العلاقات الأوروبية- الأمريكية والنديّة المرتقبة (1)
الأربعاء، 12 يوليو 2017 08:08 م
بات تقليدًا، وأضحى عرفًا، وغدا واجبًا، وعُرف التزامًا، أن يعتمر الرئيس الفرنسي المنتخب في ألمانيا غداة تنصيبه رسميًّا، وإن كان لهذا من تفسير، فهو الحرص على أوروبا قوية وموحدة، لكن هذا العام كان الاحتفاء مختلفًا والاستقبال خاصًا. لأن الذي يفْرق ويمِيز ماكرون عن غيره من أسلافه كونه عازم على إعلاء الراية الأوروبية، بمعنى استعادة النديّة الغائبة عن العلاقات الأوروبية الأمريكية.
لم تكن مناصرة ألمانيا لفارس الديمقراطية الفرنسية ماكرون في حملته الانتخابية ومؤازرته، رفاهية سياسية، ولا مضيعة للوقت، ولكن وكما يعلم الجميع، فإن الاتحاد الأوروبي تقوده كل من ألمانيا وفرنسا، ومتى كان ماكرون قد انتسب لأوروبيته وانتمى لتعزيز بقائها، وتقوية تنافسيتها، باعتبارها الحصن الحصين للأوروبيين أنفسهم، فلذلك كان التأييد الألماني لماكرون. في بحثها عن شريك فاعل وقائد شجاع، تلمّست ألمانيا في فارس الديمقراطية الرئيس الشاب، أوروبية أصيلة، وهوى اتحادي، وإرادة فاعلة.
لقد عان الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة من تبعيّة ساركوزي الممقوتة لأمريكا، بحيث أضحى وبحق كما قال البعض، أن القرار الفرنسي يُتخذ في واشنطن وينفذ في فرنسا. مرورًا بمرحلة البيات السياسي للرئيس هولاند، وذلك ما أتعب ألمانيا المستقلة كثيرًا. ولعلّنا نلحظ استعدادًا فطريًا، وإعدادًا سياسيًّا لماكرون في قيادة القارة العجوز والتي وبحق بدأت طور التجديد والتشبيب ولن تعد بعد اليوم قارة عجوز!
غالب الحال أن ماكرون سيسحب البساط من تحت قدميّ ألمانيا وسوف يقود هو الزعامة الأوروبية، ولا أظن لذلك غصة في حلق الألمان، فالألمان ما يشْغلهم هو الوقوف في وجه صلف وتعنت واستقواء الأمريكان، ولا يهم إذا ما كانوا في الصدارة أم حمل الراية الأوروبية شريك مُخلص وفاعل قوي، موثوق فيه، تشكل الأوروبية كرات دمه الحمراء.
دوافع ألمانيا وسعيها الحثيث لتكوين تكتّل قوي، يعزى أيضًا إلى فضائح التنصت الأمريكي عليها وعلى باقي دول الاتحاد الاوروبي، يضاف إلى ذلك قبوع المنبوذ مسلكًا والجاهل سياسيًا، ترامب على رأس البيت الأبيض.
لعلّ ملامح الاستقلالية والانتماء للأوروبية ظهرت بوضوح عندما أعلن المراهق السياسي والمتصابي الاقتصادي ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ يونيو الماضي، كشّر الرئيس الفرنسي الشاب عن أنيابه، واستنكر وبشدة مثل تلك خطوة، لكنه لم يفعل مثل العرب، فهؤلاء الأخيرين أقصى ما يمكن فعله هو الشجب والإدانة والاستنكار، بينما الديمقراطيات العريقة، تتخذ من تلك ردود، الحد الأدنى. ممتطيًا جواده الأوروبي، شاهرًا سيفه النابليوني، وقف ماكرون مدليًا بتصريح ناري ضد سياسة ترامب، لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أبعد مدى، وأقوى تأثيرًا، إذ خاطب العلماء الأمريكيين وبالإنجليزية ودعاهم بأن يأتوا لاستكمال أبحاثهم المناخية في فرنسا وبتمويل فرنسي، ولعلّنا نقرأ في تلك الدعوة ما يمكن تسميته بالغزو السياسي الفرنسي للولايات المتحدة، إذ هزم ماكرون، ترامب، وفي عقر داره، في بيته الذي كان يومًا أبيضًا.
درج العرف الفرنسي على دعوة رئيس دولة أجنبية للاحتفال بالثورة الفرنسية 14 يوليو من كل عام، لدعوة ماكرون لترامب لحضور احتفالات الثورة يوم 14 يوليو، بالغ الأثر إذ صرّح المتحدث باسم قصر الإليزيه بأن دعوة ترامب للاحتفالات إنما كانت بهدف كسر عزلته، في مقال قادم، نتناول دلالة تلك الدعوة ونبحث في باعثها، وكيف أنها تجسد وبحق نديّة حقيقية للولايات المتحدة، سيّما وأنها أتت عقب إعلان ترامب انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ. بوسعنا القول بأن القيادة الفرانكوألمانية للاتحاد الأوروبي قد استعادت نديتها مع الولايات المتحدة، قادم الأيام، ومُقبل الأحداث، سيحملون لنا الكثير والكثير، بعد أن انقشعت غيمة التطرّف اليميني، وانتصر الفرنسيون جميعًا لأوروبيتهم، وأتوا بشاب ذو طموح غير مسقوف لسدة الحكم.
شسوع فرق بين الرغبة في الصالح العام والعمل من أجل الشعب، وتوعيته والأخذ بيده لمصاف الصدارة وتسيّد العالم، وبين الرغبة في تجهيل الشعوب وتغييب العقول، واللهث خلف الصوالح الشخصية، وتأليه النفس والدعوة لعبادتها، فرق بين من يستنهض همم شعبه، ويستنفر قواهم، وبين من يُهين عقولهم ويسفّه أراءهم.
باتكائه على الديمقراطية، وباستناده لإرادة شعبه، على صوته وسلّ سيفه، وقوي حديثه، ومضت كلمته، وَقّاد أمته، واحترم شعبه، والسؤال الذي يفرض نفسه ويتبادر إلى الذهن: هل لنا يومًا الدفع بشاب مدني لسدة الحكم؟ هل لنا يومًا أن نفتخر ونتفاخر بشبابنا في الحكومة وهياكل الدولة؟ هل لنا يومًا أن نستعيد قيادة الوطن العربي ونتسنّم من جديد ريادته؟ إلى ذلك الحين، وإلى أن يبلّغنا الله إياه، نبقى ببحث ودراسة تجارب الآخرين والاستفادة منها، ونقل ما يتوافق ومجتمعنا.
في ارتشافنا لعسل النحل المصفّى ونحن نتابع اللعبة الديمقراطية الأوروبية، وكيف أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو بهم خصاصة، وهم من أعراق وأجناس مختلفة، ولغات متعددة، وماض أبى إلا أن يكون دمويّا، وكيف أنهم يُعلون من شأن الاتحاد، وتوطيد علاقاته البينية وتقوية وشائجه، والاصطفاف خلف هدف واحد، ألا وهي مصلحة الأوروبيين، حقّ لنا أن نغمض أعيننا، ونحن أبناء الأصل الواحد، والتاريخ الواحد، والألم الواحد، والأمل الواحد، والدين الواحد، واللغة الواحدة، لدرجة أني ظننت أن الرقم واحد ليس له من وظيفة ولا من دلالة ولا من إشارة إلّا إلى الوطن العربي، ونحلم باليوم الذي تجتمع فيه كلمتنا، وتتحد فيه أهدافنا، ونعي قيمة ودلالة الواحد، حقّ لنا أن ننعم برغد الوحدة، وأن نؤمّن لأولادنا وأحفادنا عيشًا كريمًا، وجبهة موحدة في ظل ما يموج به بحر الواقع ومحيط الحاضر من مخاطر محدقة، وتهديدات حالّة.
دعونا نحلم..
يُتبع..