فى قلب القاهرة الفاطمية، يقع واحد من أشهر ميادين مصر الذى تشرف باسم صاحبة المقام العالى، واحتضن واحدًا من أقدم مساجد المحروسة، يأتى إليه عشاق آل البيت من كل حدب وصوب. هنا مسجد السيدة عائشة وهى بنت جعفر الصادق ابن الإمام محمد الباقر ابن الإمام على زين العابدين ابن الإمام الحسين ابن الإمام على بن أبى طالب كرم الله وجهه ورضى عن الجميع، وهى أخت الإمام موسى الكاظم. عند بداية الطريق إلى مدينة المقطم أعيد بناء المسجد الكبير على يد الأمير عبدالرحمن كتخدا فى القرن الثامن عشر ويتكون المسجد من مربع يتوسطه صحن وتحيط به الأروقة، وما يسترعى النظر فى رواق القبلة، أن المحراب لا يتوسط جدار القبلة، وإنما يقع فى الركن الجنوبى الشرقى للجدار ومثل هذه الظاهرة موجودة فى مشاهد الموصل التى بنيت فى العصر السلجوقى ويوجد بالواجهة الغربية للمسجد بابان بينهما المئذنة التى لم يبق منها سوى الدورة الأولى وقد كتب على الباب البحرى ما نصه:
مسجد أمه التقى فتراه * كبدور تهدى بها الأبرار.
ذو عباد الرحمن قد أرخوه * تلألأ بجبه الأنوار.
وكتب على الباب القبلى ما نصه:
بمقام عائشة المقاصد أرخت/ سل بنت جعفر الوجيه الصادق.
لم يمهل الله السيدة عائشة بنت جعفر الصادق عمرا طويلا، لكن سيرتها الطيبة ممتدة عبر العصور، فكانت فقيهة عالمة زاهدة، وكان نور علمها سراجًا وهاجًا منيرًا لكل سائل ومريد طالبًا التعطر بعلوم النبوة، فقد لقب أبوها الإمام جعفر بالصادق، فقد أجمع مؤرخون أنه كان مستجاب الدعوة لا يطلب من الله شيئا إلا وجده إلى جانبه. ويقول عنه العارفون «جعفر الصادق ثقة لا يسأل عنه»، وصاحب مدرسة فريدة فى العبادة والدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة حيث اشتهر منهجه الدعوى للإسلام بالحلم والسلم والسلام ومن أقواله: من أراد عزاَ وهيبة بلا سلطان فليخرج من ذل المعصية إلى عز الطاعة.. وأيضا: إذا بلغك عن أخيك ما تكره فاطلب له من عذر إلى سبعين عذراً فأن لم تجد له عذراَ فقل لعل له عذراَ لا أعرفه.
طرفا نسل رسول الله من الحسن والحسين تجمعا فى هذا البيت حين تزوج شقيقها سيدنا إسحق المؤتمن بن جعفر الصادق من السيدة نفيسة حفيدة سيدنا الحسن، وبعدما تجمعت كل رؤوس العلم فى بيت الإمام جعفر الصادق أخذت عروس آل البيت تنهل من نهر العلوم الفقهية والإنسانية والإسلامية الذى جرى سريانه فى بيت تلألأت فيه أنوار النبوة المشرفة فى قلوب ورثة العلوم المحمدية عن خير خلق الله أجمعين من ولد أدم إلى يوم الدين وعلى هذا الحال دأبت السيدة عائشة فى نهل العلوم ضحاها حتى عشاها بما من الله عليها من فيض علوم القرآن وتستقى أيامها تحت ظلال الرحمن الذى وهبها من العلم والتقوى الكثير والكثير فكانت نجمة مضيئة بين نجوم بيت النبى يشار لها بالبنان ويسأل عنها كل متعطش لعلوم القرآن.
كانت مصر على مر التاريخ ملتقى أهل بيت رسول الله الكرام ومقصدا، فقد أتت السيدة عائشة إلى مصر مع إدريس بن عبدالله المحض، بعد موقعة «فخ»، وادٍ بمكة، التى استشهد فيها عدد ليس بالقليل من أهل البيت وبعدها قصد الكثير من نسل الرسول الكريم أرض مصر هربا من بطش الخليفة العباسى وكان ذلك العام هو عام وفود آل النبى إلى أرض المحروسة وعلى رأسهم أخيها اسحق المؤتمن وزوجته السيدة العالمة الجليلة السيدة نفيسة وأبيها الحسن الأنور وإخوتها عام 145 هجريا.
وبالقرب من جبل المقطم وعند القرافة الكبيرة بمصر سكنت السيدة عائشة فكانت محور اهتمام المصريين مثلما فعلوا بالسيدة نفيسة وكانت لها لقاءات علمية فقهية تدار فى بيتها تعلم فيها قاصديه مما أفاض الله عليها من مختلف العلوم القرآنية والأحاديث والزهد والتعبداللذان كانا لها منهجا فى حياتها.. حتى اشتهرت عنها مقولتها الشهيرة التى جاءت فى جميع الكتب التى سطرت القليل من تاريخ السيدة عائشة فكانت تخاطب ربها فى دعائها قائلة «وعزتك وجلالك لـئن أدخلتنى النار لآخـذن توحيدى بيدى فأطــوف بــه على أهـل النار وأقـول: وحدته فـعذبنى».
ومما تدل عليه مناجاتها لرب العزة أنها كانت عابدة قانتة حافظة لكتاب الله مما جعلها شديدة الثقة فى حسن عبادتها وهو ما اشتهر عن إخلاصها الشديد فى عبادتها.
وبالنظر إلى اسم السيدة عائشة سنجده اسما فريدا فى تاريخ نسل آل بيت رسول الله الكرام حتى ظن البعض من أهل مصر أن مقام السيدة عائشة بميدانها الشهير هو لزوج النبى المختار عليه الصلاة والسلام السيدة عائشة بنت أبى بكر الصديق الخليفة الأول لرسول الله بعد أدائه للأمانة واستكماله للرسالة.. حيث لم يكن من اعتياد آل البيت إطلاق اسم عائشة أو حتى تلقيبهن بهذا الاسم.. وذلك لما يرجعه البعض للخلاف الذى وقع بين السيدة عائشة بنت أبى بكر وسيدنا على بن أبى طالب كرم الله وجهه.
ولكن لأن آل البيت فى ذلك الوقت وفى إمامة الإمام جعفر الصادق وهو العابد المطيع فلم يجد حرجا فى كناية ابنته بلقب راوية الحديث وزوجة خير خلق الله أجمعين النبى المصطفى الأمين محمد بن عبدالله صلوات الله عليه وسلم، وفى كتب السير والتراجم التى ترجمت وكتبت فى تاريخ أحفاد رسول الله وكما يقول الشبلنجى فى كتابه المشهور «نور الأبصار» إن السيدة عائشة كان هذا الاسم لقبا لها وليس اسما حقيقيا وإنما اسمها الحقيقى هو «أم فروة» أو العكس وهو تيمنا بجدتها الكبرى لأم أبيها أم فروة بنت القاسم بنت محمد بن أبى بكر الصديق رضى الله عنهم جميعا.
ولقد توفت السيدة عائشة بنت جعفر الصادق رضى الله عنهما فى نفس العام 145 هجريا الذى جاءت فيه إلى مصر مما جعل من سيرتها بمصر وحياتها بها شيئًا يعجز المؤرخون من الكتابة عنه، حيث قيل أنها توفيت صغيرة فى بدايات العشرين من عمرها ولم تتزوج ولكن بعض المؤرخين قالوا إنها تزوجت من خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز حفيد سيدنا عمر بن الخطاب حينما كان واليا على المدينة المنورة وكانت لم تأت إلى مصر فى ذلك الوقت ولكن هذا الرأى ضعيف وذكره القليلون.. بينما أجمع كثيرون على أنها لم تتزوج فى حياتها وتوفيت فى سن العشرين من عمرها أو سن الثالثة والعشرين ولم تتزوج ولذلك يطلق عليها العامة والخاصة «عروس آل البيت».
أكدت غالبية المصادر التاريخية أنها ماتت دون زواج وذلك لما أكدته كتب التاريخ والسيرة بأنها ماتت قبل أن تتزوج ولذلك فقد اعتبرها البعض إحدى صاحبات باب الزواج فتزورها كل صاحبة حاجة فى زواجها.
بينما اشتهر مقام السيدة عائشة بين سكان دول الخليج بأنها صاحبة باب الحج والعمرة فى مصر أى أن من أراد أن يمن الله عليه بالحج أو العمرة وزيارة المسجد النبوى الشريف فعليه بكثرة زيارة مقام السيدة عائشة فى مصر، لما جعل الله فى مقامها استجابة للدعاء بزيارة المسجد الحرام بمكة والمسجد النبوى بالمدينة المنورة.
وظل المقام على حاله طوال السنين حتى جاء حكم صلاح الدين الأيوبى بتأسيسه للدولة الأيوبية على أنقاض الدولة الفاطمية ولأنه كان عسكريا فقد فكر فى إقامة سور حول عواصم مصر الأربعة للحماية ضد الهجمات العسكرية من المغيرين على الدولة الإسلامية مثلما فعل ببناء القلعة المعروفة حتى يومنا هذا وحينما تم تشييد السور حول القاهرة قطع طريق السور قبة مقام السيدة عائشة من ناحية القرافة.. وهنا نسأل أنفسنا ماذا فعل صلاح الدين الأيوبى بقبة مقامها.. هل هدمها.. هل نقل رفاتها؟
الإجابة أبدا ما كان ليفعل ذلك لما يعرفه من قدر وعظمة آل البيت وإنما قام بتوسعة القبة وتجديدها وأنشأ بجوارها مدرسة وفتح فى السور بابا سماه باب السيدة عائشة وهو ما يعرف الآن بباب القرافة.
حاز مسجد السيدة عائشة شهرة كبيرة حتى أطلق اسمها على أحد أكبر ميادين القاهرة على اسم مسجدها وكأن الله أراد أن يجعل من السيدة عائشة المتوفاة صغيرة علامة بارزة من علامات آل البيت فى مصر، ولعل من الطريف أن مكان مسجدها الحالى كان كثيرا ما تصطدم السيارت الكبيرة القادمة من طريق المقطم والقطامية «طريق السويس» وتحديدا ليلا ببعض البنايات المجاورة للمسجد وأيضا كانت تطال السور الخارجى للمقام بعض الحوادث فما كان من الدولة إلا أنها اهتمت بالمسجد وجددته وأحاطته بسور حديدى وقسمت الميدان من الناحية المرورية بحيث لا يقع المسجد فى مواجهة مباشرة مع سيارات النقل الكبيرة«اللورى».
ويجمع المؤرخون على قدوم السيدة عائشة إلى مصر عام «145 هـ» وتوفت بـها فقد جاء فى كتاب تحفة الأحباب للسخاوى أنه رأى قبر السيدة عائشة وقد ثبت عليه لوح رخامى مكتوب عليه هذا قبر السيدة عائشة من أولاد جعفر الصادق بن الإمام محمد الباقر بن الإمام على زين العابدين بن الإمام الحسين ابن الإمام علــى بن أبى طالب وظل مزار السيدة عائشة حتى القرن السادس الهجرى مزارا بسيطا كما ذكر فى الخطط التوفيقية لعلى مبارك يتكون من حجرة مربعة تعلوها قبـــة ترتكز على صفين من الأعمدة من المقرنصات وجاءت ترجمتها فى كتاب مشاهد الصفا فى المدفونين بمصر من آل المصطفى صلى الله عليه وسلم أنها من العابدات المجاهدات القانتات والمسجد الآن يقع فى الميدان المسمى باسمها وهو الموصل إلى المقطم جهة الشمال الساير الى الإمام الشافعى والبساتين وجهة اليمين إلى السيدة نفيسة والإمام الليثى ومدينة الفسطاط وقد أعاد بناءه الأمير عبدالرحمن كتخدا وزير الأوقاف فى القرن الثامن الهجرى.
وكتب على باب القبـــــة:
لعائشـــــة نـور مـضىء وبـهجــة وقبتها فيها الــدعاء يـجــاب
وقد تحقق المرحوم أحمد زكى باشا من وجود جـثمانها الطاهر بالضريح فنادى على رؤوس الأشهاد بقوله «إن المشهد القائم فى جنوب القاهرة لاسم السيدة عائشة النبوية هو حقيقة متشرف بضم جثمانـها الطاهر وفيه مشرق أنوارها ومهبط البركات بسببها» وقد قامت الدولة بتجديده تجديدا شاملا فنقلت له أحجار مسجـد أولاد عنان والمعروف الآن بمسجد الفتح برمسيس كما نقلت لها المقصورة النحاسية التى كانت على قبر السيدة زينب رضى الله تعالى عنها «وكأنما أهدتها عمتها الكبرى رداء كسوتها لتنال من عظيم قدرها وشهرتها».