دفتر أحوال العرب

السبت، 05 أغسطس 2017 06:59 م
دفتر أحوال العرب
معتز بالله عبدالفتاح يكتب:

هذه الفترة من تاريخ منطقتنا ستكون لها تداعيات طويلة المدى، ليس فقط على مستوى علاقة الفرد بالمجتمع، أو علاقة المجتمع بالدولة، وإنما كذلك علاقة دول المنطقة بعضها ببعض وبالعالم، إن الأحداث الكبرى على مستوى العالم وجدت دائما تداعياتها على مستوى الشرق الأوسط أكثر من أى منطقة فى العالم. 
 
وإذا أخذنا الحرب العالمية الأولى كنقطة بداية، فإن التاريخ يذكر أنها الفترة التى تم فيها تشكيل حدود المنطقة السياسية وتركيبتها السكانية التى ظلت معنا منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، اتفاقات «سايكس- بيكو» ووعد بلفور، وثورة العرب على الأتراك، ثم مؤتمر سان ريمون عام 1920، كلها أعادت تشكيل المنطقة على نحو جعل المنطقة العربية ممزقة بين بريطانيا وفرنسا، وتنقسم إلى حدود لم تكن لتعبر عن طموحات ساكنى المنطقة بقدر ما كانت تعبر عن مصالح المراكز الغربية فى أوروبا. 
 
حتى حين تخلّص العالم من النظام متعدد القطبية فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، وصولا إلى النظام ثنائى القطبية أثناء الحرب الباردة كانت المنطقة ساحة دائمة للصراع بين القطبين السوفيتى والأمريكى، وكانت المواجهات الكبرى تؤكد أن المنطقة لن تتشكل بقرارات أهلها وإنما بقرارات خارجة عنها، وحين دخلنا عصر الاستقلال فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، لم تنجح قوى الاستقلال فى أن تغير فى الحدود الموروثة عن الاستعمار بقدر ما رفعت شعارات القومية ومارست القُطرية فى أوضح صورها، وجعلت شعارات الأولى ثمنا لضمان استمرار الثانية. 
 
ومن هنا تحولت السيولة- التى كانت عليها المنطقة فى أثناء الحربين العالميتين- إلى حالة صلبة، لكن مشوهة لمجتمعات لا تنطبق عليها دولها تمام الانطباق، فنجد الكرد ممزقين بين خمس دول متجاورة، وكذا الأمر بالنسبة للبربر والدروز والقبائل المتجاورة جغرافيا، والمنقسمة سياسيا، ومع زمن الثورات العربية دخلت المنطقة فى حالة «تسييل للصلب» على نحو يهدد بقاء الدول الموروثة عن الاستعمار بنفس صيغها القديمة، العراق بعد الاحتلال، وفلسطين الممزقة بين حكومتى الضفة والقطاع، والسودان الذى فقد ربعه الجنوبى، وليبيا، واليمن، وسوريا، كلها حالات مرشحة لفقدان القدرة على الاستمرار بتركيبتها السياسية والحدودية المستقرة منذ الاستقلال بسبب ضغوط، بعضها داخلى فى أعقاب الثورات والانتفاضات العربية، وبعضها خارجى بسبب تدخلات قوى إقليمية (إيران وتركيا) أو دولية (الولايات المتحدة)، الثورات، بحكم التعريف، تسير فى واحد من ثلاثة مسارات: إما استبدال أشخاص بأشخاص (مثل حالة اليمن)، أو نظام بنظام (مثل حالة مصر  وتونس)، أو بنية الدولة ببنية دولة جديدة (مثل حالة سوريا لو انقسمت البلاد). 
 
ولكن أسوأ ما فى بنية الدولة العربية أنه حتى تغيير الأشخاص أو إحلال النظام بنظام تكون له انعكاسات مباشرة على بنية الدولة، هذه التركيبة من المجتمعات العربية- باستثناءات قليلة مثل مصر وتونس-تجعل حرية المواطن وحقوقه فى تضاد مع استقلال الوطن ووحدته. العراق لن يكون العراق القوى والموحد فى مواجهة أعدائه فى المستقبل المنظور، والجيوش العربية التى تحولت إلى ميليشيات متقاتلة أو التى أصابتها جرثومة التمرد ستحتاج إلى إعادة تأهيل على مدى زمنى طويل، وفقدان المنطقة لمناعتها الضعيفة أصلا ضد تدخلات القوى الإقليمية سيجعل المنطقة ساحة لصراعات إقليمية ودولية ستتحول فيها المنطقة من «مفعول به» إلى «مفعول مطلق». 
 
وما يزيد الأمر تعقيدا أن نخب ما بعد الربيع العربى لم تصل إلى درجة التفاهم التى كانت حاضرة نسبيا فى مرحلة ما قبل الربيع العربى. قبل الربيع العربى كانت النخب متفقة على عدة قيم، على رأسها قمع الحركات الانفصالية، والتعسف فى استخدام السلطة خشية التعسف فى استخدام الحرية ورفض الديمقراطية، وعداء القوى المحافظة دينياً. ومع الربيع العربى، سال الصلب وتفتت الجامد بكل ما فيه من عيوب.

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق