أحبك فى.. زمن التسريبات

الإثنين، 19 يونيو 2017 09:51 م
أحبك فى.. زمن التسريبات
آمال الشرقاوي تكتب:

وجدت الأرض بقدرة الخالق، بجبالها وبحارها وأنهارها العذبة ووديانها، ولكن نحن الذين اخترنا بقاعها اليابسة، وأنشأنا عليها المجتمعات الصغيرة حتى كبرت وأطلقنا مسمى الوطن، وأخذنا نصوغ طريقة التعايش فيما بيننا، وشكلنا عليها ضميرنا الحى والميت بما تيسر لنا من أحلامنا والتى تنبع من خلال سلوكياتنا، إما أن نعجل بأجل أعمارنا النفسية والإنسانية والصحية، وإما أن نخضر الأرض من حولنا لنستنشق عبيرها الطيب، أما نحن فأخذنا نسلك مسلكًا آخر، نلقى بكل ظلاله على الطبيعة.
 
نفقت أسماك البحار، اقتلعت الأشجار، وأخذ نهر النيل يئن بعدما جعلناه مرتعًا خصبا للمخلفات، يئست الأهرامات، وبكل تبجح منا أخذنا نسخط على هذه الأرض الطيبة مهد الحضارات، ونسينا أن الوطن أنا وأنت وما صنعته أيدينا.
 
صبرت هذه الأرض ولم تشتكِ حتى أصابها الضيق، فتحول عقابها لنا بأن ترد كل ما سقيناه لها من سموم لتحولها إلى كل أنواع الأمراض التى اخترقتنا واستفحلت داخلنا.
 
لم نكتف بهذا، بل أخذنا نسرب شكوانا التى هى من صنع أفعالنا إلى العالم أجمع، دون أن يبذل أى مجهود يذكر، وكان الفضل لإعلامنا المشوه الذى ساعد على تصدير كل مظاهر القبح لدينا دون كلل أو ملل، حتى أخذ يهددنا بسياسة «العصا والجزرة»، هذا مصطلح سياسى تتخذه الدول للتهديد والوعيد وحسبما يتراءى لمصالحها الخاصة لتقتص من دول أخرى معادية، إما أن تصمت وإلا.. فأخذنا نعيش فى سجن كبير، كل منا السجان، فمن هو يا ترى المذنب؟
 
وتناسينا أننا نعيش فى عصر من أخطر العصور، حرب بلا دماء أو أسلحة ولكنها أكثر فتكًا وضراوة، وهى حرب السماوات المفتوحة وعصر الفضائيات. 
 
إذا كانت الثورة قد قامت، كما ندعى، من أجل المطالبة بالحريات، وتخيلنا أن الحرية هى التشهير وتشويه صورة الوطن إعلاميا وإخماد صوته وتسهيل مهمة اختراقه من خلال أى عدو كان، فلتذهب تلك الحريات إلى الجحيم، فلا نحزن ولا نشتكى أننا مخترقون بعدما نجحنا فى أن نخلخل نسيج هذا الوطن لنسمح للسوس باختراقه ثم نخره لتتغذى عليه الأفاعى.
 
وبدلا من أن نوفر طاقتنا ونتحول إلى مجتمع منتج، أخذنا نلعب دور الأوصياء على بعضنا البعض دون أى وجه حق، فكيف لك أن تجلدنى وأنت الزانى؟ وكيف لك أن تقطع يدى وأنت السارق وكيف لك أن تعدمنى وأنت المغتصب؟ فلا مفر من واقع تستفحل فيه كل الخطايا.
 
من منا لم يتمرد على واقعه يومًا ما، ولم ينقم على أهله آخر، ويضيق بأبنائه بعضًا من الوقت، ويتمنى لوطنه بديلاً؟!
 
من منا حياته غير مسربة؟ إذا كانت حياتنا الأمنية مسربة لبعض الأجهزة لربما نعطى عذرًا، نظرًا لدواعٍ أمنية فى ظل الظروف الحرجة التى يعيشها الوطن، أما غير ذلك من انتهاك حرمات الشعب وتسريبها بتلك الفظاظة والفظاعة وعلى مرأى ومسمع من الملأ، فمرفوض وغير مقبول لا إنسانيًا ولا منطقيًا ولا قانونيًا ولا دينيًا.
 
انظر حولك، ستجد نفسك تعلم كل تفصيلة عن مجتمعك الصغير، تسمع من نافذتك الصغيرة صراخ جيرانك وعراكهم، حتى يصلك الأنين، أبوابك ليس لها أوقات أو استئذان لقرعها، متاحة بأى وقت سواء من أنواع بعض العمالة أو من المتلصصين على حياتك من القريب أو البعيد، ينتهكون خصوصياتك، يقتحمونها حتى حارس العقار لم تنجو منه ولا البائع المتجول فى محيط منزلك، فلا تعتقد أن لك حياتك الخاصة، فقد أصبحت محض الصدفة ليس إلا.
 
أما فى العلن، وفى أزقة شوارعنا ومناطقنا فتأتيك الأصوات الملوثة والألفاظ النابية لتحتل مسامعك، فهى أعلى من أن تحجبها كل مصدات الهواء وغزارة الأمطار فى الجو.
 
فى طرق المواصلات العامة وحتى الخاصة منها، لا غضاضة بأن يسمعك الآخر شكواه وهمومه عبر الأثير أو من خلال الموبايل وهو يخاطب الآخر دون حرج منك.
 
تتجه إلى معظم المحلات للتسوق فتسمع أصوات العاملين بها من الجنسين بخلافاتهم، حتى تحصل على كم هائل من المعلومات دون أن تطلب، واللافت للنظر أنه من الصعب عليك سماع جملة واحدة تحملها المودة، لتصلك كل مشاعر الإحباط، وتصدر لك كل أنواع الطاقة السلبية.
 
فالجمال عدوى تدفعك للأمل والحياة فتحييك، أما الطاقة السلبية فهى عدوى سامة تميتك، فلو كان هناك نسبة وتناسب ما بين قبح الواقع وجماله لخلق الأمل.
 
فتحاول أن تنأى بنفسك وألا تخرج من منزلك إلا للضرورة القصوى ظنا منك أنك تريح أعصابك، فهيهات لك، فلا تحلم بالحصول على قسط من الراحة، فعندما تخلد إلى سريرك لا تسمع سوى أبواق السيارات العالية وأصوات الألعاب النارية المزعجة ومخالفات البناء ليلاً وأصوات الشاحنات التى تحمل الطوب والزلط ولا يحلو عملها إلا ليلا، فليس هناك من حسيب أو رقيب، وحتى المريض لم يرحم داخل المستشفيات وفى غرف العمليات، لتصله أصوات الممرضين والممرضات العالية وهو ما بين النوم واليقظة وقت الإفاقة من البنج، بمواضيع لا تمت لحالته الصحية بصلة، سوى عتابهم وخلافاتهم الخاصة مع بعضهم البعض والبوح بأسرار الأطباء وحتى عمل المستشفى نفسه، ثم نقول إن حياتنا مسربة، ونتعرض لمؤامرات، لا توجد دولة لا تتعرض لها، ولكن الفيصل هو الشعب بحرصه عليها، يؤسفنى أن أقول فلنغادر هذا البلد ولنترك حضارته وثرواته والذى لا نعرف قيمته بعد لغيرنا، ليصنع منه بقعة من بقاع الأرض لا تضاهيها أى بقعة أخرى.
 
ولكن كل ما نملكه بعض من الجمل الرنانة (نحبك يا مصر)، وأنا أقول لها، لك الله، فلا تحزنى أنك ثكلى، ومن يعيش على أرضك فقط كتل من اللحوم البشرية المتحركة بدهنها وعظامها.
 
ونحن فى زمن التسريبات، لو سرب التاريخ سخطى وشرود أفكارى، لحكم على بالمقصلة.
 
ولو عرف حبيبى قبل أن يغادرنى كم مشاعرى، لأصابه الندم بما تبقى من عمره، أو لربما أعذره فهو لم يقرأ رسالتى التى أرسلتها له عبر الأثير، فقد حجبها عنه الهواء الملوث، والتى أقول له فيها، أحبك فى زمن التسريبات.
 
ويبقى الحب:
 
* لقد زرعت داخلى نسيج زهور حب وردية، دون أن تكلفنى درهما من المال، والآن تسحبها منى بما لا يقدر بطائل أموال.

 

 

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق


الأكثر قراءة