«صوت الأمة» تستعيد ذكريات طفولة نجاة الصغيرة في عيد ميلادها الـ81 (صور)
الجمعة، 11 أغسطس 2017 03:12 م
أول ما غنت «يا بتاع الدرة»
رفض والدها تعليمها في المدارس لأنها تفسد المواهب
قالت: «الواحدة لما تغني زي أم كلثوم تبقي حاجة عظيمة»
نجاة الصغيرة.. أرادت تعلم العود فحرمتها ذراعها
تسهر الليل مع أم كلثوم وفي الصباح تردد ما حفظته بالأمس
عشقت أم كلثوم وأول ما غنته لها «أراك عصي الدمع»
لن تنسى هذه الجملة «إليكم.. تخت المطربة الصغيرة نجاة»
تستعيد «صوت الأمة» ذكريات قيثارة الغناء العربي الفنانة نجاة الصغيرة، في عيد ميلادها الـ81، والذي يمر اليوم، الجمعة، 11 أغسطس، حيث نسلط الضوء على البدايات الأولى للفنانة التي شغلب قلوب البشر بصوتها الدافيء، وملامحها الملائكية.
ذكريات نجاة الصغيرة في عيد ميلادها الـ81
الصالون واسع وفخم، ومشاهير الموسيقيين مجتمعون لندوة معهد الموسيقى العربية، وفي أحد الأركان يقف تلميذ لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، يحمل بإحدى يديه حقيبة كمان، وباليد الأخرى تتعل طفلة صغيرة.
وقد جلس أمامها مدير المعهد، مصطفى بك رضا، يستمع باهتمام لما يرويه التلميذ عن موهبة شقيقته، ولما كان يتعجل العودة إلى ضيوفه، فقد قاطعه ليسألها:
-إنتِ صحيح بتعرفي تغني؟
وفورًا يتطوع شقيقها للإجابة:
-دي حافظة كل أغاني أم كلثوم.
وتشعر الصغيرة بشئ من الرهبة عندما يطلب منها مصطفى بك أن تُسمعه شيئًا مما تحفظ، فيهمس لها شقيقها بما يجعلها تبلل شفتيها بطرف لسانها وتبدأ تغني قصيدة «أراك عصي الدمع». وهنا يلتفت إليها الحاضرون جميعًا، ينظرون إليها في إعجاب، وينظر بعضهم إلى بعض في دهشة، وما إن تنتهي من الغناء حتى يحملها مصطفى بك ويظل يُقبلها وهو يقول:
-دي مفاجأة كبيرة جدًا! أنا لازم أخليها تغني في حفلة المعهد. دي معجزة!
ومنذ تلك الليلة، ونجاة تسأل شقيقها عز الدين في كل يوم عن موعد الحلفة وتقول:
-أنا عايزة أغني وأبقي زي أم كلثوم
فيبتسم ويقول لها:
-صبرك شوية.. بكرة تشوفي.
تروي نجاة لوالدها، محمد حسني، ما جرى عندما اصطحب شقيقها إلى حيث يدرس بمعهد الموسيقى، فيذكر بفخر كيف كان طفلاً مثلها عندما اصطحبه خاله إلى حيث يدرس بالمعهد الديني في دمشق، وكان الطلاب يومئذ في قاعة الدرس يكتبون نماذج من خط الثلث بالغ الصعوبة، وأراد الطفل أن يقلدهم فأمسك قلمًا وكتب حرف الكاف، ثم رفع رأسه ليجد جميع الطلاب ينظرون إلى ما كتبه بدهشة لم يستطع حينها تفسيرها.
يروي لها والدها رحلته التي نتعرف عليها في كتاب «نجاة الصغيرة» للكاتبة والباحثة رحاب، والصادر عن دار الكرمة للنشر، في القاهرة، عام 2015، حتى يصل إلى القاهرة، بعدما أقنعه صديق له يدعى محمد الهندي، بالهجرة إلى حيث نهضة الفنون والآداب، والمجال الأوسع لمزاولة الخط العربي، فيرحل إلى مصر مع نهاية عام 1912.
ومن رحلة والد نجاة الصغيرة، نعرف كيف كان الأب يفكر، ويرى مستقبل أطفاله، هو الذي لم يعلم أحدًا منهم في المدارس لاعتقاده أنها تفسد المواهب، ثمانية أبناء أذكياء موهبين، ربما لو وجد فيهم واحدًا غبيًا لما تردد في إلحاقه بالمدرسة.
فابنته الكبرى خديجة ترسم بالريشة والفحم وتجيد الحياكة والتطريز، ونبيل خطاط مثل والده، وعز الدين يدرس في معهد الموسيقى العربية، وقد تولى تعليم أشقائه على الآلات الموسيقية حتى تألف في البيت تخت صغير: عز الدين للكمان، وسميرة للعود، وفاروق للقانون. وكان الثلاثة يقيمون حفلاتهم في صالون البيت، وجمهورهم من الأهل والجيران، وقد يغني معهم شقيقهم سامي تلك الأغنيات الخفيفة التي بات عز الدين يؤلفها ويلحنها بنفسه. وكان سامي على جمال صوته، يميل إلى العزف على الكمان والعود، ولا يصبر على حفظ الكلمات وأداء الألحان بالضبط كما يريدها شقيقه.
-سامي مش عاوز لكن أنا عاوزة وغاوية.. لازم تسمعوني!.
هكذا احتجت عليهم شقيقتهم نجاة ذات مساء بعدما ألحت طويلاً كي تغني معهم من دون جدوى. وهي، على خلاف شقيقها الأصغر سامي، تحب الغناء أكثر من أي شيء في الدنيا، وتقول «إن الواحدة لما تكون مغنية كده زي أم كلثوم، تبقي حاجة عظيمة».
ونجاة ولدت قبل خمس سنوات فقط، أي في يوم الثلاثاء 11 أغسطس 1936، وكان ذلك بمنزل الأسرة، رقم 43 بشارع إبراهيم باشا، وما كادت تنطق الحروف حتى بدأت تغني.
وحدها في جانب من شرفة المنزل، تسمع أشقائها على الجانب الآخر ينادون: «يا بتاع الدرة»، فتردد وراءهم النداء منغمًا مرة، ثم تعيده أكثر من مرة بألحان مختلفة، وبانسجام شديد.
وعلى نحو لا تفهمه، تسحرها الموسيقى التي تسمعها في البيت، ثم تحاول تعلم العود مع أشقائها، فيتضح أن ذراعيها أقصر من أن تمكنها من احتوائه، وكانت مهما تضمه إلى صدرها بقوة، لا تبلغ أوتاره بأناملها.
تعلقت نجاة براديو أم كلثوم، وسهرت لياليها، فكانت تجلس لطعام العشاء ولا تأكل، ثم تأوي إلى فراشها ولا تنام، وفي الصباح تردد ما حفظته في الليل وكأنها شريط مسجل، ولما أرادت أن ترى أم كلثوم على المسرح وهي تغني، ألحت على والدها أياما كي يحملها مع أشقائها إلى حديقة الأزبكية. كان يظن أنها ستغفو في مقعدها وسط الجمهور، ولكنها ظلت طوال السهرة تشب برأسها فوق الطرابيش والعمائم فتلمح منديلاً أحمرًا تعتصره يد قوية وصوت قوي، وتجد نفسها بلا وعي، تصاحب أم كلثوم في غنائها.
في زيارتها الأولى لمعهد الموسيقى العربية، شعرت برهبة في أول حلفة لها، فقال لها شقيقها:
-غني زي ما بتغني في البيت، ولو انبسطوا منك هتبقي مطربة حقيقية.
وقبل ظهورها على المسرح بدقائق، تقف نجاة وتزيح طرف الستار المغلق بأطراف أصابعها لتطل على الصالة من خلال فرجة ضيقة، فترى أناسًا كثيرين جدًا، الكل يجلس في مكانه، ولا يوجد مقعد واحد خال، وتنشغل بهم بهم للحظات قبل أن تنتبه إلى صوت مذيع الحلفة معلنًا عن مفاجأة السهرة:
-إليكم.. تخت المطربة الصغيرة نجاة.
كتاب نجاة الصغيرة لـ رحاب خالد عن دار الكرمة للنشر
يتميز كتاب «نجاة الصغيرة» باحتوائه على أكثر من 270 صورة رائعة ونادرة بالأبيض والأسود وبالألوان، تغطي رحلة نجاة الفنية الناجحة منذ مولدها حتى الآن، بالإضافة إلى أغلفة الأسطوانات وإعلانات الحفلات والأفلام والكاريكاتيرات وأغلفة المجلات.
تفيض كل صفحة بالحياة والحكايات التي تروي سيرة هذه الفنانة الكبيرة، وتجمع أيضًا عديدًا من الأقوال لأهم النقاد والفنانين والشخصيات العامة حول المحطات المهمة في حياة نجاة الفنية.
في الكتاب أيضًا ثبت كامل ومفصل بجميع أعمال نجاة الغنائية والسينمائية. يوضح الكتاب بصورة لا تقبل الشك أهمية نجاة في مسيرة الفن العربي.
رحاب خالد
رحاب خالد باحثة إعلامية بمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار بمجلس الوزراء، حاصلة على ليسانس في الآداب من قسم الإعلام بجامعة عين شمس، جمعت بشغف على مدى سنين كل ما يتعلق بنجاة من وثائق وتسجيلات، وأسطوانات وأفلام، وبحثت في أرشيف الصحف والإذاعات العربية والتلفزيون المصري، وراجعت المصادر المتوفرة والنادرة، فتكونت لديها مادة غنية استطاعت أن توظفها ببراعة قل نظيرها، لتقدم هذا الكتاب-المرجع عن إحدى ألمع نجوم الفن في العالم العربي.