فى تشريح ما يسمى ثورة «1 - 2»
الأربعاء، 16 أغسطس 2017 08:00 ص
تأثر لوبون أبلغ التأثر بما فعلته الجماهير الفرنسية بنفسها وملوكها، وتقاليدها ونخبتها، من قتل وحرق وذبح وتخريب وانشقاق عن كنيسة روما. عاصر الأحداث الدموية لثورة يعرفها العالم بأنها وضعت الشعارات الثلاثة «الإخاء والحرية والمساواة»، عبر فيضانات من دماء الجميع، دماء مَن ثاروا ودماء مَن فى السلطة.. كنت أتابع أحداث وفصول هذه الثورة التى أعتقد أنها المعلم الأول لعصر الإرهاب، وكيف أن الشعارات التى تطلقها نخبة محرضة يمكن مع شيوع روح القطيع وانسداد العقل أن تتحول إلى مشانق ومقاصل، فجميع الثوار الذين حرّضوا على تقييد سلطة الملك لويس السادس عشر ونزع التفويض الإلهى عنه، وإلزامه بالحكم وفق الدستور المدنى، أعدموه رغم استجابته وأعدموا مارى أنطوانيت زوجته النمساوية التى وصفوها بالعاهرة، ثم لم يلبثوا أن أعدموا بعضهم البعض، تحت دعاوى أن الفضيلة تقتضى إعدام كل من كان معتدلا!، فالاعتدال خيانة والتطرف وطنية!
روبسبير كان الداعى إلى إعدام وتخوين أى شخص معتدل، وتقديس وتمييز كل من كان متطرفا، وبرزت على الألسنة تعبيرات شهدتها أحداث مؤامرة الخامس والعشرين من يناير مثل العدالة الناجزة، والمحاكم الثورية، والفلول، وحملات التطهير، وظهر فى مصر ألف روبسبير رغم أن ماكسيمليان روبسبير نفسه فصلوا رأسه عن جسده تحت نصل المقصلة ذاتها التى ذبحت أعز أصدقائه فى الثورة الفرنسية وقادتها وكبار خطبائها ومحرضيها، مثل دانتون وديمولان ومارا ومن قبلهم بليغها وخطيبها الأعظم والأول ميرابو.. كيف عرف هؤلاء المهيجون طبيعة السلوك التدميرى الجماعى للجماهير؟ الجماهير تفقد عقلها وتتحرك بالغريزة لعبادة صنم سياسى حديد مجهول يطعمها الشعارات والأوهام، الفرد الواحد عاقل فاهم محكوم بما تربى عليه، لكنه يفقد الوعى والقيود وسط الجماعة الهائجة الناقمة، فى الحالة الفردية نواجه أى دعوة للتحريض بالعقل وحساب النتائج، وسط الجمهور الغاضب، يختفى العقل ويسود الجنون، ويكفى كلمة واحدة ساحرة لكى تقود القطيع إلى قتل وسحل وحرق وهدم.. عادة تضج الصدور بالغضب، وترتفع عقيرة خطيب مفوه محقون بالغل تتلو نداء يتهم قيادة أو شخصا بالخيانة، بعدها مباشرة ترتفع حنجرة تالية مدربة لتهتف بالموت، بعدها فورا ترتفع الحناجر المليونية مدوية أن الموت لأعداء الوطن.
ثم مع القطيع تضيع فكرة العقوبة الناتجة عن انتهاك القانون، ومع القطيع تسود نزعة جماعية للسجود بالعقل والعقيدة لمن يبيع للثوار(!!!) الأوهام، لو خرج عليهم نبى بالحقيقة يدعوهم إلى التعقل والتبصر وواجههم بالحقيقة لشنقوه ورموه بالكفر!
وضع جوستاف لوبون يده على النقطة الجوهرية التى تحكم سلوك الحشود الغاضبة، ألا وهى الجبروت، جبروت يرتقى ببساطة إلى مرتبة الاستبداد، فأنت حين تطغى وتستبد، تكون ملكيتك انتقلت بالكامل لصالح الرغبة فى تأكيد رؤيتك وفرض عقيدتك الكاذبة ولو على حساب الحقيقة وبتكلفة دموية يدفعها عادة أبرياء، قال لوبون:
«لنخش إذن جبروت الجماهير، ولكن لنخش أكثر جبروت بعض الزمر وتحكمهم فينا، فالبعض قد يمكن إقناعهم أما الآخرون فلا يحيدون عن موقفهم أبدا».. وكم تحكم فينا من زمر وأفراد وقت الأيام السوداء من بعد الخامس والعشرين من يناير وحتى اليوم؟ زمر باعت الأوهام للبشر الساخطين الحالمين، وامتلأت كروشها وحساباتها البنكية بالدولارات والريالات واليوروهات وفلوس الفضائيات!
العدالة الناجزة، والإقصاء، والعزل الاجتماعى والسياسى، وتشويه الخصوم وتدمير سمعتهم وتلطيخ سيرتهم، والمحاكمات الشعبية العاجلة، والمحاكم الثورية، وتخوين من يستدعى العقل، ومن يدعو إلى الحفاظ على مؤسسات الدولة.. ألم تكن هذه جميعا وغيرها وغيرها من الأناشيد اليومية لممدوح حمزة وحمزاوى وحازم ودومة وباسم والقرضاوى وابنه والبرادعى وعبدالجليل ومرسى وبديع والإبريليين والأناركيين (الثوريون الاشتراكيون) دعاة الفوضى وحل الجيش المصرى حل الله وسطهم؟!.
وأسماء لشخصيات طعمت وبرطعت على موائد الحكام بالداخل وفى الخارج حولنا، منحها الله القدرة البارعة على الكذب اللذيذ، لدغدغة مشاعر الجماهير، ودفعها إلى الخروج، ومن هؤلاء من ألقى فى غياهب السجون ووراء القضبان، بعشرات ومئات الشرفاء، مذبوحين فى شرفهم الشخصى والمالى، ولا يزال المهيج الإثارى النارى الطبع يمارس شعوذته السياسية السادية من خلال منابر إعلامية تبث النقمة وترضى الطغمة.. الشخصية الإثارية تتمتع بخصائص فريدة، أبرزها الجاذبية الساحرة وطلاقة اللسان وتزيين الشعارات البراقة للسوقة، ولا يتخيل أحد أن ألفاظا مثل العدالة والعيش والكرامة بلا غطاء ذهبى رومانسى لدى جموع تتعطش إلى هذه المفردات وتتصور أنها قاب قوسين أو أدنى إلى النيل والتحقق بمجرد إعلان الفوضى!
لكننى مخطئ بحق! لقد كان يجب أن أطرح فرضا علميا على النحو التالى:
هل عندنا أشخاص مهيجون فى مصر؟! هل عندنا مهيجات فى مصر؟!
كلا! عندنا ملائكة بلا تجنيس نوعى، كل من لدينا ملائكة، لا ذكر ملاك ولا أنثى ملاك.. هم وهن نزلوا من باب الجنة ليملأوا أرض مصر بالبركة السوداء الحنظل!
أنتوسع فى ذكر الأسماء!؟ وفيم يفيد ذكر الأسماء إن كانت عواقب الذكر هى الوشاية التى تلقى بالواحد إلى غياهب جهنم!؟ وهل لهم سوابق فى التاريخ، هل هم مرضى؟، هل هم دعاة التطهير النفسى أم العرقى أم البدنى؟ ما الفرق بينهم وبين الدواعش؟ أين نقطة الالتقاء بين المتطرف السياسى والمتطرف الدينى؟ كلاهما ينمو من منبت واحد هو الظلامية والمظلومية، ظلامية البصيرة ومظلومية التضحية ونتيجتها هى الاعتقاد الطاغى بأن الموجود كله فاسد أو كافر أو فاسد وكافر معا، ومن ثم يتحتم تغييب العقل وإحلال الغيب وإعلاء الغريزة وتسويق الأكاذيب باسم الدين أو الدنيا.. المتطرف السياسى يبيع وهم الجنة تحت، على الأرض، والمتطرف الدينى يبيع وهم الجنة فوق فى السماء ومدلول الجنة عنده حسى جنسى محض إناثا وذكورا، لإرضاء الغرائز كافة! وهم ألعن وأضل.. الأخير يذبح مباشرة وتنتهى العلاقة مع الحياة بإراقة الدم من شريان العنق، المهيج يذبحك ويذبح أهلك جزءا جزءا، ويتلذذ بسيرتك المفضوحة لذة المنتشى ببلوغ المتعة!
هل هدأت موجات تسخيط الناس على الحكم؟ الدعاة يتنادون وقت ضعف أو خطأ أو جرأة بالغة فى قرار سياسى، ويتجبهون فى موقف واحد وشعار واحد لابتزاز رئيس الدولة، ولا يكفون طول الوقت الفضائى أو على أعمدة الصحف عن تلقين صاحب القرار فى مصر فلسفة وأصول الحكم، لم لا وهم مَن قلبوا مبارك ومن بعده مرسى، وسوابقهم ناجحة!
المهيجون هم طاعون الحقبة الحالية فى مصر، أفلتوا من العقاب، فاستمرأوا مهنة تجييش الصدور بالسخط والغِل ونفاد الصبر والتشكيك.
إخلاء المنابر الإعلامية منهم، والأعمدة الصحفية منهم، لن يكون حلا أدعوا إليه، بل هو جزء من المشكلة، لأنه لا يوجد كاتب حقيقى يؤمن بتقييد حرية التعبير المسئولة.. الحل فى مساءلتهم عما باعوا للشعب من زيف، وعما قبضوا هم من ذهب! أتصور أن تلك حسبة عادلة.