موسى..الرضيع الذى أغرق الفرعون

الثلاثاء، 05 سبتمبر 2017 09:00 م
موسى..الرضيع الذى أغرق الفرعون
صورة
السعيد حامد

فى أثناء العاصفة الهوجاء التى مرت ببنى إسرائيل فى مصر، والأهوال التى لاقوها، كان رجل عبرانى يقال له عمران بن قاهت لاوى بن يعقوب عليه السلام، قد تزوج من «يوكايد بنت لاوي» التى ولدت له موسى عليه السلام، ولما ولدته خبأته عن عيون من يطلبون أطفال بنى إسرائيل لقتل ذكورهم، فمكث عندها 3 أشهر فلما خافت افتضاح أمرها، أعلمها الله وعلمها أن تصنع له ما يشبه الصندوق وتطليه بالحمر والزفت وتلقيه فى اليم.
 
ففعلت وطلبت من أخته أن تتبع أثره، فلم تزل أخته تراقبه حتى علمت أنه التقط وأدخل دار فرعون، وأن عين زوجة فرعون وقعت عليه فألقى الله عليه محبتها، فاستحيته وأبقته ليكون قرة عينها وعين فرعون راجية أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا.
 
وقد سُلط فرعون على بنى إسرائيل يُذيقهم العذاب يذبح أبناءهم ويستبقى نساءهم للخدمة ويستخدم الرجال منهم فى أخس الصنائع والحرف، ومن لم يكن منهم أهلًا للعمل كان يأخذ منه الجزية.
 
أراد الله سبحانه وتعالى أن يفرّج عن بنى إسرائيل فبعث إليهم موسى عليه السلام لينقذهم من شر فرعون، فكانت بعثته عليه الصلاة والسلام رحمةً لبنى إسرائيل.
 
رأى الفرعون فى منامه رؤيا أفزعته، فقد رأى كأن نارًا قد أقبلت من جهة بيت المقدس حتى وصلت إلى مصر، وأحاطت بدورها وبيوتها فأحرقتها وتركت بنى إسرائيل دون أذى، فلما استيقظ جمع الكهنة والسحرة والمنجمين وسألهم عن تأويل هذه الرؤيا وتفسيرها، فقالوا له: هذا غلام يولد من بنى إسرائيل يكون سبب هلاك أهل مصر على يديه، ويكون ذهاب ملكك على يديه أيضًا، ويخرجك وقومك من بلدك ويبدل دينك، وقد أظلك زمانه الذى يولد فيه، لذلك أمر فرعون أن يقتل كل غلام يولد فى بنى إسرائيل.
 
أمر فرعون بقتل كل الأطفال الذين هم فى زمانه وبقتل من بعدهم، وأخذ جنوده يعذبون الحبالى من نساء بنى إسرائيل حتى كانت المرأة منهم تسقط حملها خوفًا من التعذيب والتنكيل.
 
أراد الله لموسى أن يختبئ من بطش فرعون، فى كنفه، لكن رحمة الله التى وسعت كل شىء، أبت إلا أن ترجع موسى لأمه لترضعه فلم يقبل على ثدى إحداهن، فعرضت أخته على آل فرعون أن تدعو لهم امرأة عبرانية ترضعه وتكفله، وأنها تكون له ناصحة مشفقة تقوم له مقام الأم، فوافقت زوجة فرعون، وعاد لإمه فأقبل على ثديها.
 
وبعد أن أتمت رضاعته أتت به إلى بيت فرعون وتولى البلاط الفرعونى تربيته، كما كانوا يربون أبناء الملوك فى ذلك العهد بواسطة الكهنة ورجال الدين، فحصل موسى على تعليم راقى تصديقا لقوله تعالى «وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا .. وَكَذَٰلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ».
 
ذات يوم ركب فرعون مركبًا وليس عنده موسى عليه السلام فلما جاء موسى ركب فى إثره يتبعه فأدركه المقيل فى مدينة من مدن مصر القديمة، وبينما هو يتجول فى طرقها وكان الوقت وقت ظهيرة والأسواق مغلقة والناس فى بيوتهم وجد رجلين يقتتلان أحدهما من بنى إسرائيل والآخر من آل فرعون، فلما مر موسى استغاث به الإسرائيلى ليخلصه من شر ذلك المصري، فأقبل موسى عليه السلام عليه يمنعه من الاعتداء ويدفع الأذى عن ذاك الإسرائيلى فضربه موسى فقتله.
 
ندم موسى عليه السلام على ذلك، وتاب إلى الله} قَالَ رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ}.
 
دخل موسى المدينة خائفًا على نفسه من فرعون وأتباعه ويترقب، ولم يكن أحد من الناس قد رأى موسى يقتل إلا ذاك الرجل الإسرائيلي.
ذهب أتباع فرعون إليه وقد أغضبهم قتل واحد منهم، وقالوا له: إن بنى إسرائيل قتلوا رجلًا منا فخذ لنا بحقنا، فقال لهم فرعون: ائتونى بقاتله لآخذ لكم حقكم.
وبينما هم يطوفون يبحثون عن القاتل، وقعت حادثة أخرى فى اليوم الثانى بين ذاك الإسرائيلى ورجل آخر من أتباع فرعون فى الوقت الذى كان موسى يمر فيه فاستغاثه الإسرائيلى على خصمه، فتقدم موسى نحو الإسرائيلى والغضب على وجهه وسمعه ويقول له {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ} فظن أنه يريد أذيته فقال لموسى: أتريد أن تقتلنى كما قتلت نفسًا بالأمس، فسمع الناس هذا الكلام وانطلقوا مسرعين إلى فرعون وجماعته وأخبروه بالأمر .
 
 ما كان من فرعون لما سمع هذا الخبر إلا أن أمر جنده أن يبحثوا عن موسى ويأتوه به ليقتله، حتى لا يتجرأ أحد من بنى إسرائيل على قتل أحد من أتباعه، فذهب الجند يفتشون ويبحثون عن موسى عليه السلام فى طرقات المدينة.
 
 كان هناك رجل مؤمن من آل فرعون يدعى «حزقيل» قد علم بأمر فرعون وموسى، فما كان منه إلا أن سبقهم إلى موسى وطلب منه أن يخرج من مصر خوفًا عليه فخرج موسى إلى أرض «مدين» - بلاد واقعة بالقرب من خليع العقبة جنوب فلسطين - ودعا ربه أن يهديه الطريق إليها وأن ينجيه من شر فرعون، فقد خرج على عجل، ولم يتزود للطريق ولم يعد للسفر عدته، فظل موسى يمشى مسيرة ثمانية أيام حتى وصل إلى مدين.
 
 ولما اشتد به الجوع والتعب، جلس تحت ظل شجرة فأبصر امرأتين وكانتا أختين ترعيان الأغنام وتريدان سقى أغنامهما من بئر كبيرة، وكان الرعاة يسقون مواشيهم منها وكانت هاتان الأختان تحبسان غنمهما لئلا يختلط بغنم الآخرين، فأشفق موسى عليهما فسألهما عن سبب رعايتهما الغنم بأنفسهما، فأخبرتاه بأن أباهما شيخ كبير وليس عنده من الأولاد الذكور من يرعى له هذه الأغنام.
 
 ولما فرغ الرعاة من البئر أعادوا صخرة كبيرة عليها، وكانت هذه الصخرة لا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فتقدم موسى نحو الصخرة الكبيرة فرفعها وحده ثم استقى منها الماء وسقى لهاتين الفتاتين غنمهما ورد الحجر مكانه، فلما فرغ من ذلك انصرف إلى ظل شجرة وجلس تحتها يدعو الله تعالى ويشكره.
رجعت المرأتين إلى أبيهما نبى الله شعيب عليه السلام مسرعتين وأخبرتاه بخبر موسى، وكيف سقى لهما غنمهما وأخبرتاه بقوته، وطلبتا منه أن يكرمه على هذا الصنيع الحسن معهما، فسُرّ شعيب عليه السلام لحسن صنيع موسى وبعث إحدى ابنتيه هاتين لدعوته إليه، فجاءت إلى موسى تمشى على استحياء ووقار وحشمة وطلبت منه أن يذهب معها إلى أبيها ليجزيه على عظيم صنعه معها ومع أختها وعلى سقيه غنمهما.
 قام معها موسى وقال لها: امشى خلفى وأخبرينى باتجاه الطريق فإنى أكره أن تُصيب الريح ثيابك فتصف جسدك، فمشت خلفه تصف له الطريق حتى وصل إلى أبيها، فلما جاءه أخبره بأمره من حين وُلد والسبب الذى أخرجه من أرض مصر، فلما سمع نبى الله شعيب خبر موسى طمأنه قائلًا له: لا تخف نجوت من القوم الظالمين، فلا سلطان لفرعون وجنده فى أرض مدين.
وطلبت إحدى الفتاتين وقيل إسمها «صفورا» من والدها أن يتخذ موسى أجيرًا قائلة له:{ يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}، فقرر شعيب أن يزوّجه ابنته التى أحضرته على أن يرعى له الغنم ثمانى سنين يكون فيها أجيرًا عنده وإن شاء يتممها عشرًا، وهو ما فعله موسى تفضلًا منه.
 
وما أن أنهى موسى السنوات العشر اشتاق لأهله فأراد زيارتهم فى بلاد مصر فسار بأهله فى ليلة مظلمة باردة ومعه ولداه وغنم قد استفادها فى مدة مقامه فى مدين، وبينما هو فى الطريق، تاه موسى مع أهله، وكانت زوجته حاملًا، فأخذها الطلق فى تلك الليلة التى عمها المطر والرعد والبرق، وأراد أن يشعل نارًا فلم يستطع إلى ذلك سبيلًا، وبينما هو كذلك أبصر من جانب الطور نورًا فحسبه نارًا، يقول الله تعالى :{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّى آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}.
 
وتقدم موسى عليه السلام فلما وصل قريبًا من جبل الطور فى واد اسمه “طوى” رأى نورًا عظيمًا ممتدًا من عنان السماء إلى شجرة عظيمة خضراء، فتحيّر هناك موسى وناداه ربه، قال تعالى:{ إِنِّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى* وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى*إِنَّنِى أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}
أمر الله تعالى موسى أن يخلع نعليه لينال بقدميه الأرض المباركة، وقال الله تعالى:{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}، فأمره تعالى أن يلقى العصا التى كانت بيمينه، فألقاها فانقلبت حية عظيمة سريعة المشى لها ضخامة هائلة وأنياب عظيمة، فلما رأها موسى ولّى مدبرًا ولم يلتفت وناداه ربه سبحانه وتعالى يطمئنه:{يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}، فلما رجع موسى، أمره الله تعالى أن يمسكها:{قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}، فلما وضع عليه السلام يده عليها عادت الحية فى يده كما كانت عصا بقدرة الله سبحانه وتعالى.
ثم أمره الله تبارك وتعالى أن يدخل يده فى جيبه ثم أمره بإخراجها فإذا هى بيضاء تتلألأ كالقمر بياضًا من غير سوء ومرض أى من غير برص ولا بهق، قال تعالى:{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِى تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}.
 
لما كلم الله سبحانه وتعالى عبده ونبيه موسى عليه السلام وجعله نبيًا ورسولًا أمره أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وتوحيده تعالى وترك الكفر والإشراك، فطلب موسى عليه السلام من ربه أن يبعث معه أخاه هارون ليكون معه فى طاعة الله ومعينًا له على تبليغ الرسالة، فاستجاب الله تعالى دعوته، يقول الله تبارك وتعالى:{قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَايَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}.
والحاصل أن الله تعالى استجاب لموسى طلبه وأخبره بأنه سيجعل معه أخاه هارون معينًا له ووزيرًا، وطمأنه بأن فرعون وجنده لن يصلوا إليه وإلى أخيه هارون بقتل ولا ينالون منهما.
 
قال المفسرون: إن فرعون كان قد وضع موسى عليه السلام وهو طفل صغير فى حجره، فأخذ موسى بلحية فرعون ومدها بيده فهمّ فرعون بقتله فخافت عليه زوجته “أسيا” وقالت لفرعون: إنه طفل لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمت إليه جمرتين ولؤلؤتين فإن اجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل فلما وضعت الجمرتين أمام موسى عليه السلام أخذ موسى جمرة من الجمرتين ووضعها فى فمه فأحرقت لسانه وصار فيه عقدة خفيفة من أثر هذه الجمرة، وقد سأل موسى ربه لما نزل عليه الوحى أن يزيل هذه العقدة من لسانه فاستجاب الله له وأذهبها عنه، قال الله تعالى:{وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى * يَفْقَهُوا قَوْلِي}.
 
سار موسى عليه السلام بأهله نحو مصر حتى وصلها ليلًا وكان هارون عليه السلام يومئذ غائبًا بمصر، فأوحى الله تعالى إليه أن يلتقى أخاه موسى ويخبره أنه قد جعله وزيرًا له ورسولًا معه، والتقى هارون موسى فلما اجتمعا قال موسى لأخيه هارون: إن الله أمرنى أن أتى فرعون فسألته أن يجعلك معى فانطلق معى إليه، وانطلق موسى وهارون عليهما السلام إلى قصر فرعون ليلًا، وطلب موسى من البواب أن يأذن له بالدخول على فرعون.
 
 سأل البواب موسى: وماذا أقول لفرعون؟ أجابه موسى: قل له جاءك رسول رب العالمين، ففزع البواب من كلام موسى ودخل على فرعون مرعوبًا وقال له: إن بالباب إنسانًا مجنونًا يزعم أنه رسول رب العالمين، فأخذت فرعون رعدة وهيبة وأمر بوابه بإدخاله مع أخيه، فلما دخلا على فرعون فى قصره دَعَواه إلى عبادة الله وحده لا شريك له فى الألوهية والدخول فى دين الله وبلّغاه ما أرسلا به، وأن يفك أسر بنى إسرائيل من قبضته وقهره وسطوته ويتركهم يعبدون الله تعالى وحده ويتفرغون لعبادته، وهنا تكبّر فرعون فى نفسه وعتا وطغى وأخذته العزة بالإثم ونظر إلى موسى وهارون بعين الازدراء، وقال لهما: وهل يوجد إله غيري؟
ولما تحقق فرعون من موسى وعلم أنه الذى تربى فى بيته وقصره ثم كان من أمره ما كان، قال لموسى:{قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِى فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قال فعلتُها إذًا وأناْ مِنَ الضَّالين* فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِى رَبِّى حُكْمًا وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُرْسَلِينَ}.
 
وأخذ فرعون يجادل موسى وجحد وجود الله الخالق الصانع وزعم أنه هو وحده الإله، يقول الله تبارك وتعالى إخبارًا عما جرى بين نبيه موسى عليه السلام وفرعون من الجدال والمناظرة:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ*قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}.
 
بعد أن قامت الحجج على فرعون وانقطعت شبهه الألواهية ولم يبق له إلا العناد والتكبر عدل إلى استعمال سلطانه وجاهه وسطوته وجبروته، يقول الله تعالى حكاية عنه:{قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ}.
 
لذلك خافه فرعون ووثب فزعًا، ثم أدخل موسى يده البيضاء فى جيبه وأخرجها فإذا هى بيضاء كالثلج لها نور يتلألأ ثم ردّها فعادت كما كانت بقدرة الله ومشيئته، ومع هذا كله لم يقتنع فرعون بشيء من ذلك بل استمر على كفره وطغيانه.
 
دعا فرعون جماعته واستشارهم فى أمر موسى عليه السلام وما رأى منه، فأشاروا عليه أن يجمع السحرة ليبطلوا ما جاء به موسى:{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ}، ففعل فرعون ما طلبوا منه وذهب يجمع السحرة من كان بلاد مصر، وكانت فى ذلك الزمان مملوءة سحرة متمكنين فى سحرهم حتى اجتمع له خلق كثير وجمع غفير منهم، فكانوا سبعين ساحرًا وقيل أكثر من هذا بكثير، ولما اجتمعوا عند فرعون طلب منهم فرعون أن يجمعوا قواهم ويوحدوا هدفهم وجهودهم ليبطلوا بزعمه سحر موسى، وأخذ فرعون يُغريهم بالمال والمنصب وأنه جاعلهم من خاصته فيما إذا تمكنوا من موسى وغلبوه بسحرهم، قال تعالى:{فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ * وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ * لعلَّنا نتَّبِعُ السَّحرةَ إن كانوا هُمُ الْغَالِبِينَ * فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قالَ نعم وإنَّكم إذًا لمنَ المُقرَّبين}.
 
 وجاء موسى حاملا عصاه فى يده ومعه أخوه هارون فى الموعد المحدد، وكان فرعون جالسًا مُستشرفًا بأهبة فى مجلسه مع أشراف قومه من الأمراء والوزراء ومعهم السحرة، فأقبل موسى نحو السحرة:{قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ}، ولما اصطفّ السحرة ووقف موسى وهارون تجاههم:{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى*قَالَ بَلْ أَلْقُوا}، وكان هذا تهكمًا بهما، يقول الله تبارك وتعالى:{قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}، وقال الله تعالى:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}.
وأمام هذا الموقف المثير المستغرب أوجس نبى الله موسى فى داخل نفسه خيفة حيث خاف على الناس أن يفتنوا بسحر السحرة قبل أن يلقى ما فى يده، ولكن الله سبحانه وتعالى ثبّته أمام هذا الجمع الزاخر من السحرة وأوحى إليه أن {لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى}، وأمره تعالى أن يلقى عصاه التى كانت فى يده، فلما ألقاها عليه السلام إذا هى تنقلب إلى حية حقيقية عظيمة ذات قوائم وعنق عظيم وشكل هائل مزعج، بحيث إن الناس الذين كانوا بالقرب منها هربوا سراعًا، وأقبلت هذه الحية على ما ألقاه السحرة من الحبال والعصى والتى خُيّل للناس الحاضرين أنها حيات تسعى فجعلت تلقفه وتبتلعه واحدًا واحدًا وفى حركة سريعة والناس ينظرون إليها متعجبين لهول ما رأوا.
 
وأما السحرة فقد كشف الله تعالى عن قلوبهم غشاوة الغفلة وقذف فيها الاهتداء والإيمان، لذلك أمنوا وخرّوا له ساجدين وأقرّوا بوحدانية الله تعالى، وأن ما جاء به موسى ليس من قبيل السحر، إنما هو آية من آيات الله تعالى الباهرة لتكون برهانًا ساطعًا على صدق موسى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَايَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ*قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ*رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}.
 
ولما رأى فرعون هؤلاء السحرة قد أعلنوا على الملإ إسلامهم وإيمانهم أفزعه ذلك وأعمى بصيرته، وكان فيه كيد ومكر وخداع فى الصدّ عن سبيل الله، فأراد أن يستر هزيمته ويستعيد هيبته فقال مخاطبًا السحرة بحضرة الناس:{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}.
 
ومع ذلك ثبت السحرة على الإيمان والإسلام ولم يبالوا بوعيد فرعون وتهديداته:{ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِى هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى}.
 
ونفّذ فرعون الطاغية تهديده ووعيده فصلب هؤلاء السحرة الذين أمنوا وتابوا وقطّع أيديهم وأرجلهم وقتلهم ليُروى غليله الحاقد دون أن يستطيع ثنيهم عن الإيمان والإسلام، فماتوا شهداء أبرار قد نالوا الدرجات العلى رضوان الله عليهم أجمعين.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق