الإنسان الجديد الذى علمه الرصاص كيف يكون الوطن هو حبه الأكبر، وكيف يحمل فى قلبه مشاكله وهمومه، وما هو الحق، وكيف يكون الواجب.
 
إن اللحظة التى يعيشها الإنسان بين اللهب وتحت الخطر هى التى تخلقه من جديد، هى التى تجعله يلقى بحياته الرتيبة المرهفة لينام فى الخنادق الترابية ويجوب ظلمة الليل الحالكة، ويعوِّد أذنيه على دوى المدفعية وهدير الدبابات، وبرغم الظلمة فإنه هنا يرى مصر أكثر من الجالسين فى مقاهيها، هذا الصمت أحيانًا ثم ضجيج الاشتباكات أحيانًا أخرى، الطلقات المضيئة فى الليل، السلاح والذخيرة والخوذة الحديدية.. ماذا بعد؟ إنها لحظة رائعة تلك التى يحس بها الجندى وسلاحه على كتفه وعيونه تخترق الليل، إنه حارس شجاع يحمل مصر كلها فى قلبه ويحس بها مع كل خفقة.
 
إن هذه الحياة على الجبهة هى التى ألهمت قائد المدفع الذى بترت صواريخ الطائرات المعادية ذراعيه، فثبت قدميه على المدفع وأسقط إحداها. إننى أذكره جيدًا، وأذكر أيضًا ذلك الجندى الذى كان يحمى مؤخرة العبور، ورفض أن ينجو بحياته بعد أن اكتشف العدو خط انسحاب زملائه، وأصر على حماية ظهورهم، واستشهد فى قاع القناة.
 
ماذا بعد أن ينزف الدم منا.. علينا أن نواصل القتال.. هل يموت الإنسان مرتين؟ إنها مرة واحدة وميتة واحدة، فمع تصاعد الموقف يتزايد الرجال الشجعان وتشتد حماستهم للقتال، هذه المجموعة من الرجال التى عبرت القناة إلى الضفة الشرقية كانوا يقبلون الأرض، ظلوا أكثر من خمس ساعات يتحرشون بالعدو حتى فوجئوا بطابور من المدرعات المعادية. وعلى الرغم من أن أسلحتهم وذخيرتهم كانت بسيطة لم يترددوا، اشتبكوا مع تلك المدرعات ودمروا منها دبابتين وعربتين نصف جنزير وعربة جيب.. كانوا يصيحون: 
 
- الله أكبر.. الله أكبر.
 
وبين النار المشتعلة كانت طائرات العدو تبحث عنهم، إلا أنهم عادوا جميعًا بلا جريح واحد وهم يقبلون بعضهم بعضًا، ويقولون: 
- لو كانت هناك ذخيرة أخرى.. لأبدنا طابور المدرعات عن آخره.
 
هنا وراء كل خبر عسكرى قصة لإنسان ولد من جديد على الجبهة، إنسان يعرف كيف يحب وطنه، ويعرف معنى الواجب.. ويدرك اللحظة التى يقرر فيها شيئًا للوطن، ولذلك فإنساننا الجديد لا يهمه الرصاص ولا ما تردده إذاعات العدو.
 
إن المقاتل على الجبهة يثق بأن حل مشاكل الوطن الداخلية والصراع ضد الاستعمار هو بالمزيد من القتال.
 
الأحد 16 أغسطس 1970
 
فى أول الأمر كنا نخجل من زملائنا المقاتلين فى الجبهة عندما كانوا يسألوننا عن تسليحنا، كنا نقول لهم ونحن نعرف مسبقًا باستهزائهم: 
- مدفعية 25 رطل.
 
فقد كان هذا السلاح من مدفعية الحرب العالمية الثانية قديمًا، بدائيًّا، قصير المدى، صعب التشغيل، وهناك الآن أسلحة أكثر خطرًا وزئيرًا منه متفرقة على امتداد جبهتنا، وكنا نستطيع أن نميز صوت مدافعنا من أصوات المدافع العديدة الممتدة من ورائنا على طول خطوط القتال، وكان لا بد لكتيبتنا أن تأخذ مكانها بالقرب من القناة حتى يكون لمدافعها العتيقة المدى المؤثر فى مواقع العدو الممتدة أمامنا.
 
ومرت الأيام، ورأينا أن كتيبتنا تحتل موقعًا من أهم المواقع الدفاعية فى منطقتنا، وأن علينا بمدافعنا القديمة أن نكون رجالًا وأن ننفذ تعليمات القيادة بأن نصمد فى أماكننا مهما كانت ظروف الاشتباك مع العدو، فقد كانت القيادة تعلم بالطبع مدى الفارق الكبير فى التسليح بيننا وبين مواقع العدو المواجهة لنا.
 
وكانت منطقة «الكاب» من المناطق التى تقع فى دائرة دفاعاتنا، وكم من مرة حاول العدو العبور من هذه المنطقة وأغرقته مدفعيتنا القديمة فى قاع القناة.
 
وذات ليلة وبعد أن كثفت طائرات العدو غاراتها الوحشية على المنطقة.. وركزت نيرانًا كثيفة على مواقعنا وحول كل ملجأ من ملاجئ الأفراد، حتى أصبح من الصعب أن يفكر الإنسان فى الحياة تحت كثافة نيران العدو. وبرغم ذلك فحينما أراد العدو فى تلك الليلة أن يعبر بقواته من المنطقة التى تحميها مدافعنا القديمة، دقت أجراس التليفون الميدانى وتناولت الأيدى بثبات سماعات التليفون.. وجاء صوت جندى الاستطلاع يقول: 
 
- العدو يعبر من منطقة «الكاب».
 
وقتها اختفت كل الهواجس، وفى لحظة كان هناك صوت قائد الكتيبة يأمر الرجال من خلف المدافع: 
- اضربوا حتى آخر طلقة من أجل زملائكم على القناة.
 
اتجهت الفوهات على الفور صوب مواقع العدو وانطلقت منها القذائف متتالية عنيفة، واحتل الرجال الآخرون مواقعهم فى لمح البصر فى الخنادق وفى الحفر التى صنعتها قنابل الطائرات المعادية، يصبون من بنادقهم ومن رشاشاتهم وابلًا من الرصاص، وصوت القائد ما زال يهتف من التليفون الميدانى: 
 
- اضربوا حتى آخر طلقة.
 
كانت طائرات العدو تلقى على مواقعنا شحنات وحشية من القنابل، وتضربنا بالصواريخ المتتالية دون توقف.. أصيب عدد من مدافعنا.. واستشهد عدد من رجالها، وأصاب اليأس عددًا آخر من أفراد المدافع الباقية، وهموا بالتراجع.. صاح قائدهم: 
 
- من يتراجع سوف أضربه بالنار فورًا.
عادوا إلى مواقعهم واستبسلوا مع بقية زملائهم.. ولكن الطائرات المعادية لا تكف عن إلقاء حمولتها المميتة على رؤوسنا حتى بلغت القلوب الحناجر، والقائد ما زال يصيح: 
 
- اضربوا.. اضربوا حتى آخر طلقة.
 
انتابتنا روح من الجنون.. لم يعد يهمنا شىء.. نسينا الدنيا كلها، ولم يصبح أمامنا سوى العدو الذى يريد قهرنا واختراق مواقعنا.. كان الجنود ينتهزون فرصة انطلاق طائرات العدو وهى تحوم لتعاود الضرب من جديد.. ليعاودوا حشو مدافعهم بالقذائف، ويطلقوها قبل أن تعود الطائرات.
 
لقد أصبحنا نحن والمعركة جسدًا واحدًا، ولم نتنبه إلى أن مدفعيتنا القديمة أغرقت زوارق العدو، وأن جحافله كانت قد فرت عن آخرها.. لم ننتبه لذلك إلا بعد أن توقفت الطائرات عن الظهور فوق رؤوسنا.. ولم ننم حتى الصباح.. كانت المدافع ما زالت مشرئبة الأعناق، وحضر القادة مع طلوع أول ضوء، التقوا بجنود مجموعة من مدفعيتنا، كانت عيونهم حمراء، وما زالوا يلهثون من التعب، ربت القائد على أكتافهم وقبلهم، ووضع على صدر كل منهم شارة البطولة، وكنا نحن حينما نركب أو نتجول فى المنطقة ويسألنا أحد من أى سلاح أنتم، كنا نتحاشى الإجابة على هذا السؤال خوفًا من السخرية، ولكننا الآن نقول باعتزاز: 
- مدفعية 25 رطل.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق