الشيخ محمود الشحات.. صوت تدنومنه الملائكة
الأربعاء، 21 يونيو 2017 12:00 معبد الفتاح علي
ابن الأزهر الشريف، وابن «أمير النغم»، وابن النيل الذى يروى ظمأ القلوب قبل ظمأ الأرض العطشى للماء القادم من الجنة
الوهابية لم تقف مكتوفة الأيدى بسحب البساط من تحت ألسنتها الجافة، فسنت سكاكينها، واتهمته باطلا بالتشيع والفتنة
بعد بيعة العقبة الأولى بعث النبى مصعب بن عمير إلى المدينة، فجلس فى بستان، وحوله أناس يستمعون إليه، وبينما هم كذلك، كان أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ زعيما قومهما يتشاوران فى أمر مصعب بن عمير الذى جاء يدعو إلى دين جديد.
فذهب أسيد إلى مصعب غضبان، وقال له: ما جاء بك إلى حيِّنا (مدينتنا)، تسفه ضعفاءنا)؟ اعتزلنا، إذا كنت تريد الحياة. فقال له مصعب: أَوَ تَجْلِس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره؟ فقال أسيد: لقد أنصفت، هاتِ ما عندك.
فراح مصعب يقرأ عليه آيات من القرآن، ولم يكد ينتهى حتى صاح أسيد قائلاً: ما أحسن هذا الكلام وأجمله، كيف يصنع من يريد أن يدخل فى هذا الدين؟ فقال له مصعب: تشهد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وذات ليلة أخذ أسيد يقرأ القرآن، وفرسه مربوطة بجواره، فهاجت الفرس حتى كادت تقطع الحبل، وعلا صهيلها، فسكت عن القراءة فهدأت الفرس ولم تتحرك، فقرأ مرة ثانية فحدث للفرس ما حدث لها فى المرة الأولى، وتكرر هذا المشهد عدة مرات، فسكت خوفًا منها على ابنه الصغير الذى كان ينام فى مكان قريب منها، ثم نظر إلى السماء فإذا به يرى غمامة مثل الظلة فى وسطها مصابيح مضيئة، وهى ترتفع إلى السماء.
فلما أصبح ذهب إلى الرسول وحدثه بما حدث، فقال له النبي: (تلك الملائكة دنت (اقتربت) لصوتك، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم).
عبر قرون عديدة من الله على عباده بأصوات ملائكية كصوت أسيد بن حضير، مثل عبدالباسط عبدالصمد، محمود خليل الحصرى، محمود على البنا، محمد صديق المنشاوى، ومصطفى إسماعيل، وكان آخرها صوت الشيخ محمود الشحات.
هو أحدث مقرئى مصر سنا وأكثرهم شهرة بين دول العالم، ويحمل فى قلب صوته إيمان المصرى الوسطى، حاملا كتاب الله مجودا ومرتلا، يغرى النفس بسماعه، يجذب الوجد للخشوع المتناهى.
لما لا وهو ابن الأزهر الشريف، وابن القارئ المحترف الشحات أنور، الذى احتضنته جدران مسجد الرفاعى، وابن النيل الذى يروى ظمأ القلوب قبل ظمأ الأرض العطشى للماء القادم من الجنة. كان معروفا بلقب «أمير النغم».. توفى منذ ثمانى سنوات فقط.. بعد أن حقق انتشارا كبيرا فى عالم التلاوة.. بل إن البعض يرى أنه صاحب مدرسة خاصة.. ولم يحصل على الإجازة من أول مرة، لكنه درس الموسيقى فى المعهد لعامين، ثم دخل الاختبار مجددا، لينجح بامتياز فى عام ١٩٧٩.
وكما كان والده ملكا متوجا فى حضرات القراءة فى الريف فى سبعينات وثمانينات القرن الماضى، بات الشيخ محمود ملكا متوجا فى حضرات القراءة فى العالم، من جنوب أفريقيا إلى فرنسا وإنجلتراـ ومن إيران وباكستان إلى الولايات المتحدة الأمريكية، لتجتمع قارات الأرض الخمس على الخشوع الربانى، والبكاء من حلاوة الصوت، الذى يريك وأنت جالس مقعدك فى الجنة.
الوهابية لم تقف مكتوفة الأيدى بسحب البساط من تحت ألسنتها الجافة، فسنت سكاكينها، وجهزت قوائم الاتهامات الباطلة، علها توقف السيل الجارف من محبيه الذى يتزايدون يوما بعد آخر.
فاتهمه البعض بـ»التشيع» بعد زيارة إيران، واتهموه بالفتنة بعد أن نسى الناس أنهم فى مأتم، وأخذوا يفرحون ويبتهجون من حلاوة التلاوة.
ومع ذلك، لم يجيش الشيخ الصغير فى السن الكبير فى التلاوة، جيوش محبيه للانتقام، ولا حتى للدفاع عنه، فيكفى حب الله فيه، وتحبيب الناس فيه، دفاعا عن صوته الذى تدنو منه الملائكة، فانشغل بما يحب، وبما يعشقه البسطاء، وهو الاستماع لتلاوة الذكر الحكيم.
استحق الشيخ محمود الشحات المولود فى «كفر الوزير» مركز ميت غمر بالدقهلية، أن يكون أفضل سفراء مصر فى العالم، فحوله يجلس كل جنسيات العالم خاشعة لكلام الله، الذى يدخل قلوبهم، ويدمع عيونهم، ويصفى صدورهم، ويجلى أوثان الدنيا من عقولهم.
صوت عذب رائق.. ينزلق للأسفل حتى آخر حدود القرار، وكأنه سكين فى الزبد.. ويعلو متهدجا مختالا حتى آخر نوتة فى «جواب الجواب»، والمستمعون من حفل إلى آخر كأنهم سكارى فى حضرة ذلك الشيخ، هكذا وصفه الكاتب الصحفى محمد العسيرى.
وأضاف العسيرى قائلا: نفس المشاعر التى راودتنى وأنا أستمع إليه وهو «يتلاعب بمقدرات مقام السيكا» فى إحدى قراءاته لسورة الحجرات.. هى نفسها التى ظهرت على ملامح مستمع أفريقى لم يتمالك دموعه وهى تسقط محبة وخشية وخشوعا بعدما أشبعها ذلك الصوت العذب مرواحا ومجيئا بين جنات آياته المحكمات.
وأدهشتنى الملاحظة.. فهذا الرجل الأفريقى حتما تعودت أذناه على سلم خماسى.. لا وجود فيه لأرباع التون.. يعنى المفروض أن مقام السيكا هذا يكون كالنشاز بالنسبة له.. لكنه تمايل طربا وهو يردد استحسانا.. يا الله.
وقول العسيري: أعتبره - وأنا مسئول عن اعتقادى - فتحا جديدا فى عالم التلاوة، وهذا ما يجعلنى أسأل عن وزارة الأوقاف والأزهر ووزارة الشباب والإذاعة وأهل ماسبيرو الذين أهملوا جميعا فى حق قراء مصر، البلد الذى أنجب الطبلاوى والمنشاوى ومحمد رفعت وعشرات غيرهم.
أين كل هؤلاء من الشيخ محمود الشحات؟.. لماذا لا نقدمه للناس.. ونحافظ عليه؟ فأمثاله ندرة، حتى وإن كنت أظن أن بجوار كل جذع نخلة فى الريف والصعيد مقرئا فذا.. لكن المميزين الموهوبين قلة.. لماذا لا يذهب الصديق محمد العمرى ليحصل على تسجيلات هذا الشيخ النابغة.. لتحصل «صوت القاهرة» مثلما كان يحدث فى يوم من الأيام على حقوق طبع تسجيلاته.
انتهى الاقتباس من مقال الصديق محمد العسيرى، الذى برع هو الآخر فى وصف المبدع الشيخ محمود الشحات، استمعوا له، لعلكم تنصتون.