سنوات السيسي.. الحلقة الرابعة: وقفة مع الصديق الأمريكي
الإثنين، 02 أكتوبر 2017 06:25 م
إن للعلاقات المصرية الأمريكية تاريخ مليء بالشك والتخبط، فقد ظلت واشنطن تتطلع إلى القاهرة وتهتم بأخبارها، منذ استقلال الولايات المتحدة عن بريطانيا عام 1776، وقد لعبت مصر دور في أولى حروب أمريكا خارج أرضها إلا وهي الحرب البربرية الأولى (1801 – 1805) كما يطلق عليها الغرب وهي حملة عسكرية شنها الأمريكان – في زمن الرئيس الثالث توماس جيفرسون – على إيالة طرابلس العثمانية (ليبيا) بغتة تأديب حكامها بسبب قرصنة سفن تجارية أمريكية.
وقد سمح الحكام العثمانيين لمصر، بأن تنفذ البحرية الأمريكية إنزالاً عسكرياً في الإسكندرية ثم التوجه براً إلى ليبيا لاحتلالها، وذلك في أبريل 1805 قبل شهر واحد من ثورة المصريين وخلع الحاكم العثماني وتنصيب محمد على حاكماً لمصر، و قد انتهت الحرب باحتلال أمريكا لمدينة درنة لبعض الوقت قبل أن تقبل طرابلس بإتفاق ينهي القرصنة.
وحينما وقع الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 وبدء الإستيطان الصهيوني الفعلى لفلسطين في نفس العام، لم يصدر موقف رسمي من الحكومة الامريكية، ولكن ساسة وأفراد شجعوا هذا الاحتلال وذاك الاستيطان، وعقب نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة 1919 التي دعت إلى إرسال وفد مصري إلى مؤتمر الصلح بقيادة سعد زغلول لعرض القضية المصرية، فإن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون الذى ينصبه البعض محرراً للشعوب لم يعترض على المطلب البريطاني بتهميش الوفد المصري وعدم عرض القضية المصرية بل و اعترف بالحماية (الاحتلال) البريطاني لمصر عقب 24 ساعة من وصول الوفد المصري لفرنسا وأدان محاولات "الشعب المصري للحصول على قسط آخر من الحكم الذاتي بالالتجاء إلى العنف" !، وقد عاد زغلول من باريس كما ذهب.
وقد سبق وأن زار الرئيس الأمريكي كيرميت روزفيلت مصر بداية القرن العشرين بعد أن غادر السلطة، ووبخ المصريون علناً على مطالبهم بالدستور والاستقلال والجلاء!
ولاحقاً عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية وبداية التنافس الأمريكي السوفيتي على التركة الاستعمارية، وتخوف واشنطن من الزحف الشيوعي على القاهرة، تعاونوا اولاً مع الملك فاروق، ولاحقاً حينما وصل الرئيس جمال عبد الناصر للحكم انقسمت واشنطن بين فريقين الأول يرى التعاون مع تيار القومية العربية مقابل دحرهم للشيوعية و فريق آخر رأى أن القومية العربية جزء من الأيدولوجية الشيوعية التي يجب على أمريكا محاربتها.
وقد استمر الشد والجذب بين أركان النظام الأمريكي في سنوات دوايت آيزنهاور وجون كيندي الذى كان أكثر ميلاً في التعاون مع عبد الناصر ولكن بعد اغتياله حسم الفريق المعارض للتعاون مع القوميين العرب المعركة في واشنطن وانتهت محاولات إصلاح العلاقات بين القاهرة وواشنطن وانحياز واشنطن الكامل لتل آبيب.
وأتت نكسة يونيو 1967 بمشاركة الطيران الأمريكي والبريطاني في ضرب المطارات المصرية، ثم ردت مصر اعتبارها في حرب أكتوبر 1973، فما كان من أمريكا إلا أن مدت جسر جوي لامداد إسرائيل بالسلاح الفوري، ثم شارك الطيران الأمريكي وبعض الفرق الخاصة الأمريكية بالإضافة إلى الأقمار الصناعية المتطورة مع إسرائيل ضد مصر، وصولاً إلى أوامر أمريكية صريحة لتل آبيب بعدم الامتثال لوقف إطلاق النار لتعديل موقفها على أرض المعركة.
ظفرت مصر بــ 15% من أرض سيناء بالحرب، ولكن المفاجأة الاستخباراتية وأداء القوات المسلحة خاصة سلاح الطيران وخطة الخداع الاستراتيجي جعلت العالم يدرك أن الأمة المصرية لا زلت حافظة لحيويتها.
في هذا التوقيت كانت أمريكا تستعد لخوض معركة حاسمة من معارك الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، والحرب الباردة كانت سلسلة حروب بالوكالة، حيث من المهم في كل إقليم أن يكون لك أكبر قدر ممكن من الأصدقاء والا تترك لعدوك طرف يمكن ان يتخذه صديق.
وحينما وصل جيمي كارتر لسدة الحكم في أمريكا كان أكثر استعداداً لفكرة أن مصر يجب أن تصبح في المعسكر الأمريكي مهما كان الثمن، وأن الترتيبات المقبلة – وقتذاك – للشرق الأوسط لن تتحمل الصراع العربي الإسرائيلي وأنه يمكن ضم سوريا والعراق أيضا، مع إعطاء حكم ذاتي للفلسطينيين في قطاع غزة، وذلك مقابل إجلاء الاتحاد السوفيتي من الشرق الأوسط وتحديداً من القاهرة ودمشق وبغداد.
وفى مقابل فك ارتباط القاهرة نهائياً بالمعسكر الشرقي والاتحاد السوفيتي، ستتلقى مصر مساعدات عسكرية واقتصادية سنوية ثابتة، بالإضافة إلى تقارب مصري – أمريكي استراتيجي، و تنسيق مصري غربي في مختلف قضايا المنطقة.
وفى الواقع، إن مصر لم تصل لهذه المعادلة منتصف السبعينات بسبب العرض الأمريكي بقدر ما كان انتصار أكتوبر هو من وفر لمصر، أن تتلقى عرضاً كهذا من قوى عظمي، وكانت رؤية الرئيس السادات أن الاتحاد السوفيتي إلى زوال، وانه من الأفضل لمصر أن تحسب على الطرف المنتصر في الحرب الباردة، لأنه لو حدث وانهيار الاتحاد السوفيتي ومصر محسوبة على موسكو، فإن ويلات الانهيار السوفيتي سوف تصيب القاهرة حتماً.
ورحل السادات عن علمنا دون أن يرى ويلات انهيار الاتحاد السوفيتي لا تشق الإمبراطورية السوفيتية فحسب، بل يصل تأثير الانهيار إلى أوروبا الشرقية، ثم البلقان وتقسيم يوغوسلافيا.
ومن أجل إتمام رؤية السادات، أطلق مبادرة السلام، وكان هزلياً ردود الأفعال البعثية والناصرية والإخوانية التي يعتنقها بعض الليبراليين والاشتراكيين حتى اليوم، ففي واقع الأمر أن ألف باء سياسة أنه عقب كل حرب تقوم الأطراف المتصارعة بعمل مؤتمر لتوقيع اتفاق سياسي يتم عبره تسجيل ما كسبه وخسره كل طرف، ويطلق على هذا المؤتمر بروتوكولياً مؤتمر الصلح أو مؤتمر السلام.
وبالتالي لم يكن ذهاب الرئيس السادات لمائدة التفاوض أمراً جديداً، فقد جرى هذا الأمر منذ فجر التاريخ، منذ زمن الملك رمسيس الثاني مع الحيثيين وصولاً لسعد زغلول في مؤتمر الصلح بباريس!، ومن يتخلف عن حضور تلك المؤتمرات يخسر ما أنجزه في الحرب، تماماً كما خسرت سوريا البعثية حتى اليوم فرصة الظفر بالجولان عبر مائدة المفاوضات بعد أن خسرت ورقة حرب أكتوبر بالتخلف عن مؤتمر مينا هاوس في القاهرة.
استغلوا وحتى اليوم جهل الناس بعلوم السياسة، ثم رددوا بأن ما جرى اعتراف بإسرائيل، وفى الواقع ما جرى لم يكن رفض اعتراف بل حالة إنكار نفسية، إذ إن الكيان الذى مكث على الضفة الشرقية لقناة السويس وكان على بعد أربع ساعات من العاصمة المصرية، أو على بعض بضعة كيلومترات من العاصمة دمشق يوم رفض حافظ الأسد وقف إطلاق النار في أكتوبر 1973، لم يعد بحاجة بكل أسف إلى اعترافنا، فالعالم كله اعترف به قوة إقليمية استطاعت هزيمة جيوش المنطقة جمعاء أكثر من مرة.
والأهم من ذلك أن جميع الدول العربية التي خاضت حرب فلسطين 1948 قد عقدت اتفاقيات الهدنة 1949، والتي تعتبر اتفاقيات سلام بلغة السياسة بين الأطراف العربية وإسرائيل، فالاعتراف الضمني قد تم، واتفاقيات وقف إطلاق النار التي تعتبر اتفاقيات سلام قد تم، و الجلوس المباشر قد تم، بل وتم ما هو أكثر ثقيلاً من ذلك فقد تقابل خلف الستار العديد من الحكام العرب مع مسؤولين إسرائيلين، مثل الملك المغربي الحسن الثاني والرئيس السوري حسني الزعيم وملك الأردن عبد الله الأول والحسين بن طلال وغيرهم.
أما عن بنود الاتفاقية المصرية الإسرائيلية فلا بنود سرية، وقد حصلت مصر على 85 % من سيناء بدون حرب، مقابل شقة ايجار في عمارة سكنية مطلة على حديقة الحيوان، وكافة البنود الخاصة بالانتشار العسكري في سيناء كان يمكن وقت الجد كسرها وهو ما تم منذ 28 يناير 2011 لليوم.
أما من تخلف عن مينا هاوس ومؤتمرات السبعينات، فقد هرول عقب انهيار الاتحاد السوفيتي من أجل الظفر ببقايا ما كان سيعرض عليه في هذه القمة، الرئيس السورى حافظ الأسد أرسل وزير خارجيته فاروق الشرع لمقابلة رئيس الوزراء الإسرائيلي في قمة علنية بواشنطن و لم تفضى إلى شيء، بعد أن عزم عن إطلاق رصاصة واحدة لاسترداد الجولان منذ عام 1973 حتى اليوم، و اقتنع شعبه أن استرداد الجولان يبدأ باحتلال لبنان، ثم دعم حركة حماس وشن الحملات الصحفية ضد مصر، هذا كان مفهوم استرداد الجولان في الرؤية البعثية.
وياسر عرفات الذى رأى أيضا أن الطريق إلى فلسطين يبدأ بأحداث أيلول في الأردن، ولما فشل في تفجير الأردن من الداخل لعب الأمر ذاته في ثنايا الحرب الأهلية في لبنان، وبعد أن أفلس وانهار الاتحاد السوفيتي هرول تحت ستار الظلام إلى أوسلو ليظفر باتفاق الحكم الذاتي الذى كان يمكن أن يناله عام 1977، ولكنه لم يظفر به إلا عام 1995، وللمفارقة أيضا في القاهرة حينما وقعت اتفاقية غزة أريحا، نفس ذات الورقة التي وضعت أمام كراسي وفد منظمة التحرير الفلسطينية، كل ما جرى هو إخراجها من أدراج مكاتب الدولة المصرية.
لم يكن مناحم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي موافقاً على ما جرى، وقد ضغطت أمريكا على بيجن، ورد بيجن والمحافظين الجدد ولوبي الصهيونية وإسرائيل في واشنطن بأنه أتم ولايته الأولى والأخيرة بصعوبة وخسر في نوفمبر 1980 الانتخابات الرئاسية أمام رونالد ريجان.
وعلى ضوء الهزيمة الدبلوماسية الإسرائيلية، إذ لم تحصد القاهرة أرضها المحتلة فحسب، بل حجزت لنفسها دور في المنظومة الأمريكية، علماً بأن إسرائيل تريد وإلى اليوم أن تكون الصديق الأول والأخير لأمريكا في المنطقة، وأي دور مصري في المعادلة الأمريكية هو دور مرفوض، لذا بدأت خطة لتشويه ما جرى، سواء عبر كتابات صحفية أو مؤلفات هنرى كسينجر، وكان مؤلماً أن أقلام مخضرمة بثقل الراحل محمد حسنين هيكل نقلت من كتب كسينجر دون النظر إلى أن ما جرى هو ألف باء السياسة عبر العصور.
وإلى اليوم تقف الصهيونية خلف تشويه الدور المصري أو التقارب بين أمريكا ومصر، وكافة الكتابات التي تساق في هذا الملف منذ سنوات السادات ومبارك لليوم هي ديباجات صهيونية بأقلام مصرية لا أكثر ولا أقل، مهما لعبت إسرائيل لعبة توزيع الأدوار وأبدت سعادتها بهذا الدور.
وعقب انتهاء الحرب الباردة، كان يمكن لأمريكا أن تبدأ في إعادة جدولة المعادلات الأمريكية في الشرق الأوسط، خصوصا دور القاهرة، ولكن العالم انشغل في مرحلة انتقالية أثناء سنوات بيل كلنتون، في تصفية يوغوسلافيا ورؤيته أن يتم حل النزاع في الشرق الأوسط سلمياً قبل أن تبدأ أمريكا العمليات العسكرية في الدول الشرقية.
ومع مجئ إدارة بوش الابن، بدأت أمريكا تعيد تقييم العلاقة مع القاهرة، فمن جهة زمن التهديد بالذهاب إلى الاتحاد السوفيتي قد انتهى، ومن جهة أخرى يرى المحافظين الجدد أن الأولوية لإسرائيل في المنطقة، ومن جهة ثالثة كانت القاهرة تقع في قلب الفوضى الخلاقة التي تريدها أمريكا.
ورغم معرفة القاهرة لجزء كبير من تفاصيل الموجة الأمريكية التي استكملها أوباما في سنوات الربيع العربي، إلا أن أداء القاهرة كان دفاعياً، واتسم بالضعف، ولعل سبب ذلك هو ضعف الجبهة الداخلية، والفواتير السياسية المكلفة للدولة بسبب صعود مشروع التوريث والسؤال الشعبي المستمر عن اسم الرئيس المقبل وهو تساءل منطقى ليس لاسباب دستورية فحسب ولكن لأن الرئيس مبارك كان قد تجاوز الثمانون عاماً.
وحينما وقعت الواقعة في يناير 2011، بدا واضحاً أن واشنطن ترحب بما يجرى في القاهرة، حتى لو أشارت بعض التقارير أن إدارة أوباما لم تتوقع الانفجار الآن، أو أنها لم تسيطر على بعضاً من فصوله، أو أن عوامل خارجية غير أمريكية وداخلية مصرية تشاركت في الانفجار، ولكن في نهاية المطاف، لم تكن واشنطن في صف القاهرة يومذاك.
وزاد الأمر تعقيداً الضغوط الأمريكية خلال المرحلة الانتقالية الأولى، وقد أصبح واضحاً أن هنالك تملص أمريكي واضح من العلاقات الاستراتيجية بين البلدين، أو نقلها من الدولة المصرية إلى تنظيمات إرهابية مصرية.
وفى واقع الأمر أن أمريكا كانت تريد من فوضى الربيع العربي، أن تصنع من الشرق الأوسط أكبر قاعدة عسكرية للإرهاب في العالم لتنفجر في وجه روسيا والصين وحتى الإسلام السياسي بشقه السني ممثلا في الإخوان وداعش وشقة الشيعي ممثلا في إيران، ولم تكن مصر هي الثمن فحسب بل كان هنالك استعداد للتضحية بكافة دول الخليج العربي في هذا الإطار.
ولعل هذا المخطط هو سبب تدخل روسيا عسكريا في سوريا، وكانت فكرة بوتين أنه من الأفضل للكرملين أن يحارب في محيط دمشق وحلب بدلاً من أن يحارب في ضواحي موسكو وسان بطرسبرج.
ثم أتت الضغوط الامريكية لتسليم الحكم لتنظيم الإخوان، لتدرك الدولة المصرية أن المعالجات المصرية لم تعد تجدي، وأنه يجب نقل مستوى التعامل من المهادنة إلى التحدي الصريح، وذلك عشية ثورة 30 يونيو 2013.