زكريا..الكفيل الذى رضاه ربه بالوريث

الثلاثاء، 05 سبتمبر 2017 09:00 م
زكريا..الكفيل الذى رضاه ربه بالوريث
صورة
طلال رسلان

عبد صالح تقى أخذ يدعو للدين الحنيف، كفل مريم العذراء، دعا الله أن يرزقه ذرية صالحة، فوهب له يحيى الذى خلفه فى الدعوة لعبادة الله الواحد القهار.
فى ذلك العصر القديم.. كان هناك نبي.. وعالم عظيم يصلى بالناس.. كان اسم النبى (زكريا) عليه السلام.. أما العالم العظيم الذى اختاره الله للصلاة بالناس، فكان اسمه (عمران) عليه السلام.
 
وكان لعمران زوجة لا تلد.. وذات يوم رأت طائرا يطعم «فرخه» فى فمه ويسقيه.. ويأخذه تحت جناحه خوفا عليه من البرد.. وذكرها هذا المشهد بنفسها فتمنت على الله أن تلد.. ورفعت يديها وراحت تدعو خالقها أن يرزقها بطفل واستجابت لها رحمة الله فأحست ذات يوم أنها حامل.. وملأها الفرح والشكر لله فنذرت ما فى بطنها محررا لله: «إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».
 
كان معنى هذا أنها نذرت لله أن يكون ابنها خادما للمسجد طوال حياته.. يتفرغ لعبادة الله وخدمة بيته، وجاء يوم الوضع ووضعت زوجة عمران بنتا، وفوجئت الأم! كانت تريد ولدا ليكون فى خدمة المسجد والعبادة، فلما جاء المولود أنثى قررت الأم أن تفى بنذرها لله، رغم أن الذكر ليس كالأنثى.
«فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ»
سمع الله سبحانه وتعالى دعاء زوجة عمران، والله يسمع ما نقوله، وما نهمس به لأنفسنا، وما نتمنى أن نقوله ولا نفعله.. يسمع الله هذا كله ويعرفه.. سمع الله زوجة عمران وهى تخبره أنها قد وضعت بنتا، والله أعلم بما وضعت، الله هو وحده الذى يختار نوع المولود فيخلقه ذكرا أو يخلقه أنثى.. سمع الله زوجة عمران تسأله أن يحفظ هذه الفتاة التى سمتها مريم، وأن يحفظ ذريتها من الشيطان الرجيم «وِإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا»
 
ويروى الإمام مسلم فى صحيحه: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِى شَيْبَةَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ إِلاَّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ»، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ (وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ).
أثار ميلاد مريم بنت عمران مشكلة صغيرة فى بداية الأمر.. كان عمران قد مات قبل ولادة مريم.. وأراد علماء ذلك الزمان وشيوخه أن يربوا مريم.. كل واحد يتسابق لنيل هذا الشرف.. أن يربى ابنة شيخهم الجليل العالم وصاحب صلاتهم وإمامهم فيها.
 
قال زكريا: أكفلها أنا.. هى قريبتي.. زوجتى هى خالتها.. وأنا نبى هذه الأمة وأولاكم بها، وقال العلماء والشيوخ: ولماذا لا يكفلها أحدنا؟ لا نستطيع أن نتركك تحصل على هذا الفضل بغير اشتراكنا فيه.
ثم اتفقوا على إجراء قرعة، أى واحد يكسب القرعة هو الذى يكفل مريم، ويربيها، ويكون له شرف خدمتها، حتى تكبر، وهى تخدم المسجد وتتفرغ لعبادة الله، وأجريت القرعة.. وضعت مريم وهى مولودة على الأرض، ووضعت إلى جوارها أقلام الذين يرغبون فى كفالتها، وأحضروا طفلا صغيرا، فأخرج قلم زكريا.
قال زكريا: حكم الله لى بأن أكفلها.
قال العلماء والشيوخ: لا.. القرعة ثلاث مرات.
وراحوا يفكرون فى القرعة الثانية.. حفر كل واحد اسمه على قلم خشبي، وقالوا: نلقى بأقلامنا فى النهر.. من سار قلمه ضد التيار وحده فهو الغالب.
قال تعالى: «وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ»
وألقوا أقلامهم فى النهر، فسارت أقلامهم جميعا مع التيار ما عدا قلم زكريا.. سار وحده ضد التيار.. وظن زكريا أنهم سيقتنعون، لكنهم أصروا على أن تكون القرعة ثلاث مرات، قالوا: نلقى أقلامنا فى النهر.. القلم الذى يسير مع التيار وحده يأخذ مريم، وألقوا أقلامهم فسارت جميعا ضد التيار ما عدا قلم زكريا، وسلموا لزكريا، وأعطوه مريم ليكفلها.. وبدأ زكريا يخدم مريم، ويربيها ويكرمها حتى كبرت.
 
كان لها مكان خاص تعيش فيه فى المسجد.. كان لها محراب تتعبد فيه.. وكانت لا تغادر مكانها إلا قليلا.. يذهب وقتها كله فى الصلاة والعبادة.. والذكر والشكر والحب لله..
وكان زكريا يزورها أحيانا فى المحراب.. وكان يفاجئه كلما دخل عليها أنه أمام شيء مدهش.. يكون الوقت صيفا فيجد عندها فاكهة الشتاء.. ويكون الوقت شتاء فيجد عندها فاكهة الصيف.
ويسألها زكريا: من أين جاءها هذا الرزق؟
فتجيب مريم: إنه من عند الله.
وتكرر هذا المشهد أكثر من مرة.
«كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا»
كان زكريا شيخا عجوزا ضعف عظمه، واشتعل رأسه بالشعر الأبيض، وأحس أنه لن يعيش طويلا.. وكانت زوجته وهى خالة مريم عجوزا مثله ولم تلد من قبل فى حياتها لأنها عاقر.. وكان زكريا يتمنى أن يكون له ولد يرث علمه ويصير نبيا ويستطيع أن يهدى قومه ويدعوهم إلى كتاب الله ومغفرته.. وكان زكريا لا يقول أفكاره هذه لأحد.. حتى لزوجته.. ولكن الله تعالى كان يعرفها قبل أن تقال.
سأل زكريا خالقه بغير أن يرفع صوته أن يرزقه طفلا يرث النبوة والحكمة والفضل والعلم.. وكان زكريا خائفا أن يضل القوم من بعده ولم يبعث فيهم نبي.. فرحم الله تعالى زكريا واستجاب له، فلم يكد زكريا يهمس فى قلبه بدعائه لله حتى نادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب: «يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا»
فوجئ زكريا بهذه البشرى.. أن يكون له ولد لا شبيه له أو مثيل من قبل.. أحس زكريا من فرط الفرح باضطراب.. تساءل من موضع الدهشة: «قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِى غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِى عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا» أدهشه أن ينجب وهو عجوز وامرأته لا تلد.. «قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا»
أفهمته الملائكة أن هذه مشيئة الله وليس أمام مشيئة الله إلا النفاذ.. وليس هناك شيء يصعب على الله سبحانه وتعالى.. كل شيء يريده يأمره بالوجود فيوجد.. وقد خلق الله زكريا نفسه من قبل ولم يكن له وجود.. وكل شيء يخلقه الله تعالى بمجرد المشيئة.
«إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».. امتلأ قلب زكريا بالشكر لله وحمده وتمجيده.. وسأل ربه أن يجعل له آية أو علامة:
«قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّى آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا»
أخبره الله أنه ستجيء عليه ثلاثة أيام لا يستطيع فيها النطق.. سيجد نفسه غير قادر على الكلام.. سيكون صحيح المزاج غير معتل.. إذا حدث له هذا أيقن أن امرأته حامل، وأن معجزة الله قد تحققت.. وعليه ساعتها أن يتحدث إلى الناس عن طريق الإشارة.. وأن يسبح الله كثيرا فى الصباح والمساء.
 
وخرج زكريا يوما على الناس وقلبه مليء بالشكر.. وأراد أن يكلمهم فاكتشف أن لسانه لا ينطق.. وعرف أن معجزة الله قد تحققت.. فأومأ إلى قومه أن يسبحوا الله فى الفجر والعشى، وساعات العشى هى الساعات التى تبدأ من صلاة العصر حتى صلاة المغرب .. وراح هو يسبح الله فى قلبه.. صلى لله شكرا على استجابته لدعوته ومنحه يحيي.
 
ظل زكريا عليه السلام يدعو إلى ربه حتى جاءت وفاته. ولم ترد روايات صحيحة عن وفاته عليه السلام.
 لكن هناك روايات - ضعيفة - أوردت قتله على يد جنود الملك الذى فيما بعد سيقتل ابنه يحيى عليهما السلام، ولكن بنو إسرائيل الذين قتلوا الأنبياء والرسل قد تآمروا على قتل سيدنا زكريا، وقد تبلّغ سيّدنا زكريا بأنّ القوم تآمروا عليه لقتله، فهرب منهم ودخل الغابة يركضُ بين الأشجار وبنو إسرائيل خلفه معهم منشار يريدون قتله وقطعه عليه السلام، رأى سيّدنا زكريا شجرةً كبيرةً فى الغابة قد فُتحت له بعد أن أذن الله عزّ وجل لها أن تُفتح ليختبى بها، ولما دخل سيدنا زكريا بها واختبأ كان إبليسُ حاضرا فأمسك بجزء من ثوب سيدنا زكريا وأخرجه خارج الشجرة، وأغلقت الشجرة على سيدنا زكريا، وبذلك دلَّ إبليسُ بنى إسرائيل على مكانه فجاء بنو إسرائيل حول الشجرة وبدأوا ينشرونها ونبيُ الله فيها، فلما وصل المنشار لجسد سيدنا زكريا أصبح يُصدر أنينا عليه السلام من الألم، فقال له الله عز ّوجلّ: يا زكريا لئن لم يسكُتن أنينك لأقلبنّ الأرض بمن فيها فسكت زكريا رحمةً بأمّته حتى لا يهلكهم الله عزّ وجلّ، ونُشر سيدنا زكريا إلى نصفين، وبذلك كانت وفاته عليه السلام، وقتل بنو إسرائيل سيّدنا زكريا والأنبياء والرسل إنما لعندهم وتكبرهم، ولأنّ أنبياء الله أتوا بما لا يتناسب مع أهوائهم لقوله تعالى (أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفُسَكم استكبرتم ففريقا كذّبتم وفريقا تقتلون).

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق