محمد ثروت يكتب: فؤاد نصار يكشف أسرار خطة الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر

الجمعة، 06 أكتوبر 2017 03:00 م
محمد ثروت يكتب: فؤاد نصار يكشف أسرار خطة الخداع الاستراتيجي في حرب أكتوبر
محمد ثروت وفؤاد نصار

"أديت ما علي نحو وطني ولم أغير مواقفي، ولم أطلب لنفسي مجدًا شخصيًا، ولم أسع إلى منصب طول حياتي لكن المناصب كانت تسعى إلي، وقد كنت أريد أن أعتزل الحياة العسكرية والعملية عام 1975 بعد أن حاربنا وانتصرنا، وكان لي شرف المشاركة في صنع النصر مع رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا، لكن  الرئيس الراحل أنور السادات رحمه الله استدعاني لأواصل المسؤولية، ووافقت أن أستكمل ما بدأته من طريق شاق وعسير في سبيل نهضة بلادي والأمة العربية، فعملت كأول محافظ للجزء المحرر من سيناء من عام 1976 إلى عام 1978 ثم توليت منصب  محافظ  مطروح حتى شغلت منصب رئيس الاستخبارات العامة في أغسطس 1981 أي قبل شهر واحد من اغتيال السادات".
فؤاد نصار  (1)
 
تلك هي الكلمات الأولى التي قالها اللواء فؤاد نصار، رئيس المخابرات العامة المصرية الأسبق، وهو يتذكر أيام الانكسار والانتصار، جامعًا بين روح المقاتل وعقلية رجل الدولة المسئول، حيث شارك في جميع حروب الصراع العربي الإسرائيلي، فضلاً عن إسهامه وقيادته لحرب العقول داخل الغرف المغلقة، عبر عمليات مهمة وخطيرة قلبت موازين الصراع العربي الإسرائيلي.
 
وللأمانة وللتاريخ أقول إن اللواء فؤاد نصار، أحد رجال الصمت من نوعية السيد زكريا محيي الدين نائب الرئيس جمال عبدالناصر الأسبق، الذي فضل الصمت عن تجريح الأشخاص ونبش القبور.
فؤاد نصار  (2)
 
ولولا إلحاحي على سيادة الوزير فؤاد نصار ليقول كلمته للتاريخ كشاهد عيان على أحداث لم يكن مجرد معايش لها، بل كان أحد صناعها الرئيسيين، وقد استطعت إقناعه بعد سنوات من علاقتي بهذا الرجل النزيه الذي لم يأخذ من حطام الدنيا شيئًا، ومازال يعيش في شقة متواضعة مثل بقية أبناء الأسر المصرية المتوسطة، في بناية قديمة بأحد أحياء غرب القاهرة "حي العجوزة"، وذلك لرفضه التام تخصيص أي مكان فخم ليعيش فيه، حيث تتلألأ الأوسمة والنياشين على جدران حجرة الصالون.  
 
وبمناسبة مرور 44 عامًا على نصر أكتوبر 1973، فتح اللواء فؤاد نصار قلبه وعقله ليسرد لنا أخطر أسرار الحرب..
فؤاد نصار  (3)
 
1967 كنت مدرسا في الكلية الحربية برتبة عقيد، وحدث أن أرسل لي كاتم الأسرار أن القيادة الشرقية سوف تتحرك في سيناء، ونريدك أن تتولى قيادة إشارة المنطقة الشرقية، فقلت له لايجوز أن أتولى هذا الموقع مكان عميد، وكان وقتها العميد القويسني يتولى هذا الموقع منذ 3 سنوات، وعرضت أن أكون مساعدا له.
 
المهم تكلم المشير، وقال لي: «روح القيادة في سيناء فذهبت إلى هناك لأرى أشياء في حياتى لم ولن أراها وكانت سببا في هزيمة 67، ومنها على سبيل المثال تجنيد الناس بالجلاليب وعزل القادة وتعيين قادة تشكيلات جدد في الميدان، وكذلك تطبيق مبدأ أهل الثقة وليس أهل الخبرة».
فؤاد نصار  (4)
 
وكانت هناك مجموعة من الصاعقة يقودها الفريق سعد الشاذلي للاشتباك مع أي قوات، وحدث أن اتصل بي واحد من مكتب المشير عامر، وقال لى إن المشير يريد أن يتحدث مع الفريق الشاذلي على التليفون، فقلت له لا توجد أسلاك توصل إلى هناك، فقال لي إنها أوامر المشير، فقلت له: أنا لا أتلقى أوامر من المشير بل من الفريق صلاح محسن قائد المنطقة الشرقية.. ثم ذهبت إلى الفريق محسن في مكتبه لإبلاغه بمكالمة مكتب المشير، وأثناء وجودي بمكتبه رن جرس التليفون وسمعت الفريق محسن يكرر"حاضر يا أفندم"، وفور انتهاء المكالمة، قال لي محسن على الفور: قوم وصل الخط.. فالحقيقة أنا اتكسفت وقمت فورا لأوصل الخط بنفسي، ولم أنتظر ضابطا آخر ليوصله. 
 
مرة أخرى، وجدت الفريق صلاح محسن بيكلمني ويقول: المشير سيصل بعد غد، إلى مطار المليز ويطلب حضورك.. فذهبت أنا والفريق محسن في طائرة، ووقفنا في مربع ناقص ضلع ننتظر طائرة المشير عامر، ففوجئنا بالطيران اليهودي يضرب علينا رصاص فقلت للقائد: نروح القيادة لأن الحرب قامت.. وفي اليوم الثاني صدرت الأوامر لجميع القوات بالانسحاب.. ولكن طلبت الانتظار لليوم التالي لجمع المعدات والأجهزة اللاسلكية.. ثم عدت إلى الإسماعيلية.
فؤاد نصار  (5)
  
المهم حدث ماحدث من هزيمة 67، وإقدام الزعيم الراحل جمال عبدالناصر على التنحي عن الحكم ورفض الجماهير لذلك، وتم عمل تغيير في قيادات القوات المسلحة، فتم نقل الفريق صلاح محسن إلى وظيفة مدنية كوكيل لوزارة الحكم المحلي، وتعيين اللواء أحمد إسماعيل "المشير فيما بعد" قائدًا للمنطقة الشرقية.
 
وكان مقر القيادة في ملاجئ التل الكبير، وكان معه اللواء عبدالغني الجمسي واللواء حسن الجريتلي، وبدأنا نعمل بنظام عسكري صارم، مع بدء إعادة تنظيم القوات المسلحة، من بورسعيد للسويس، وقد حضرت معركة رأس العش، ووجدت ناسا تقاتل دبابات.
 
ثم بعد ذلك عملوا الجيش الثاني والثالث، وانتقلت للقاهرة، حيث حصلت على دورة في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، وعندما انتهيت من الدراسة أرسل لي المشير أحمد إسماعيل، وأعطاني ورقة بالروسي وكنت قد حصلت على دورة بالروسية.
 
كانت الورقة تقول إن جميع خططكم واتصالاتكم وكل الذي يحدث في القوات المسلحة مكشوفا عند اليهود اعملوا إدارة تغير الكلام ده، فقال لي أحمد إسماعيل: «أنت اللي هتعمل الإدارة. وهتسميها ايه؟».. فقلت له: «سوف أسميها إدارة أمن السيطرة، بشرط ألا يقال لي خذ الضابط الفلاني عندك»، وكنت أرفض الواسطة طول حياتي سواء في القوات المسلحة أو في المواقع التي توليتها، وهكذا كنت مسؤلا عن عن اختصاصين هما المخابرات الحربية وسلاح الإشارة، وكانت التعليمات التي أصدرها بسرية التخطيط وسرية الاتصالات، وأحضرت أجهزة من ألمانيا، لتكشف هل يوجد تنصت أم لا؟
فؤاد نصار  (6)
 
والحقيقة أن إسرائيل كانت تضع في خطوط الهوائي جهاز لاسلكي مكان المغزل وتسمع كل شيء عن قواتنا المسلحة، وقد كنت أسجل جميع المكالمات، وأغير الكوابل، وقد أفادني ذلك في خداع الإسرائيليين، ومفاجأتهم في حرب أكتوبر 73، والحقيقة أن ما فعلته إسرائيل من تنصت على قواتنا لم يكن لتفوق فيها بل لفساد فينا.
 
وأسجل للتاريخ أن القوات المسلحة تغيرت تماما بعد حرب 1967، وبدأ التطور الحقيقي من عام 1969 إلى 1972، وكان نتيجة ذلك نصر أكتوبر 73، ذلك أنه لما حدث الخلاف بين عبدالناصر وعامر، تم إعادة تنظيم القوات المسلحة وإبعاد أهل الثقة واستبدالهم بأهل الخبرة. 
 
بعد مرور 44 عامًا على حرب أكتوبر، أرى أن السادات هرم في تاريخ العسكرية المصرية بعد عودة الجيش المصري من حرب 5 يونيه فاقدًا طيرانه وسلاحه وآلاف الأسري والشهداء، ولكنه ظل محتفظاً بكرامته وإيمانه بعد أن ظنت العسكرية في العالم أنه لا يمكن إعادة بناء هذا الجيش وتجهيزه قبل 10 سنوات، إلا أن القوات المسلحة نجحت في تكوين جيش من مليون شخص وتدريبه وتسليحه، وتخوض به الحرب بعد 6 سنوات فقط، وتحقق الانتصار ورغم أنني من سلاح الإشارة وهو نفس السلاح الذي ينتمى اليه الرئيس الراحل أنور السادات إلا أن أول اقتراب حقيقي منه كان عام 1972. 
 
المحطة الأولى في علاقتي بالسادات  
وكانت المحطة الأولى في علاقتى بالرئيس الراحل أنور السادات، عندما أرسل لي المرحوم المشير أحمد إسماعيل وزير الحربية وقتها، وقال لي الرئيس السادات بيقول لك تمسك المخابرات الحربية، وكانت علاقتي بأحمد إسماعيل تعود إلى عملي معه عام 1967، فقلت له أنا لا أعرف شيئا عن الآمن أنا مقاتل مكاني المعارك وميادين الحروب.. فقال لي الرئيس بيقول لازم تحصل حرب، فقلت له: إذا كان فيه حرب لازم أقعد 3 شهور، أشوف هل أستطيع أم لا، فقام أحمد إسماعيل وهو يتحدث تليفونيا مع الرئيس، وهو ممسك السماعة قال لي: «الرئيس بيقول لك أنت هتتشرط».. فقلت له: «لست أن الذي أتشرط بل مصر هى التي تتشرط، لأن حرب مثل هذه ستكون مصر أو لا تكون، وأنا لو مسكت المنصب وفشلت سأذهب للقيادة، وأضرب نفسي بالرصاص، مثل اليابانيين، فأنا خايف على مصر وخايف على نفسي».. فقال لي المشير إسماعيل «تروح تستلم من اللواء محرز الذي تولى المخابرات بعد الفريق محمد صادق، وفي المخابرات الحربية بدأت دراسة الموقف ووجدت معلومات كثيرة وبدأت أدرس المعلومات المتوافرة».
 
 كان الموقف كما رأيت وبناءً على ما تم عرضه على من تقارير إن المخابرات الإسرائيلية بينها تعاون كامل مع المخابرات الأمريكية، فبدأت أدرس كل شيء عن العدو، والطيران والمعدات والأسلحة وكل شيء، ولكن رغم ذلك كان هناك ثغرات منها صعوبة تعبئة الجيش الإسرائيلي كله فى وقت واحد، لأنها تعتمد على الاحتياط، فالجيش العامل كله جيش صغير، وعملية التعبئة تستغرق 48 ساعة، وسلاح الطيران عندهم قوي جدا، كان لا بد من أن نبدأ بضرب الجيش الصغير أولا، ومفاجأته وخداعه وخداع أمريكا التي تسانده.
 
فؤاد نصار  (7)
وبعد 3 أشهر ضرب لي الرئيس السادات عليه رحمة الله تليفونًا، وقال لي: الثلاثة شهور انتهت ما رأيك الآن؟.. فقلت له: لازم نعمل مفاجأة، أحتاج إلى سنة كاملة.. فقال لي: 9 شهور كفاية، توكل على الله.. وبدأنا نعمل استعدادتنا كمخابرات حربية لتنفيذ خطة الخداع الاستراتيجي، والحقيقة لم تساعدنا أي جهة أو أي جهاز مخابرات حربية عربية حتى المخابرات السورية لم تقدم لنا أي شيء، وقمت بعمل مذبحة وأصدرت نشرة بنقل 20 ضابطًا، من الذين لم يتعاملوا على أننا في حالة حرب عملا بمبدأ كل واحد ينفذ قرار أو يستشهد.
 
والحقيقة أنني عندما ذهبت إلى الاستخبارات الحربية وجدت ضباط يشتغلوا مواقعهم ، وكانت هناك كتيبة اسمها استطلاع المؤخرة ، وحدث فى يوم كنت ذاهب لزيارتها فى الصباح ، فلم أجد القائد . فسألت أين هو ؟ فقالوا لى : إنه موجود فى بيت الرئيس السادات فهو يعرفه من أيام اليمن ، وعلى ثقة وثيقة به فذهبت إلى مكتبي وقررت نقله إلى استطلاع البحر الأحمر . فرض تنفيذ الأمر .
فؤاد نصار  (8)
 
وفى اليوم التالي   كنت في مكتبي فرن جرس التليفون  وفوجئت الرئيس بالسادات يقول لى : مارأيك فى فلان ؟ فقلت له : ضابط ممتاز . فقال لى الرئيس : هل تعرف ماذا فعل فى اليمن ؟ قلت له : ياافندم عارف   . عمل حاجات كثيرة مميزة . قلت له : لانى بأجهز الاستخبارات للحرب فأنا أريد ضابط مقاتل وليس ضابط أمن يذهب لبيت الرئيس . ولم يعقب وبعدها طلعت نشرة بنقل 20 ضابط . فقد كنت أريد ضباطا على قدر من المسؤلية فى الحروب . 
 
أنشأت منظمة سيناء واستقبلت أحد شبابها وعينته برتبة عقيد لتجنيد أفراد من سيناء شمالاً وجنوباً لمدنا بالمعلومات ثم أنشأت قوات خاصة في مبان بها غرف منفصلة. وفوجئنا بتطوع الكثير من أبناء سيناء وتم تدريبهم علي أجهزة اللاسلكي وكيفية الإرسال بالشفرات والإقامة خلف خطوط العدو. وعند عودتهم كنت أقوم بمقابلتهم وتوجيه رسالة شكر لهم من القيادة السياسية علي دورهم البطولي. وفي إحدي المرات طلبوا التصوير معي والمشير أحمد إسماعيل بملابسهم البدوية للاحتفاظ بالصور لتحكي تاريخهم للأبناء والأحفاد وكان بينهم ممرضة في مستشفي غزة لعبت دوراً كبيراً في تدفق المعلومات. 
 
وبالاضافة الى منظمة سيناء فقد كانت توجد كتيبة في المخابرات للاستطلاع خلف خطوط العدو وهي كتيبة  مدربة علي الحصول علي المعلومات واستمر عملها 9 أشهر دون أن يعلم بها أحد وفي أواخر شهر أغسطس 73 أرسلت 20 مجموعة من هذه الكتيبة إلي سيناء استعداداً للحرب وأعطوني معلومات دقيقة وكاملة عما يدور في سيناء ومراقبةحركة المطارات ومخازن الطوارئ ومناطق الحشد العسكري وتحركات القيادات
الإسرائيلية. 
وظلت هذه القوات منذ إرسالها إلي ما بعد الحرب وكان يتولي إعاشتها منظمة سيناء.  الورقة الرابحة  ورغم أن البعض يقوم حاليا بحملة للتشكيك في دور أبناء سيناء في الحرب إلا أننى أؤكد  أن  هذا الكلام عار تماماً من الصحة لأن أبناء سيناء كانوا الورقة الرابحة  في حرب أكتوبر وقدموا أرواحهم وأبناءهم فداءً للوطن. بل كانوا يسارعون في  التطوع لتقديم معلومات عن العدو وكل ما يقال غير ذلك. فهي محاولات  إسرائيلية مكشوفة. 
 
وأتذكر أنه قبل  اندلاع  حرب 6 أكتوبر 1973 قامت إسرائيل بعمل مشروع في بحيرة طبرية ورصدته مخابراتنا وكتبت تقريرا للرئيس السادات قلت فيه: إن إسرائيل تتدرب علي عبور قناة السويس عن طريق  البحيرات المرة التي تشبه بحيرة طبرية. فتم وضع خطة بتواجد فرقة مدرعة في   هذه المنطقة للتصدي للقوات الإسرائيلية وبعد عدة أيام من الحرب ازداد   الضغط علي الجيش السوري وطلبت سوريا تطوير الهجوم لدينا لتخفيف الضغط عليها. وبدأت الفرقة المدرعة في العبور للضفة الشرقية. وفي تلك اللحظة   قامت أمريكا بإبلاغ إسرائيل بالعبور. فقام شارون وفرقته بالهجوم ودخل الثغرة. 
 
وقد فوجئنا أثناء عبور القوات الإسرائيلية للثغرة بقيام صاروخ غريب يدمر كتائب الصواريخ المصرية دون أن يرصد أو تتصدي له صواريخنا والمضادات. فاتصل بي الرئيس السادات  لمعرفة حقيقة هذه التدميرات. وكشف هذا اللغز طبيب ترك الطب وعمل  بالمخابرات في البحوث العسكرية الذي توصل إلي أن هذا الصاروخ أمريكي حديث  ومطور جداً. يستطيع أن يركب شعاع الرادار ويدمر مواقع الصواريخ. فأخبرت السادات بذلك. فقال قولته الشهيرة: "إنني أستطيع أن أحارب إسرائيل وليس أمريكا". 
 
 وفى أثناء الثغرة  كان رجال الاستخبارات الحربية  يتابعون  ما يحدث تفصيلياً في الثغرة وأبلغوني أن ديان جاء إلي الثغرة ليلتقي بالقوات الإسرائيلية. وعلي الفور اتصلت بالسادات. فطلب مني  تحديد موقعه علي مسافة 20 متراً * 20 متراً فأعطي أمرا للقوات الجوية بضرب   هذه المنطقة بالنابالم. وبالفعل نفذت القوات العملية وتم حرق المنطقة  وأبلغت السادات وانتظرنا خبر موت ديان. وفي اليوم التالي جاءتني صور ديان  فوق نخلة والنار تحته مشتعلة وأوصلت هذه الصور للسادات. 
فؤاد نصار  (9)
 
لقد كشفت هذه الحرب عن معجزة أخري بعد أن تفوقت إسرائيل في الحصول علي المعلومات من خلال الإمداد الأمريكي المستمر بالأجهزة المطورة ومدها بمعلومات دقيقة عن طريق الأقمار الصناعية وطائرات الاستطلاع بعيدة المدي.
 
ورغم ذلك أثبتت حرب 1973 أن التفوق المخابراتي لا يتوقف علي المعدات. إنما  علي الإنسان الذي يقف وراء هذه المعدة. لذلك نجحنا في تدريب الأفراد علي  التغلب علي هذه الآلة الإلكترونية وقمنا بملء سيناء بالرادارات البشرية
 
التي تسمع وتري وترصد وتصف وتستنتج. فهي عقول وليست أجهزة العدو الصماء. فقد  حققت المخابرات المصرية مفاجأة من العيار الثقيل ضد عدو يري بالعين المجردة كل ما يحدث أمامه وسلاح مخابراتي كان يعتبر الرابع علي العالم بعد المخابرات الأمريكية والروسية والبريطانية. وكان يعمل بالتعاون المباشر مع المخابرات الأمريكية إلا أن خطة الخداع الاستراتيجي حطمت أسطورة أكبر  جهازي مخابرات في العالم بالعقل المصري الذي خدع الأجهزة المتطورة في  الاستعدادات وموعد الحرب والإجراءات الوهمية حتي تأكدت إسرائيل والعالم أن  الجيش المصري لن يتحرك. 
 
لقد كان أصعب موقف تعرضنا له أثناء حرب أكتوبر هو كيفية عبور المانع المائي. فهو من أصعب العمليات العسكرية وأكثرهاخسائر خاصة أن قناة السويس ذات مواصفات خاصة. فهي عرضها 200متر وشواطئها عمودية مما يصعب استخدام المعدات البرمائية ويقع علي الشاطئ الغربي مانع ترابي من 18 إلي 25 متراً عمودياً علي القناة. وفوقها تحصينات خط بارليف ودشم قوية محصنة ومجهزة بالنابالم علي سطح القناة بدرجة حرارة 700 درجةوبارتفاع متر ونصف المتر مما جعل العسكرية العالمية تؤكد استحالة عبورالمانع إلا باستخدام القنبلة الذرية. 
 
ولكن الإنسان المصري قادر علي عمل المستحيل.. وبالنسبة لمشكلة أنابيب النابالم توصل أحد الضباط لدينا لطريقة لسد الفتحات من خلال نوع من الخشب يتشرب الماء وينتفش ويسد هذه الفتحات. ونجحنا في إغلاقها يوم 5 أكتوبر رغم  أن إسرائيل كانت تقوم بتجربة يومية كل صباح لاختبار أجهزتها ولكنهم في يوم كيبور تأخروا في التجربة حتي العاشرة مساءً وعندما حاولوا معرفة السبب لم  يتعرفوا عليه وجاءوا بالضابط الذي صنع هذه الأنابيب وقبل أن يصل قامت  الحرب ونجحنا في أسر هذا الضابط وتعرفنا منه علي كل ما حدث. وكنت أضع يدي  علي قلبي لحظة العبور خوفاً من أن تتحول القناة إلي جهنم وتحرق جنودنا
بهذا النابالم. وتم العبور بنجاح. 
 
 فالشاهد أن إسرائيل اعتمدت  في دعايتها علي الحرب النفسية وعلي حالة التفوق العسكري  في مختلف الأسلحة ونشوة حرب يونيه إلا أننا لم نخف من ذلك.. ونجح الجندي المصري بإيمانه بالله ووطنه وقضيته من تحطيم أسطورة الجيش الذي لا يقهر. بل وأسر قياداته. 
 
وفى اعتقادى أن حرب أكتوبر غيرت مفاهيم كثيرة في العسكرية علي مستوي العالم وكيفية  عبور القناة والتغلب علي المصاعب والاستيلاء علي خط بارليف في زمن قياسي..  ويتم تدريسها في المعاهد العسكرية كمثل في نجاح المفاجأة في تحقيق الهدف. وكذلك استخدام الزوارق وتغيير أسلوب القتال في القوات البحرية والصواريخ المضادة للطائرات وبناء حائط الصواريخ. واستخدام الأسلحة اليدوية الصغيرة المضادة للدبابات بواسطة الأفراد مما غير مفهوم الصراع بين الدبابة والفرد  في العمليات العسكرية. 
 
.. وأقول لأصدقائي وأبنائى  بعد 44 سنة: يجب  دراسة ما تم في حرب أكتوبر بواسطة الشعب والجيش وأسباب النصر ووضع الرجل  المناسب في المكان المناسب والإخلاص في العمل. 
 
موشيه ديان: 
كان الجنرال موشي ديان وزير الدفاع الاسرائيلى الأسبق يريد فصل سيناء عن مصر واستقلالها .
وبالنسبة لخط بارليف فقد وقف  موشيه ديان عليه وقال: بنينا مقابر للجيش المصري.. وشاء الله أن تكون مقبرة لمن بناها. 
وخلال حرب أكتوبر نجحت الاستخبارات الحربية فى تحديد مكان وجود ديان بدقة عندما  كان بين القوات الاسرائيلية فى الثغرة وتم تصويره بواسطة رجالنا ، وأبلغت السادات بذلك فقال لى : تقدر تحدد مكانه بالضبط ؟ قلت نعم يا افندم . فأعطى الرئيس أوامره لقائد الطيران وقتها اللواء حسنى مبارك بأن يحرق المكان الذى يوجد فيه موشى ديان ، وبالفعل تم حرق المكان بالنابالم ، وجاءنى أن المنطقة مشتعلة وأن ديان وسط النيران وانتظرنا " خبر ديان " ولكنه  نجا بأعجوبة لأنه طلع نخلة وتم تصويره بواسطة رجالى وهو فوق النخلة والنار أسفل منه ، فأخذت الصورة وأعطيتها للسادات وقلت له : ربنا لايريد لديان أن يموت من غير أن يرى هزيمته " .
 وأذكر أن موشيه  ديان  سئل بعد الحرب: كيف تحصل مصر علي كل هذه المعلومات عن جيش إسرائيل  وليست لديها وسائل إلكترونية ولا طائرات استطلاع ولا تأخذ معلومات من دول كبري؟. فكانت إجابته: أن مصر نجحت في استخدام العنصر البشري في خطة الخداع  والتضليل وإخفاء نوايا الحرب. 

إبراهيم الرفاعى : وقصة السلاح المطور 
أما قصة البطل إبراهيم الرفاعى  هو وزملاؤه فى الاستخبارات الحربية ملحمة من ملاحم أكتوبر تستحق أن تروى للأجيال القادمة.فقد وردت إلينا معلومات عن إمداد الولايات المتحدة لاسرائيل بنوع من السلاح يمكنه تدمير القوارب ، وتم تكليف إبراهيم الرفاعى باحضار السلاح كى ندرسه ونحدد مايمكننا عمله لابطال مفعوله . 
وبالفعل نجح الرفاعى فى إحضار السلاح وتم تفكيكه ودراسته ونجحنا فى ابطال مفعوله تماما . 
وبعد كل هذه السنوات أقول إن ابراهيم الرفاعى يستحق كل تقدير واحترام ، فهذا الرجل عبر القناة أكثر من أربعين مرة للقيام بعمليات فدائية خلف خطوط العدو من خلال قيادته للمجموعة 39 .
كانت أول عمليات هذه المجموعة نسف قطار للعدو عن ( الشيخ زويد ) ثم نسف مخازن الذخيرة التى تركتها قواتنا عند أنسحابها من معارك 1967 ، وبعد هاتين العمليتين الناجحتين ، وصل لإبراهيم خطاب شكر من وزير الحربية على المجهود الذى يبذله في قيادة المجموعة .
 
ومع الوقت كبرت المجموعة التى يقودها البطل وصار الإنضمام إليها شرفا يسعى إليه الكثيرون من أبناء القوات المسلحة ، وزادت العمليات الناجحة ووطأت أقدام جنود المجموعة الباسلة مناطق كثيرة داخل سيناء ، فصار أختيار أسم لهذه المجموعة أمر ضرورى ، وبالفعل أُطلق على المجموعة أسم " المجموعة 39 قتال " ، وأختار الشهيد البطل  إبراهيم الرفاعي شعار رأس النمر كرمز للمجموعة ، وهو نفس الشعار الذى أتخذه الشهيد  أحمد عبد العزيز خلال معارك 1948 .
 
كانت نيران المجموعة أول نيران مصرية تطلق في سيناء بعد نكسة 1967 ، وأصبحت عملياتها مصدرًا للرعب والهول والدمار على العدو الإسرائيلي أفرادًا ومعدات ، ومع نهاية كل عملية كان إبراهيم يبدو سعيدًا كالعصفور تواقا لعملية جديدة ، يبث بها الرعب في نفوس العدو .
 
لقد تناقلت أخباره ومجموعته الرهيبة وحدات القوات المسلحة ، لم يكن عبوره هو الخبر أنما عودته دائما ما كانت المفاجأة ، فبعد كل إغارة ناجحة لمجموعته تلتقط أجهزة التصنت المصرية صرخات العدو وأستغاثات جنوده ، وفي إحدى المرات أثناء عودته من إغارة جديدة قدم له ضابط مخابرات هدية عبارة عن شريط تسجيل ممتلىء بإستغاثات العدو وصرخات جنوده كالنساء .
 
ومع حلول أغسطس عام 1970 بدأت الأصوات ترتفع في مناطق كثيرة من العالم منادية بالسلام بينما يضع إبراهيم برامج جديدة للتدريب ويرسم خططا للهجوم، كانوا يتحدثون عن السلام ويستعد هو برجاله للحرب ، كان يؤكد أن الطريق الوحيد لإستعادة الأرض والكرامة هو القتال ، كان على يقين بإن المعركة قادمة وعليه أعداد رجاله في إنتظار المعركة المرتقبة .
 
وصدق حدس الشهيد وبدأت معركة السادس من أكتوبر المجيدة ، ومع الضربة الجوية الأولى وصيحات الله أكبر ، أنطلقت كتيبة الصاعقة التى يقودها البطل في ثلاث طائرات هليكوبتر لتدمير آبار البترول في منطقة بلاعيم شرق القناة لحرمان العدو من الإستفادة منها وينجح الرجال في تنفيذ المهمة .

وتتوالى عمليات المجموعة الناجحة ...
ففي السابع من أكتوبر تُغير المجموعة على مواقع العدو الإسرائيلي بمنطقتي ( شرم الشيخ ) و ( رأس محمد ) وفي السابع من أكتوبر تنجح المجموعة في الإغارة على مطار ( الطور ) وتدمير بعض الطائرات الرابضة به مما أصاب القيادة الإسرائيلية بالإرتباك من سرعة ودقة الضربات المتتالية لرجال الصاعقة المصرية البواسل .
 
في الثامن عشر من أكتوبر تم تكليف مجموعة البطل بمهمة إختراق مواقع العدو غرب القناة والوصول إلى منطقة ( الدفرسوار ) لتدمير المعبر الذى أقامه العدو لعبور قواته ، وبالفعل تصل المجموعة فجر التاسع عشر من أكتوبر في نفس الوقت الذى تتغير فيه التعليمات إلى تدمير قوات العدو ومدرعاته ومنعها من التقدم في إتجاه طريق ( الإسماعيلية / القاهرة ) .
 
وعلى ضوء التطورات الجديدة يبدأ البطل في التحرك بفرقته ، فيصل إلى منطقة ( نفيشه ) في صباح اليوم التالى ، ثم جسر ( المحسمة ) حيث قسم قواته إلى ثلاث مجموعات ، أحتلت مجموعتين إحدى التباب وكانت تكليفات المجموعة الثالثة تنظيم مجموعة من الكمائن على طول الطريق من جسر ( المحسمة ) إلى قرية ( نفيشه ) لتحقيق الشق الدفاعي لمواقعها الجديدة .
 
وما وصلت مدرعات العدو حتى أنهالت عليها قذائف الـ ( آربي جي ) لتثنيه عن التقدم ، ويرفض بطلنا  إبراهيم الرفاعي هذا النصر السريع ويأمر رجاله بمطاردة مدرعات العدو لتكبيده أكبر الخسائر في الأرواح والمعدات .
وبينما يخوض رجال المجموعة قتالاً ضاريا مع مدرعات العدو ، وبينما يتعالى صوت الآذان من مسجد قرية ( المحسمة ) القريب ، تسقط إحدى دانات مدفعية العدو بالقرب من موقع البطل ، لتصيبه إحدى شظاياها المتناثرة ، ويسقط الرجل الأسطورى جريحًا ، فيسرع إليه رجاله في محاولة لإنقاذه ، ولكنه يطلب منهم الإستمرار في معركتهم ومعركة الوطن ..ويلفظ البطل أنفاسه وينضم إلى طابور الشهداء .

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق